التعليم عن المصالحة في العهد الجديد
الرؤية الأرثوذكسية الخاصة بالمصالحة:
يقتضي البحث في هذا الموضوع التعرف على الرؤية الأرثوذكسية للمصالحة، أي مصالحتنا مع الآب بيسوع المسيح، ومعنى المصالحة كما ورد في نصوص العهد الجديد (2 كو 5: 6-20؛ أف 2: 11-22؛ لو 15: 11-31).
التقليد الكنسي الذي تناول موضوع المصالحة، أي مصالحتنا مع الله في المسيح، أو موضوع خلاصنا أو تبريرنا في المسيح، لم يُناقش بنفس العمق الذي نوقشت به القضايا العقائدية الكبرى، ولهذا لا نجد عند آباء الكنيسة الأوائل تعليماً لاهوتيًا محددًا عن المصالحة، بل نجد نظرة شمولية تتكامل مع التقليد الكنسي العام. هذا يفسر التباين النسبي بين تعليم اللاهوتيين المعاصرين وتعليم الآباء فيما يتعلق بهذا الموضوع.
يرى الآباء أن المصالحة هي مبادرة من الله، هدفها خلاص الجنس البشري. ولم يقبلوا فكرة أن تجسد الكلمة كان فقط لمصالحة بين «رحمة الله وعدله»، إذ إن مثل هذا التوجه ليس موجودًا في اللاهوت الأرثوذكسي.
يُشير اللاهوت الشرقي إلى أن عمل الخلاص يتكوّن من ثلاث مراحل:
-
المرحلة الأولى: التجسد (tò ón أي الكائن).
-
المرحلة الثانية: الحياة الأرضية للمخلص حتى الصليب (tò eú ón أي الكائن الطوباوي).
-
المرحلة الثالثة: القيامة (tò aeí ón أي الكائن الأبدي).
وقد شرح القديس بولس البوشي (القرن 13م) هذه المراحل الثلاث بوصفها مراحل تحقق المصالحة والخلاص.
التعليم اللاهوتي الشرقي عندما يتحدث عن “المصالحة” فإنه يتبع التعاليم الابائية التي تتحدث عن خلق العالم، وعن أهمية إتحاد الإنسان بالله، وعن الهدف النهائي الذي يشتهي الإنسان تحقيقه، وهو التأله (أى الكمال)، كذلك التعليم عن استحالة عدم تحقيق خطة التدبير الإلهي، والتي كان ينبغي تتميمها بسبب سقوط الإنسان.
ثانياً: معنى المصالحة عند الآباء
في اللاهوت الآبائي، المصالحة هي العودة إلى الحالة الأولى، أي الميلاد الثاني وتجديد الخليقة. أما هزيمة الخطية فتحققت في شخص المسيح، بحسب تعليم الآباء، من خلال:
-
خضوعه الكامل للآب،
-
محاربته للجهل الديني والأخلاقي،
-
غفرانه للخطايا،
-
الإخلاء،
-
وموته على الصليب.
يقول القديس إيريناؤس:
«المسيح بواسطة موت الصليب وطاعته غفر العصيان الأول» (ضد الهرطقات 5:16).
ويقول القديس باسيليوس:
«أنشودة التعليم الإلهي الجديدة والمتجددة هي التي تُجددنا، مثلما يجدد النسر شبابه، وعندما يفنى الإنسان الخارجي، فإنه يتجدد يوماً فيوماً» (الرسائل).
ويُعلّم القديس أثناسيوس أن:
«لا تقدر التوبة أن تغيّر طبيعة الإنسان، بل كل ما تستطيعه هو أن تمنعه عن أعمال الخطية… ولهذا السبب فإن موت المسيح لا يُعتبر فقط قمة الإخلاء الإلهي، لكنه يُمثل الغلبة التي استُعلنت في عمل الخلاص، بالموت داس الموت» (تجسد الكلمة).
اللاهوت الآبائي يؤكد أن الخلاص يتطلب عمل النعمة الإلهية واستجابة الإنسان معًا. فالغفران هو عمل إلهي، لكنه يتكامل مع مشاركة الإنسان في الإيمان العامل بالمحبة.
لقد شددت التعاليم اللاهوتية الابائية في مجملها، على ضرورة تحرير الإنسان من ظلمة الخداع والجهل فطبيعة الإنسان بصفة عامة في احتياج للتربية الروحية، وتحتاج أن تتعلم كيفية السلوك في طريق الفضيلة، الذي يقودها إلى الحياة الأبدية . لقد نظر الآباء إلى حالة الإبن المتجسد في ضوء الإخلاء الإلهي، وهذا ما اكسب فكرهم رؤية مستنيرة خاصة بأهمية وضرورة ..الذبيحة فالخلاص يأتي من داخل الإتضاع، والحياة تأتي من داخل الموت. وتجاوب الإنسان مع نعمة الله، يُسمى إيمانًا ، لكنه إيمان عامل بالمحبة، كما يقول القديس بولس. هذا يتطلب عملاً مشتركا بين نعمة الله، وقبول الإنسان لهذه النعمة، أي الاستجابة لعمل الروح القدس، من خلال أعمال محددة ومواقف مُعلنه تؤكد هذه الاستجابة، وهذا يتجلى في قدرة الإنسان على المحبة.
ثالثاً: الذبيحة والنصرة
يقول القديس إيريناؤس:
«لقد صار ابن الله ابن داود وابن إبراهيم وجمع الكل في ذاته لكي يمنح لنا الحياة. كلمة الله صار جسدًا من العذراء حتى يُبطل الموت ويحيي البشر» (ضد الهرطقات 3:19).
ويرى الآباء أن موت المسيح كان في الوقت نفسه ذبيحة كفارية وانتصارًا على الموت والفساد. ويؤكد القديس أثناسيوس:
«فإن الكلمة أخذ الدينونة على نفسه وبتألمه لأجل الجميع بالجسد وهب الخلاص للجميع» (تجسد الكلمة فقرة 9).
هذا هو الإيمان الأساسي في المسيحية الأرثوذكسية: القيامة هي التي تكشف قوة الصليب وتمجده.
فموت المسيح، هو ذبيحة عن خطايانا، وهو في نفس الوقت انتصار لابن الله على الشيطان، وعلى الفساد، وعلى الموت، ويؤكد الآباء الشرقيون في كتاباتهم، على هذين العنصرين أي “الذبيحة” و “النصرة”، مع التشديد على عنصر “النصرة”، نصرة المسيح على القوات المضادة.
وبحسب تعاليم الآباء أيضا، فإن خلاص جنس البشر قد بدأ بالتجسد فالتجسد هو الأساس للعمل الخلاصي، فالله وحده هو الذي لديه القدرة على أن يُبيد القوات التي أمسكت البشر في الأسر، حيث أن الإنسان عاجز على أن يصنع هذا لذاته بقدراته الخاصة. لقد فهم الآباء موضوع الخطية كموضوع كياني، ليس فقط كمخالفة للوصية الإلهية، بل كتغرب عن الله وفساد للطبيعة. الخطية بهذا المعنى تحمل الموت، ولا يمكن أن تنفصل عن معنى الموت، ونتيجة لهذا الفهم الخاص لمعني الخطية، فإن مُعلّمي الكنيسة الشرقية، لا يواجهون أي مشكلة، عندما يُشددون على غلبة المسيح على الخطية وعلى الموت، فقد قدم ذاته كذبيحة لأجل خلاصنا وغفران خطايانا. كل عمل الله في المسيح هو عمل صفح وغفران وتجديد. وبهذه الطريقة فإن التعاليم الأرثوذكسية، ودون أن تُعطي للخطية أهمية ثانوية، تقف بعيداً عن أي تفسير أخلاقي للخلاص.
الحياة السرائرية للكنيسة الأرثوذكسية تُبنى على هذه الأساسات اللاهوتية، وتعبر عن هذه الأفكار ذاتها. في كل إفخارستيا يأتي المسيح إلى العالم، ويُبشر بإنجيل الخلاص، لكن آلامه لا تحمل فقط سمات الذبيحة، بل تحمل ملامح النصرة الممجدة على الشر. الكنيسة الأرثوذكسية لا تفصل في صلواتها بين الصليب والقيامة، لأن قبول المسيح لذبيحة الصليب هو الذي قاد إلى القيامة، فيما يتعلق بهذا السر، سر النصرة أي سر الصليب والقيامة، لا تقدم الكنيسة المصلوب وهو يصارع فوق الصليب، بل تُقدمه وهو في حالة هدوء وسلام، لكي تؤكد على أن المسيح قد أصر على أن يُقدم ذاته بإرادته ونحن في كل مرة نتناول فيها جسد ودم المسيح يقول الكاهن لكل عضو يأتي إلى التناول جسد ودم يسوع المسيح إبن إلهنا، يُعطي لمغفرة الخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه. فالإفخارستيا توصف بأنها “دواء الخلود”.
إذا نخلص من كل هذا بأن التعاليم اللاهوتية الأرثوذكسية بشأن المصالحة، تُركّز على عنصرين هامين:
1- التشديد على الملمح الخلاصي للتجسد.
2- النصرة على الخطية والموت بالصليب والقيامة.
نأتي الآن إلى بعض النصوص الكتابية المتعلقة بهذا الموضوع ورؤية الآباء لها ، وكيف تناولوها بالشرح
رابعاً: المصالحة في نصوص العهد الجديد
1. 2 كورنثوس 5: 19–21
«كان الله في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة».
يُعلّق القديس يوحنا ذهبي الفم على هذا النص قائلاً:
«لسنا نحن الذين اتجهنا إلى الله، لكنه هو الذي دعانا… لقد دعانا بذبيحة المسيح… ذبح الابن الوحيد الجنس، وبالرغم من هذا لم يكره الآب الجناة، الذين ليس فقط لم يسمعوا له، بل صلبوا الإبن وقتلوه أيضًا» (عظات على كورنثوس الثانية).
ويتابع شارحًا:
«لقد ترك البريء يُذبح عن الخطاة. وجعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا… لكي نصير نحن بر الله فيه».
2. أفسس 2: 11–22
«لأنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً…».
يقول ذهبي الفم:
«لم يرسل ملاكًا ولا رئيس ملائكة… بل أتى بنفسه ليصالح البعيدين والقريبين. النعمة واحدة للجميع» (عظات على أفسس).
3. لوقا 15: 11–32 (مثل الابن الضال)
يرى معظم الآباء الشرقيين أن الابن الضال يُمثل الخطاة الذين قبلهم المسيح، وأن الابن الأكبر يُمثل الفريسيين.
هذا المثل يُظهر مبادرة الله في الغفران واستجابة الإنسان بالتوبة.
الواضح إذا أن الفكر الآبائي فيما يتعلق بموضوع المصالحة، كان يتجه في مسار رؤية الله كأب مملوء بالمحبة نحو أبنائه.
خامساً: خلاصة لاهوتية
من خلال تحليل أقوال الآباء والنصوص الكتابية، يتضح أن المصالحة في العهد الجديد بحسب اللاهوت الأرثوذكسي تقوم على ركيزتين أساسيتين:
-
✨ التجسد كعنصر خلاصي أساسي: الخلاص بدأ بالتجسد، لا بالصليب فقط.
-
✝️ النصرة على الخطية والموت: بالصليب والقيامة، غلب المسيح قوات الشر ووهبنا الحياة.
كما أن التعليم الآبائي لا ينظر إلى المصالحة في إطار قانوني (عدالة مقابل رحمة) بل في إطار محبة الله المُخلّصة، يقول القديس إيريناؤس: «لقد صُلب ابن الله لأجل الجميع وطبع علامة الصليب على كل الأشياء لأنه كان من الضروري لذاك الذي صار منظورًا أن يُظهر علامة الصليب في كل الأشياء. وهكذا بواسطة شكله المنظور ( على الصليب ) يصير تأثيره محسوسًا في كل الأشياء المنظورة»(ضد الهرطقات 3:18).
📚 المراجع
-
الكتاب المقدس (العهد الجديد): 2 كورنثوس 5؛ أفسس 2؛ لوقا 15.
-
القديس أثناسيوس: تجسد الكلمة.
-
القديس إيريناؤس: ضد الهرطقات.
-
القديس باسيليوس الكبير: الرسائل.
-
القديس يوحنا ذهبي الفم: عظات على كورنثوس الثانية وأفسس.
-
بولس البوشي: مقالات لاهوتية (القرن 13م).
-
كتابات آباء الكنيسة عن المصالحة والخلاص.