وجدتُ من تحبه نفسي فأمسكته ولم أرخه

«وجدتُ من تحبه نفسي فأمسكته ولم أرخه»
(3: 4) 

هذه الآية فيها سرُّ نجاح الحياة الروحية كلها، وفيها سر خلاصنا. لأن الحياة الروحية كلها متوقفة على مقدار تمشكنا بالمسيح «أمسك بالحياة الأبدية» (١تي ٦ : ١٢)، أو التصاقنا به «وتلتصق به لأنه هو حياتك» (تث ۳۰: ۲۰)، أو ثباتنا فيه: «اثبتوا في وأنا فيكم» (يو ١٥: ٤). 

والرب نفسه أوضح لنا أن مقدار ثباتنا فيه هو الذي يُحدّد مقدار نجاحنا الروحي، أو مقدار الثمر الذي نأتي به: «الذي يثبت في وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير» (يو ١٥: ٥). أما الذي لا يثبت فيه فهو يكون مثل الغصن الذي يجف : ويُقطع ويُطرح خارحًا ويُلقى في النار. هذا يعني أن مقدار ثباتنا فيه هو الذي يُحدّد تقدُّم خلاصنا هو سر خلاصنا. فالخلاص كله متوقف على مقدار ثباتنا في المسيح. هذا نراه بوضوح في مفهوم الخلاص عند الآباء، فهو يتركز في مقدار اتحادنا بالله في شخص المسيح، الذي فيه اتحد اللاهوت بالناسوت اتحادا كاملاً. 

ثباتنا في المسيح هو سرُّ نجاح صلواتنا، هو سر الصلاة المُستجابة، كما قال الرب: «إن ثبتُم في وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم!» (يو ١٥: ۷) فإن كانت صلواتنا غير مُستجابة، فالسبب هو أننا لسنا ثابتين فيه . كما يجب، أي أننا لا نمسكه بدون أن نُرخيه وإن كُنَّا لا نأتي بالثمر الروحي، فهذا أيضًا معناه أننا لسنا ثابتين فيه لدرجة أن تُمسكه ولا نُرخيه. وإن كانت لا تزال فينا عيوب وما زال خلاصنا متعوّفًا، فهذا معناه أننا لم نُقدِّم أعضاءنا المريضة لتتلامس مع  للرب شخصه المُحيي فتنال منه الشفاء، بحس المبدأ الآبائي الشهير أن [ما لا يؤخذ لا يُمكن أن يُشفى] أي أن ما لا يأخذه منا المسيح لا يُمكن أن يُشفى. 

فالمطلوب منا هو أن نُقدِّم أعضاءنا المريضة مع كل عيوبنا وضعفاتنا للمسيح حتى تتلامس مع شخصه المُحيي فتنال منه الشفاء. هذا هو سر الخلاص، أو هو مُجمل مفهوم الخلاص. فعلى سبيل المثال، إن جعلنا نفوسنا المُتكبّرة تتلامس مع نفس المسيح الوديعة المتواضعة، فلا بد أنها تستمد منه الوداعة والتواضع ولو جعلنا جسدنا الشهواني يتلامس مع جسده القدوس، فلا بد أن يستمد منه القداسة والطهارة. وهكذا بالنسبة لكل واحدة من ضعفاتنا، إذا ما تلامست مع كيانه الإلهي لا بد أن تُشفى وتتطهر وتتقدَّس. وهذا هو مُجمل مفهوم الخلاص عند الآباء أن خلاصنا يتقدم بمقدار تلامسنا مع الرب. وهذه هي أهمية الآية التي نتكلم عنها اليوم: «وجدتُ من تحبه نفسي، فأمسكته ولم أرخه». 

«وجدت» 

وجدتُ تعني لقيت لقيت لقية، فصرتُ فرحًا بها مدى الحياة المسيح يُريد أن تكون علاقتنا به ،هكذا كمن وجد شيئًا ثمينا جدًا، فصار فرحًا به مدى الحياة، وقد أشار إلى ذلك في مثل الكنز المُخفَى في حقل: «يُشبه ملكوت السموات كنزا مُخفي في حقل، وجده إنسانُ فأخفاه ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل» (مت ٤٤:١٣). وفي مثل آخر يقول: «أيضًا يُشبه ملكوت السموات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة، فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى وباع كل ما كان له واشتراها» (مت ١٣: ٤٥-٤٦). فالرب يريد أن تكون علاقتنا به حارة بهذا المقدار كمن وجد شيئًا ثمينا جدًا فمن الفرح يبيع كل شيء ليقتنيه، ويظل فرحًا به مدى الحياة. 

وكلمة «وجدت» لو تعمقنا معناها نجد فيها سرّ الكلمة الأخيرة من الآية: «ولم أرخـه» لأنه لو كانت علاقتنا بالرب بالحقيقة كمن وجد لقية ثمينة جدًا ونادرة، وصرنا فرحين بما وجدناه فسنظل في هذا الفرح وهذه الحرارة مدى الحياة، فلا نرخيه ولا يُصيبنا الملل ولا الفتور ولا التهاون.

كما أن المعنى نفسه كرّره الرب في قوله: «ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه» (مت٧: ١٤). إنه هو نفسه الباب وهو نفسه الطريق، وما أعظم حظ الذين يجدونه، وكأنما المسيح يقول لنا: اعتبروا أنفسكم محظوظين جدًا أنكم وجدتموني أنا الباب وأنا الطريق، لأن قليلين هم الذين يجدونني. فإن كنا نلنا هذا الحظ أننا وجدناه، فيجب أن نتمسك به مدى الحياة ولا نرخه 

«من تُحبُّه نفسي» 

هذه العبارة أعمق من مجرَّد القول «من أُحبُّه»، لأن «من تُحبُّه نفسي» تعني أن محبتي له محبة عميقة تنبع من أعماق النفس محبة أعمق مما أستطيع أن أُقدِّمه بمجرد الإرادة الواعية. 

وعلى مقدار محبتنا للمسيح يتوقف مقدار انسكاب النعمة فينا. يقول ق. بولس: «النعمة مع جميع الذين يُحبُّون ربنا يسوع المسيح في عدم فساد» أ(ف ٦: ٢٤). فإذا كُنَّا نريد أن نأخذ النعمة، فعلينا أن نعتني جدا بحبنا للمسيح، أن تمسكه ولا ترخيه، لأن النعمة مع الذين يُحبُّون ربنا يسوع المسيح. وهناك آية أخرى تُبيّن ما يُصيبنا إن أهملنا ذلك: «إن كان أحدٌ لا يُحب ربنا يسوع المسيح فليكن أناثيما!» ( ١كو ١٦: ٢٢)، فالذي لا يتمسك بمحبة الرب مصيره الحرمان والهلاك ! لذلك فإن مقدار محبتنا الشديدة الحارة للرب يسوع هو الذي يجلب علينا النعمة، وهو الذي يحفظنا من الضلال. 

«فأمسكته ولم أرخه» 

معنى كلمة «أمسكته» جاء في العهد الجديد بثلاثة تعبيرات: 

+ «أمسك بالحياة الأبدية» (١تي ٦: ١٢). 

+ «اثبتوا في وأنا فيكم» (يو ١٥: ٤). 

+ «من التصق بالرب فهو روح واحد» (١كو ٦: ١٧). 

وهذا التعبير الأخير «الالتصاق بالرب» مأخوذ أصلاً من العهد القديم: 

+ «تحب الرب إلهك وتسمع لصوته وتلتصق به لأنه هو حياتك» (تت ۲۰:۳۰). 

فمقدار تمشكنا به ومقدار ثباتنا فيه ومقدار التصاقنا به هو الذي يُحدّد مقدار نموّنا في الخلاص، هو سر خلاصنا. لأن الرب هو «شمس البر والشفاء في أجنحتها» (مل ٤: ٢). فهو الذي يكمن فيه سرُّ ،خلاصنا وبمقدار ما نتمسك به، ننال منه الخلاص. 

يقول ق . كيرلس في شرحه للآية: «والكلمة صار جسدا» (يو ١: ١٤) إننا نجد في شفّي هذه العبارة، أي الكلمة ،والجسد اتحاد الطبيب بالمريض، اتحاد الدواء بالجسد المجروح، لأن «الكلمة» هو الدواء و«الجسد» هو المجروح؛ أو اتحاد الحياة بالذي مات لأن الكلمة هو الحياة و«الجسد» هو الذي مات. ففي اتحاد «الكلمة» بـ «الجسد» يكمن سرُّ خلاصنا، سرُّ اتحاد الطبيب بنا نحن المرضى، سر اتحاد الدواء بالمجروحين، سر اتحاد الحياة بالموتى. 

يقول ق. ذهبي الفم: 

[فلنتقدم إليه بإيمان نحن المرضى، 
فإن كان الذين لمسوا هدب ثوبه فقط قد نالوا منه موهبة هكذا عظيمة
فكم بالأحرى ينال منه الذين يحصلون عليه كله ؟!]

عظة ٣:٥٠ في تفسير إنجيل ق. متى (١٤: ٣٦)

وبنفس المعنى يقول ق. كيرلس الكبير : 

[فإن كان بمجرد لمس جسده كان يُحيى ما قد فسد،
فكيف لا ننتفع نحن بغنى أكثر جدا من التناول المحيي؟ 
فحينما نتناول نحن هذا الجسد (وليس فقط نلمسه) 
فإنه يُغيّرنا بالتمام نحن المتناولين منه إلى امتيازه الخاص
الذي هو عدم الموت]. 

تفسير يو ٦: ٥٣

ويُبيّن .ق. كيرلس أيضًا ما يعمله الرب فينا حينما «نمسك به»: 

[ حينما يحل المسيح فينا
فهو يُسكّن ناموس الخطيئة الثائر في أعضاء جسدنا، 
ويُضرم فينا مشاعر التقوى نحو الله 
ويميت ،شهواتنا ولا يحسب علينا تعدياتنا 
بل بالحري يشفينا منها كمرضى 
فهو يجبر فينا المكسور، ويقيم الساقط، 
كراع صالح قد وضع نفسه عن الخراف ]. 

تفسير يو ٦ : ٥٦

«وجدتُ من تحبه نفسي، فأمسكته ولم أرخه» 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى