انبثاق الروح القدس 

 مقدمة

يرجع طرح موضوع انبثاق الروح القدس (Filioque) في التقليد اللاهوتي الغربي إلى الخلط بين التعليم عن الله في ذاته (أي العلاقة الأزلية بين أقانيم الثالوث القدوس) وبين التعليم عن العمل التدبيري للثالوث في الكون. هذا الخلط كان سمة مميزة في الفكر اللاهوتي الغربي قبل القديس أغسطينوس، وبالأخص في تعاليم الآباء اللاتين في القرنين الثاني والثالث، الذين واجهوا هرطقات تمس الثالوث.

في الشرق توقّف هذا الاتجاه رسميًا بعد مجمع نيقية سنة 325م، بفضل تعاليم القديس أثناسيوس والآباء الكبادوك.

أما في الغرب فقد استمر لفترات أطول، لأن الهرطقات ضد عقيدة الثالوث التي ظهرت في الغرب في القرن الرابع، لم تتعرض للأمور الفلسفية واللاهوتية التي عرفها الشرق، فالهراطقة في الغرب اكتفوا فقط بأن يركزوا اهتمامهم على التشكيك في ألوهية الابن والروح القدس.


 جذور الفهم الغربي للانبثاق

كان ردّ فعل الآباء اللاتين على هذه الهرطقات تأكيد وحدة الجوهر بين الأقانيم الثلاثة من خلال العمل التدبيري للثالوث القدوس في الكون، مما أدى إلى خلط بين «انبثاق الروح القدس الأزلي» و«إرساليته الزمنية».

ومن أسباب هذا الخلط:

  1. الترجمات اللاتينية القديمة للعهد الجديد.

  2. ترجمة القديس إيرونيموس (الفولجاتا) التي ربطت بين فعل procedere (ينبثق) وفعل venire (يأتي).

في (يو 15: 26):

«متى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي».

وفي (يو 8: 42):

«لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني».

في اللاتينية هذان الفعلان مرتبطان، ما جعل procedere لا يُعبّر فقط عن الانبثاق الأزلي بل أيضًا عن المجيء الزمني.


 إيلاريون أسقف بواتييه

القديس إيلاريون (315–367م) استند إلى يو 16: 13–15:

«متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. كل ما للآب هو لي. لهذا قلت إنه يأخذ مما لي ويخبركم».

ويعلق قائلاً:

«عبارتي “يأخذ من الابن” و”ينبثق من الآب” لهما معنى واحد» (إيلاريون، De Trinitate، الكتاب الثاني).

بهذا قدّم إيلاريون تعليمًا عن الله في تداخل مع التعليم عن التدبير. النتيجة هي عدم التمييز بين الانبثاق الأزلي للروح من الآب والارسال التدبيرى للروح القدس إلى العالم، والذي صار من الآب والابن أو من الآب عن طريق الابن. 


 ماريوس فيكتورينوس

ماريوس فيكتورينوس (المعروف بـ«الأفريقي») استخدم نص يو 16: 7:

«إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله لكم».

وأشار إلى (يو 16: 14–15):

«ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. كل ما للآب هو لي. لهذا قلت إنه يأخذ مما لي ويخبركم».

وقال:

«في البداية توجد الحياة ومن الحياة يأتي الفهم. الحياة هي المسيح، والفهم هو الروح. إذًا الروح يأخذ من المسيح، والمسيح من الآب، وعليه فالروح يأخذ من الآب عن طريق المسيح» (ماريوس فيكتورينوس، Adversus Arium).

هذه الاشارات تثبت أن ماريوس فيكتورينوس، يخلط بين التعليم عن الله وبين التعليم عن التدبير الإلهى. ويستخدم نصوص كتابية تشير فقط إلى العمل التدبيرى للروح القدس، دون أى تمييز بين وجوده الأزلي وبين إرساليته التدبيرية إلى العالم. 


 أمبروسيوس أسقف ميلان

القديس أمبروسيوس (339–397م)، تلميذ القديس ديديموس الضرير ومترجم كتاباته من اليونانية إلى اللاتينية وأيضًا تتلمذ على تعاليم القديس باسيليوس الكبير، إلا أنه كان يتكلم عن العمل التدبيرى للروح القدس في العالم ويُشدد:

«الروح القدس لا ينفصل عن الآب والابن، لأنه ينبثق من الآب والابن» (أمبروسيوس، De Spiritu Sancto، الكتاب الأول).

هذا الفعل “ينبثق“، سواء عند الآباء الكبادوك أو عند ديديموس الضرير، يُعبّر فقط عن الانبثاق الأزلى للروح القدس من الآب. لكن لا يعنى شيئًا بالنسبة لأمبروسيوس أكثر من كونه متطابق في المعني مع فعل ” آتى “. هكذا نجد أن أمبروسيوس قد واصل لاهوت الآباء الغربيين اللاتين، حيث قدم تعليمًا عن الله في إطار التدبير، دون أن يُميز بين الانبثاق الأزلى وبين الإرسالية التدبيرية إلى العالم. 


 صيغة قانون الإيمان

أعلن دستور الإيمان النيقاوي – القسطنطيني (381م)، أن انبثاق الروح القدس هو من الآب فقط، دون أن يذكر أنه منبثق من الابن:

«نؤمن… وبالروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب…».

وهذا استنادًا إلى يو 15: 26. وقد اعترفت الكنيستان الشرقية والغربية بهذا الإيمان حتى القرن السادس.

بدأت المشكلة المتعلقة بإنبثاق الروح القدس من الآب والابن في الغرب من القرن السادس، في مجمع طليطلة سنة 589م ظهرت الصيغة:

«الروح القدس المنبثق من الآب والابن» (Filioque).

وأُدرجت هذه الإضافة رسميًا في 633م بأمر الملك روكارد على دستور الإيمان النيقاوى – القسطنطيني، على الرغم من أن القانون السابع للمجمع المسكونى الثالث سنة ٤٣١ أقر بأنه لا يُسمح لأى أحد أن يصيغ أو يكتب أو أن يكرز بإيمان آخر غير ذلك الإيمان الذي أقره الآباء القديسين الذين اجتمعوا بنيقية مُلهَمين بالروح القدس فيما وصلوا إليه. 


 المقاومة والرفض الأولي

  • رفض هذه الإضافة يولينوس أسقف أكويليا في مجمع 791م.

  • أما الإمبراطور شارلمان فدافع عنها ودعا في مجمع إنعقد سنة 807م إلى حرم كل من ينادى بعكسها.

  • البابا لاون الثالث أمر بحفر دستور الإيمان الأصلي على لوحتين من الفضة (باليونانية واللاتينية) بدون إضافة ” الابن “، ووضعهما في كاتدرائية روما.

  • لاحقًا انتشرت الصيغة في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا، حتى استسلمت روما للأمر الواقع.

وفي عام 1014م، عند تتويج الإمبراطور هنرى الثاني، جاء إلى روما لكي يُتوج على يد البابا بنديكتوس الثامن، ففرض الطقس الجرماني في القداس. وللمرة الأولى ذكر دستور الإيمان مضافًا إليه كلمة ” الابن” أي «نعم نؤمن بالروح القدس المنبثق من الآب والابن»، وليس من الآب فقط كما جاء بمجمع نيقية.


الانشقاق الكبير

في سنة 1054م، قام الكاردينال همبرت بوضع وثيقة التعديل على مذبح كنيسة آجيا صوفيا، لتُصبح الإضافة رسميًا سببًا مباشرًا في الانشقاق العظيم بين الشرق والغرب.


اللاهوت البروتستانتي

تبنت الكنائس البروتستانتية، وخصوصًا اللوثرية، صيغة انبثاق الروح القدس من الآب والابن.

ويُعد موضوع الـ Filioque في الغرب جزءًا عقائديًا جوهريًا، وليس مجرد إضافة شكلية.


 الرؤية الأرثوذكسية الشرقية

الكنيسة الأرثوذكسية تنناول موضوع انبثاق الروح القدس وشرحه في إطار عقيدة الثالوث القدوس، فالتعليم اللاهوتي الأرثوذكسى ينظر إلى الثالوث القدوس في أزليته وأيضًا في إطار عمله التدبيرى في الكون وفي أحداث التاريخ . فالعلاقة بين الأقانيم هي علاقة شركة ومحبة، وأن:

  • وحدة الجوهر الإلهي أساسها أقنوم الآب بوصفه «مبدأ الأقنومين الآخرين».

  • «الروح القدس ينبثق من الآب كما من ينبوع، إلا أن الابن هو الذي يرسله إلى الخليقة» (القديس كيرلس الإسكندري، الرسائل ضد نسطور، الرسالة الثالثة).

  • «إن كل ما للآب هو للابن ما عدا خاصية أن يكون مصدرًا، وكل ما للابن فهو للروح القدس ما عدا خاصية البنوة» (غريغوريوس النزينزي، العظة اللاهوتية الخامسة).

  • «الآب هو مصدر القوة، وقوة الآب هو الابن، وروح القوة هو الروح القدس» (غريغوريوس النيسي، Contra Eunomium).

وبالتالي، من وجهة النظر الأرثوذكسية، أي إضافة تشير إلى انبثاق الروح القدس من الابن تُغيّر البنية اللاهوتية الثالوثية نفسها.


📚 المراجع

  • الكتاب المقدس: يو 15: 26؛ يو 16: 7، 13–15؛ يو 8: 42.

  • إيلاريون أسقف بواتييه، De Trinitate.

  • ماريوس فيكتورينوس، Adversus Arium.

  • أمبروسيوس، De Spiritu Sancto.

  • دستور الإيمان النيقاوي – القسطنطيني (381م).

  • مجمع طليطلة (589م، 633م).

  • البابا لاون الثالث – نقوش كاتدرائية روما.

  • كيرلس الإسكندري، الرسائل ضد نسطور.

  • غريغوريوس النزينزي، العظة اللاهوتية الخامسة.

  • غريغوريوس النيسي، Contra Eunomium.

  • Ν. Ματσουκας, Δογματική και Συμβολική θεολογία, Θεσσαλονίκη 1992, σ. 137.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى