خلق الكائنات 

إن خلق الكائنات أو الخلق من العدم يفرض علينا التمييز بين الخالق والمخلوق. هذا التمييز بدوره يفرض ضرورة إتحاد المخلوق بالخالق لكى يتمتع بالوجود وبالحياة. وبناءً علي ذلك نستطيع أن نفهم أن الكون يُصبح واقعاً كاملاً، لا بحسب طبيعته المخلوقة، بل بحسب الشركة مع الله الواهب الحياة. وبالرغم من أن هذا الواقع يتصف بالكمال، إلا أنه ليس جامدًا أو ثابتًا، لكنه يتسم بالحيوية والحركة والنمو. هذا الكمال هو كمال مكتسب، فكل الكائنات المخلوقة ليس لها كمالا في ذاتها، فهى تحتاج دوما إلى معونة ونعمة لكى تصل إلى حالة الكمال كما يقول القديس إيريناؤس. 

القديس أثناسيوس وهو بصدد دحضه لبعض الآراء الخاطئة عن عملية الخلق يقول الآتي: 

1- لقد فهم الكثيرون موضوع خلق الكون وجميع الموجودات بطرق مختلفة، وعبّر كل منهم عن رأيه كما يحلو له. فقال بعضهم إن الأشياء كلها قد وُجدت من تلقاء ذاتها وبمجرد الصدفة، كالأبيقوريون، الذين في اعتمادهم على الأساطير يجزمون بأنه لا يوجد تدبير الهي لكل الأشياء، وهم بهذا يناقضون ما هو واضح كل الوضوح. 

2- يقول أيضا لو أن كل الأشياء قد وُجدت من تلقاء نفسها وبدون تدبير حسب اعتقادهم، لكان ذلك يعني أن هذه الأشياء قد وُجدت في بساطة وتشابه وبدون اختلافات فيما بينها وبالتالي كان يجب على كل الأشياء أن تشكل جسماً واحداً شمسا أو قمرًا. وفي حالة البشر كان يجب أن يكون الجسم كله عينًا أو يدا أو رجلاً. ولكن الواقع غير ذلك فنرى الشمس شيئًا والقمر شيئًا آخر والأرض شيئًا مختلفًا. وفي الأجساد البشرية نرى الرجل شيئًا واليد شيئًا آخر والرأس شيئًا مختلفا. فهذا الترتيب إذن يؤكد لنا أن هذه الأشياء لم توجد من نفسها بل يدل على أن هناك علّة سابقة عليها. ومن هذا الترتيب نستطيع أن ندرك الله الذي خلق كل الأشياء ودبّرها. 

3- ويُضيف بأن هناك آخرون أيضًا من بينهم مثلاً أفلاطون العظيم عند اليونانيين، علّموا بأن الله خلق الكون من مادة موجودة سابقاً وغير مخلوقة ، وكأن الله لم يكن يقدر أن يصنع شيئًا ما لم تكن المادة موجودة بالفعل، كالنجار – مثلاً – الذي يجب أن يتوافر له الخشب لكي يستطيع أن يعمل.. لكنهم لا يدركون أنهم بقولهم هذا ينسبون الضعف الله لأنه إن لم يكن هو سبب وجود المادة، بل يصنع الموجودات من مادة موجودة سابقا ، فهذا معناه أنه ضعيف، طالما أنه لا يقدر أن يصنع شيئًا من المصنوعات بدون (توفّر) المادة. 

4- وطبقا لهذا الافتراض فإن الله لم يكن يستطيع أن يصنع شيئًا (قط) لو لم تكن المادة موجودة سابقاً. وكيف يمكن أن يسمى بارئًا وخالقاً، لو أنه كان يستمد قدرته على الخلق من مصدر آخر، وأعني بذلك من المادة ؟ 

يؤكد القديس أثناسيوس هنا على أن كل الأشياء قد خُلقت من العدم بإرادة الله الحرة. وطالما أن الكائنات المخلوقة تأتى من العدم، فهى توجد بشكل أساسي في حالتين محددتين  

1- الأولى تمثل حالتها المتغيرة والمتحولة .

2- والثانية تمثل حركتها بين حالة الكمال، بسبب إتحادها بالله الكامل وبين حالة التحلل أو التغيير إلى الوضع الأسوأ ، بسبب ابتعادها عن الله.

إذن التمتع بالوجود وبالحياة يحدث فقط في حالة اشتراك الكون كله في حياة الله الخالق. 

أما فيما يخص وضع الكائنات العاقلة، فإن تقدم وكمال هذه الكائنات في مسيرتها إلى أن تصل إلى مستوى رؤية المجد الإلهى، هو أمر يتعلق بحرية الارادة التي تدفع هذه الكائنات لكي تبقى في هذه الشركة. فحرية الارادة هذه تقود إما للشركة والنمو في معرفة الله، وإما للاتجاه نحو الفساد والموت. إزالة نتائج هذا الوضع الأخير يتم بالنعمة المغيرة التي تقود إلى الشركة الكاملة مع الله. وهذا هو ما جعل القديس الكسندروس الاسكندرى والقديس أثناسيوس يقاومان آريوس مقاومة شديدة، لأنه أراد أن يضع الابن في عداد المخلوقات المتغيّرة. وعليه فالكلمة أيضًا بحسب تعاليم آريوس له احتياج لهذه النعمة المغيرة. 

إذن فكل الكائنات العاقلة هى في مسيرة نحو اتجاهين 

1- اتجاه التغيير نحو الكمال والقداسة. 

2- اتجاه التغيير نحو الموت والعدم.

وكلا الأمرين يتم في ضوء العلاقة بالله الكامل والمعطى الحياة. إما بالشركة معه فينال الإنسان الحياة، أو بالإبتعاد عنه فيتعرض للموت هذا التحديد ينطبق أيضًا على الشيطان، يقول القديس باسيليوس [إن لوسيفورس ، لم يكن له أن يضل عن طريقه، ولا كان سيسحق لو لم يكن قد تعالى هذا يرجع إلى أن لوسيفورس، مثلِ كل الخليقة هو مخلوق من العدم. ولذلك فلكي يصل لمرحلة الكمال، كان يجب عليه أن يتجاوز العدم. ولأنه لم يستطع أن يصنع هذا ، لذلك فقد سقط في العدم]. 

وهكذا فإن كل الكائنات العاقلة مُعرَّضة لأن تفقد وجودها، وتتجه إلى العدم في حالة ابتعادها عن مصدر الحياة والوجود. إذن فالعلاقة والشركة مع الله مصدر الحياة هي التي تؤمن وتضمن التمتع بالحياة الحقيقية. الله وحده فقط هو الذي يعطى حياة لجميع الكائنات، وكل الخليقة معرّضة لخطر العودة إلى العدم في حالة ابتعادها عنه كما يقول القديس ديونيسيوس الأريوباغى. ولكى تبقى هذه الكائنات متمتعة بالحياة والنمو والتقدم للوصول إلى حالة الكمال والقداسة فلابد أن تبقى في هذه الحياة التي يمنحها الله المعطي الحياة. 

وكما أن المصباح الكهربائى يبعث نوره طالما يكون في اتصال مع مصدر المولد الكهربائى وينطفئ مباشرةً إذا فقد هذه الصلة هكذا الأمر أيضًا بالنسبة للخليقة، فالذي يحفظ وجودها وبقائها هو الله مصدر هذا الوجود والبقاء، وإذا فقدت صلتها بالله تعرَّضت لفقدان وجودها واستمراريتها. فالكون كيان حى يحيا بتيار الحياة المنبثق من مصدر الحياة. 

التعليم اللاهوتى الأرثوذكسى يضع هذه الحقيقة في مركز التعليم العقيدى كله، وأى تقدير مُخالف أو أي توجه آخر يحيد عن هذه الحقيقة وهذا المبدأ الأساسى الخاص باعتماد الخليقة في وجودها على الله الخالق يقود إلى اللبس وعدم الوضوح في مجال التعليم اللاهوتي. 

وعليه فإن بداية أية صياغة صحيحة تخص خلق الكائنات، تتحدد بشكل دقيق من خلال وصفها بالنسبية، وهذا البعد النسبي يشمل جميع الكائنات المخلوقة ، لأن وجودها يعتمد بالأساس على الله الخالق. إن عمل الخلق هو فعل محبة، فهناك صلة وثيقة بين الخلق ومحبة الله. فالله الذي خلق الكون هو الذي خلق الكون هو الله المحب وليس الله المتسلط، هذا الكون هو ثمرة حب، فلا يوجد شئ في هذا الكون بمحض الصدفة، بل إن كل شيء قد تم بنظام وترتيب وحكمة بالغة. وهذا النظام البديع الذي يوجد في الكون يكشف عن وجود خالق محب. لقد أعلن الله عن ذاته من خلال الاعلان الطبيعي في الكون ومن خلال ظهوراته قبل التجسد في العهد القديم ثم استعلانه وظهوره في الجسد لكى يهب الإنسان الحياة الجديدة ويرده إلى رتبته الأولى.

لقد اختبر الشعب في العهد القديم محبة الله الذي أنقذهم من عبودية المصريين وأدخلهم إلى أرض الموعد “أنت شعب مقدس للرب إلهك إياك قد اختار الرب إلهك . لتكون له شعب أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم. بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم”. هذه الخبرة هي التي جعلت الشعب يتأمل في الله الخالق المحب الذي حررهم من العبودية. فالله الذي حررهم وأنقذهم هو نفسه الذي خلقهم وأحبهم. الكتاب المقدس هنا لا يهدف إلى تفسير كيفية خلق الأشياء بل يريد أن يكشف عن الهدف من خلق العالم وخلق الإنسان. وهذا الهدف لا يدخل في مجال العلم، فالعلم هدفه تفسير كيفية تكوين الأشياء، ولا يقوى على تفسير العلاقة التي تربط الإنسان بالله أو تحليل سر المحبة الإلهية الفائقة للبشر، ولا يستطيع أن يفهم أو يشرح المعنى العميق لسر الخلاص، الذي اختبره الشعب اليهودي على يد موسى النبي عندما ثم تحريرهم من أرض العبودية والمذلة. لقد عبّر هؤلاء اليهود عن إيمانهم بالله مخلّصهم وأكدوا على عمل الله الخالق منذ البدء من خلال هذا الاختبار الخلاصى. فالله المخلّص الذي صنع المعجزات مع شعبه وأنقذه من أيدى أعدائه، هو نفسه الإله الخالق الذي خلق الكون من العدم وحفظه من كل القوات الشريرة. 

هذه الصلة بين الله المخلّص والله الخالق عبر عنها إشعياء النبي قائلاً: ” هكذا يقول الرب فاديك وجابلك من البطن أنا الرب صانع كل شئ. ناشر السموات وحدى باسط الأرض. مُبطل آيات المخادعين ومحمق العرافين. مُرجع الحكماء إلى الوراء ومجهل معرفتهم.

يلاحظ في رواية سفر التكوين عن الخلق تكرار لفظة الله، في كل الآيات الخاصة بالخلق تقريبًا، حيث يذكر ” وقال الله ” في كل مرة يشير فيها إلى خلق شيئًا ما . الهدف كما هو واضح هو إظهار مدى العلاقة الوثيقة التي تربط الله بالخليقة. فالله وحده هو خالق الكون بكل ما فيه من جمال وابداع وهو الذي يمنح الإنسان الوجود والكيان والحياة وهذه المنحة، هى منحة محبة وعطاء بفيض لا ينقطع ولا يتوقف، إذ أن الله محبة ويبقى على الإنسان أن يستجيب لهذه المحبة بمحبة مماثلة حتى يبقى على الدوام هو الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. 

اللاهوت المسيحى والإنسان المعاصر ” الجزء الأول، ۱۹۸۹، ص ۷۷ 

إن رواية سفر التكوين عن الخلق، لا تهدف إلى تحديد بداية زمن خلق العالم، بقدر ما تهدف إلى توضيح مدى الارتباط الوثيق بين الله والخليقة. فالكون كله يدين بوجوده لله الخالق الذي أوجده من العدم. 

إذن فهدف الكتاب المقدس هو التشديد على ابراز محبة الله للبشر، وليس أبراز كيفية خلق هذا العالم الإيمان بالله الخالق يعتبر الأساس الذي يقوم عليه تفسير طبيعة وجوهر العلاقة بين الله والإنسان في العهد الجديد. فوساطة الإبن في الخلق، هى نفسها كما في الخلاص، كما يشير الرسول بولس ” أيها الرجال لماذا تفعلون هذا. نحن أيضًا بشر تحت الآلام مثلكم نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحى الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها ” . يقول لهم أيضاً : ” الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي ولا يُخدم بأيدي الناس كأنه محتاج إلى شيء. إذ هو يعطي الجميع حياة ونفساً وكل شيء. وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض وحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم. لكى يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيمجدوه مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيدا . لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد”(أع 17: 24-28). ويشير العهد الجديد إلى أن الله خلق كل شئ بالإبن ” الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فإنه فيه خُلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى .. الكل به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شئ وفيه يقوم الكل”(كو 1: 14-17). وأيضًا .. لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له. ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به “. ويقول أيضاً في الرسالة إلى العبرانيين الذي به عمل العالمين”. وهذا أيضًا ما أكده القديس يوحنا الإنجيلي بقوله : ” كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان”

هكذا يتضح من خلال العرض السابق أن هدف الكتاب المقدس هو الاعلان عن مدى العلاقة الوثيقة التي تربط بين الخالق وخليقته. وأيضا التركيز على أن هذا الكون قد أتى من العدم وإن بقاءه واستمراره يعتمدان على الله القادر أن يحفظ له هذا البقاء و هذا الإستمرار. 

سبب وطريقة خلق الكائنات 

يعتقد البعض أن هناك توافقاً بين منهج البحث العلمى والتعاليم الكتابية، ويرجع السبب في ذلك لرؤيتهم بأن هناك تطابقا بين سبب خلق الكائنات، وطريقة خلق هذه الكائنات، معتبرين أن السبب والطريقة هما أمر واحد واعتقدوا أن الكتاب المقدس قد أجاب بشكل قاطع عن تساؤلين هامين: 

۱ – من خلق العالم؟ 

۲ – كيف خُلق العالم؟ 

وتصوروا أن الأسلوب الرمزى المستخدم في وصف حقيقة الخلق في سفر التكوين يكفى ليس فقط للحديث عن من خلق العالم، لكن أيضا للحديث وبدقة عن : كيفية خلق العالم. 

هذا الخلط في الفهم خلق الكثير من المشاكل، لأن اللاهوتيين الغربيين في القرن التاسع عشر فهموا الإلهام” الإلهى” بشكل حرفي، وذلك لأنهم لم يتعرّفوا على طبيعة التعاليم اللاهوتية والعقيدية للآباء الشرقيين. لكن مع مرور الزمن أصبحت هناك ضرورة للتمييز بين أمرين: 

+ مَن خلق العالم (وهذا ما يتحدث عنه الوحى الكتابي والتعاليم اللاهوتية). 

+ وكيفية خُلق العالم، وهذا الطرح يدخل في مجال البحث العلمي وقد تعرّض القديس باسيليوس لهذا الموضوع في كتابه ” ستة أيام الخليقة “. 

غير أن التعاليم اللاهوتية الأرثوكسية المرتبطة بالتقليد الكنسي لم تنحو تجاه هذه الرؤية التي تجمع بين العلم والدين، واستطاعت أن تفصل بين الأمرين السابقين أي من خلق العالم، وكيف خُلق العالم. هذا الفصل واضح كل الوضوح في تعاليم الآباء، بل هو واضح أيضا لدى كاتب سفر التكوين نفسه. 

إن الحديث عن من خلق الكائنات، يقع في مجال التعليم عن الله والذي يعني تحديدا الحديث عن الإعلان السمائي الذي يهبه الله للبشر، وقد سبق الاشارة إليه في موضوع الاعلان الإلهى ، أما طريقة خلق الكائنات فهى تتبع مجال البحث العلمي البسيط أو الدقيق. 

فقد نادى فلاسفة الوثنية بنظرية تقول إن الكون قد خُلق بمحض الصدفة أو بدون عله، وقال البعض الآخر إن الله خلق هذا الكون لسبب ما، غير أن هذا السبب لا إرادى، مثلما أن الجسم سبب الظل والشعلة سبب الضوء. وتخيل البعض الآخر أن طبيعة العالم المرئى ترجع إلى اتحاد الذرات والأجسام ذات الخلية الواحدة واتحاد الجزيئات معاً، وظنوا أن اتحاد الذرات وانفصالها ينتج عنه المواليد والوفيات وذهبوا إلى أبعد من ذلك فقالوا بإن سبب تكوّن الأجسام طويلة العمر يرجع إلى قوة التصاقها معًا. والحقيقة أن السبب وراء كل ذلك يرجع إلى أنهم لم يفهموا قول الكتاب: ” في البدء خلق الله السموات والأرض“. وهذا ما ذكره القديس باسيليوس عندما أشار إلى بعض الفلاسفة اليونانيين الذين أثاروا ضجة كبيرة وهم بصدد تقديم تفسير حول كيفية وجود هذا الكون، يقول: [إن جهلهم منعهم أن يدركوا وجود الله، فلم يعترفوا به أنه هو مصدر الخلق، فلجأوا إلى أصول المواد وأرجعوا أصل الخليقة إلى العناصر الطبيعية]. 

لذلك نجده في كتابه ” ستة أيام الخليقة ” يُميّز بكل وضوح بين :أمرين مَن خلق العالم؟ – كيف خُلق العالم؟ ويشدد على أن هدف الكلمة الإلهية كما جاءت بنص سفر التكوين هو خلاص البشرية، ولذلك فإن هذا النص ليس موضوعًا للبحث العلمى وعندما يشير إلى عبارة سفر التكوين ” في البدء خلق الله ” فإنه يشدد على حقيقة هامة خاصة بالخلق كي لا يتوهم البعض أن العالم لم يكن له بدء، وأيضًا ليكون اسم الله مرتبطاً في أذهاننا بعملية الخلق، وأن ما تم خلقه لا يعبر إلا عن جزء يسير من قدرة الخالق الفائقة. لقد أراد القديس باسيليوس أن ينير شعبه بحقيقة هامة بشأن موضوع الخلق الوارد برواية سفر التكوين، فأكد على أن هذه الرواية لم تقل كل شئ عن الخلق، لأن الله أراد أن يُدرب عقولنا ويجعلها أكثر نشاط وأكثر حيوية في مجال البحث العميق، فما أوردته رواية الخلق في سفر التكوين هو أمر بسيط وعلينا أن نبحث عن الأمور الباقية لذلك يقول عن نصوص الكتاب المقدس: [إنها كلمات قد دونت لا لكى تُثير تصفيق المستمعين بل لتهب خلاصا لمن يؤمن بها]. فالعالم – كخليقة الله – يمثل مدرسة يتعلم فيها الإنسان معرفة الله ويتدرب على اكتشاف الله من خلال أعماله في الخليقة. إذ أن رؤية الأشياء المرئية والمحسوسة تقود العقل إلى التأمل في الأشياء غير المرئية ” لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته”(رو ۲۰:۱ ). 

وهكذا فإن كتاب ستة أيام الخليقة “، الذي ألّفه القديس باسيليوس الكبير وأكمله أخاه القديس غريغوريوس النيسى، يتعرّض بشكل واضح للاجابة عن السؤالين السابقين وهما : من خلق الكون. وكيف خُلق هذا الكون. فأيام الخليقة الستة تمثل ستة مراحل لمسيرة خلق العالم. وكل يوم من هذه الأيام، بحسب اللغة الرمزية للآباء، يعتبر رمز يُظهر كمال أو تمام مرحلة معينة. والذي قد يكون ثانية واحدة أو ملايين السنين. ولهذا فالتوجه السائد في التعليم اللاهوتي الأرثوذكسى يشير إلى أن اليوم السابع هو اليوم الخاص بنا ، وأن اليوم الثامن هو اعلان ملكوت الله ومجده حيث تشترك كل الكائنات العاقلة فيه، هذا اليوم هو يوم الرب ” . يقول ق. غريغوريوس اللاهوتي [بدأ الخلق الأول يوم الأحد – وهذا واضح لأن السبت الذي توقف فيه العمل كان سابع يوم بعده . هكذا كان من اللازم أن تبدأ الخليقة الجديدة مرة ثانية يوم الأحد، بشكل أكثر سموا مما سبق، وأكثر إعجازًا من العجائب السابقة، لأن هذا اليوم يُشير إلى الحياة الأبدية التي تمتد أمامنا في السماء ويبدو أن سليمان الحكيم يُلمح إلى ذلك، عندما يوصي قائلاً :  أعط نصيبا لسبعة – أي للحياة الحاضرة . ولثمانية أيضًا – أي للحياة الأبدية حيث يُشير إلى أعمالنا الصالحة في هذه الحياة، وتجديد كل شيء في الحياة الأبدية]. اليوم الثامن هذا يدعوه القديس غريغوريوس اللاهوتي، بالأحد الجديد. 

هذه المراحل الست توصف بأسلوب بسيط ومختصر على النحو التالى: في البدء خلق الله السموات والأرض، ثم بعد ذلك في ستة مراحل تحقق وجود الكون:

  1.  نشوء النور. 
  2.  تشكيل المناخ. 
  3. خلق البحر واليابسة وظهور مملكة النبات.
  4. خلق الشمس والقمر والنجوم.
  5. خلق الكائنات البحرية وطيور السماء. 
  6.  خلق الإنسان على صورة الله ومثاله. 

يروي كاتب سفر التكوين هنا قصة خلق الله للكون من خلال هذه المراحل الست فقط. فهو يتكلم عن خلق الله لهذا الكون من العدم بإرادته الحرة. 

وبحسب التعليم اللاهوتى الأرثوذكسى، فإن الله الثالوث يكشف لنا عن طريق ما يهبه لنا من معرفة، ومن خلال الظهورات الإلهية كيف أنه هو ذاته سبب الخلق، بطريقة تُظهر قدرته الفائقة وحكمته الكاملة الكلية. ولهذا فإن المعرفة الموهوبة من الله لا تصف طريقة الخلق بشكل علمي، بل هي تُشير فقط إلى الله الخالق، وتؤكد على هو السبب الوحيد لوجود الخليقة أى أنه خلق الكون من العدم بواسطة إرادته الحرة كما سبق القول. 

تصنيف الكائنات 
(الملائكة – الكون – الإنسان)

بحسب إجماع الآباء، فإن الكون كله ، المحسوس والمدرك، هو أيقونة الثالوث ، ويُشكل جسدا واحدًا له أعضاء كثيرة تحيا جميعها بالأفعال الإلهية المحيية، وذلك بحسب قدرة الكائنات العاقلة على استيعاب أن هذه الأفعال الإلهية هي التي تمنحها وجودًا وحياة وسعادة وحكمة ومجدا. 

الله ذاته هو مصدر وجود وحياة كل الكائنات، لا يوجد شئ خارج القدرة الخالقة للثالوث القدوس الطبيعة، أحداث التاريخ، الحياة، الحركة ، الكلمة، العقل، كل الموجودات تُشكل نسيجاً أو جسدا واحدًا يتحرك ويحيا ويكمل في علاقته بالثالوث القدوس كما يقول القديس ديونيسيوس الأريوباغى: [دور عناصر الطبيعة الغير العاقلة يتمثل في خدمة الكائنات العاقلة الأكثر سموًا. كما أن الجزء غير المدرك وغير المحسوس يدخل في نسق هذا الجسد الكوني]. 

إن عمل هذا الجسد الكونى من حيث تصنيف الكائنات، هو بالأساس عطية نعمة. فالتمييز بين الرتب المختلفة ليس امتيازا بل هو عطية، والرتب الأكثر سموا عليها مسئولية تجاه الرتب الأقل. 

إذن فهناك جسد كونى واحد ، وجوده وحياته مرتبط بعطية النعمة بالأفعال الإلهية المحيية وأى سقوط للكائنات العاقلة من هذا الجسد في مسيرته نحو الكمال، يرجع إلى التصورات الخاطئة عن الله، وإلى ارادة الابتعاد عنه. 

وبحسب تعاليم الآباء، الله خلق الكون على مراحل وفقاً لإرادته قبل الدهور. وكما يقول القديس غريغوريوس النيسى: [إن هذه المراحل تمثل استعلانا لمسيرة متنامية ومستمرة، وذلك بحسب الامكانيات التي منحها الله لكل الكائنات العاقلة. هكذا فإن التقليد الأرثوذكسى قد قَبل بأن الخلق قد تم على مراحل، حيث خلق الله أولاً الحقبات أو العصور والتسمية هنا تحمل معاني كثيرة، وكل هذه المعانى تُشير إلى الاستمرار والحركة، والحياة، والزمن، إلا أن الزمن كإستمرار وحركة هو زمن نسبى، لأنه زمن مخلوق. وهكذا خلق الله أولاً الملائكة ثم الكون ثم الإنسان. وقد تحقق كل ذلك على مراحل متعاقبة. 

إذن فمراحل الخلق تبدأ من مرحلة خلق الأرواح الملائكية. والتحديد الذي وضعته الرسالة إلى العبرانيين يشير بشكل واضح إلى عمل الملائكة وهدفهم : ” فهى أرواح خادمة مُرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص”

هذه الخدمة تُفهم في إطار هذا الجسد الكوني، والملائكة هم أعضاء في هذا الجسد، وبناءًا على ذلك تصبح خدمتهم لنا أمرًا مفهومًا، فهم مُعيّنون من أجل خدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص. فلكل إنسان ملاكه الحارس كما أن هؤلاء الملائكة يحرسون المدن والأمم والكنائس. ويشير القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد إلى أن الملائكة يحرسون الإنسان ويرافقونه سواء في الحياة الحاضرة أو عند خروج النفس من الجسد حتى زمن تجلي الكون كله. وأيضا هناك عمل توجيهي وارشادى وتربوى للملائكة تجاه البشر، فهم يلهمون المؤمنين بالأفكار والقرارات الصالحة، ويتفق مع هذه الرؤية كل من العلامة أوريجانوس والقديس يوحنا ذهبي الفم. وإن كانت كلمة ملاك تعنى الحامل لرسالة أو المرسل ، إلا أن هذه التسمية لا تتصل بطبيعتهم وتكوينهم بل بعملهم تجاه البشر من حيث أنهم مرسلون من قبل الله لتبليغ إرادته ومشيئته لهم، كما جاء في سفر حجى النبي ” فقال حجى ملاك الرب برسالة الرب لجميع الشعب قائلاً أنا معكم يقول الرب”. يقول القديس كيرلس الأسكندري تعليقا على هذه الآية إن [حجي هنا دُعى ملاكا بسبب أنه نقل خبرا ]. 

وهكذا أيضًا يؤكد سفر أعمال الرسل على هذا العمل وهذه الرسالة. “فكان بطرس محروسًا في السجن وأما الكنيسة فكانت تصير فيها صلوة بلجاجة إلى الله من أجله. ولما كان هيرودس مزمعا أن يقدمه كان بطرس في تلك الليلة نائماً بين عسكريين مربوطاً بسلسلتين. وكان قدام الباب حراس يحرسون السجن. وإذ ملاك الرب أقبل ونور أضاء في البيت. فضرب جنب بطرس وأيقظه قائلاً قم عاجلاً. فسقطت السلسلتان من يديه. وقال له الملاك تمنطق والبس نعليك. ففعل هكذا . فقال له البس رداءك واتبعنى فخرج يتبعه وكان لا يعلم أن الذي جرى بواسطة الملاك هو حقيقى بل يظن أنه ينظر رؤية. فجازا المحرس الأول والثانى وأتيا إلى باب الحديد الذي يؤدى إلى المدينة فانفتح لهما من ذاته فخرجا وتقدما زقاقا واحدا وللوقت فارقه الملاك. فقال بطرس وهو قد رجع إلى نفسه الآن علمت يقينا أن الرب أرسل ملاكه وأنقذنى من يد هيرودس ومن كل انتظار شعب اليهود” 

وأيضًا يشير دانيال النبى إلي تلك الحقيقة قائلاً : فقال لى لا تخف یا دانیال لأنه من اليوم الأول الذي فيه جعلت قلبك للفهم ولإذلال نفسك قدام إلهك . سُمع كلامك وأنا أتيت لأجل كلامك ورئيس مملكة فارس وقف مقابلى واحدًا وعشرين يوماً وهوذا ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين جاء لإعانتى وأنا أبقيت هذا عند ملوك فارس ومرات عديدة يأتي ذكر الملائكة في خطة التدبير الإلهى، كما في ظهور الملاك للعذراء للبشارة بالحبل الإلهى، وظهور الملاك لزكريا للبشارة بولادة يوحنا.

وقد تحدث ديونيسيوس الأريوباغى عن الملائكة مُستقيًا معلوماته من الكتاب المقدس. فيُصنف الملائكة لثلاثة مجموعات، يشكلون معًا تسعة طغمات. 

1- عروش – شاروبيم – ساروفيم 

2- سلاطين – ربوبيات – قوات 

3- ملائكة – رؤساء ملائكة – رئاسات ” 

كما أن أي ظهور ملائكى لا يمكن أن يحدث من تلقاء ذاته. فالملائكة ككائنات مخلوقة ، ليست حاضرة في كل مكان، ولا يستطيعون بمبادرة منهم أن يساعدوا في عمل الكمال. ولهذا السبب فإن الظهورات الملائكية هي أداة تُعبّر عن الظهورات الإلهية ذاتها. 

كما أن معرفتهم تعد معرفة محدودة، فقد كانوا يجهلون خطة التدبير الإلهى لخلاص البشر. هذا ما يشير إليه القديس بطرس قائلاً: “الأنبياء الذين أعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور التي أُخبرتم بها أنتم الآن بواسطة الذين بشروكم في الروح القدس المرسل من السماء التي تشتهى الملائكة أن تطّلع عليها ” وأيضاً يشير الرسول بولس إلى ذلك قائلاً : ” لكى يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا” 

بل أن الخليقة كلها لا يمكن أن تفهم خارج “الكلمة الخالق”: “فإنه فيه خُلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق”

التقليد الأرثوذكسى يؤمن بوجود الملائكة إلى جوار البشر، فهم معينين لتشديد المؤمنيين في جهادهم الروحي، وفي مقاومة الشرير وفي مسعاهم نحو الوصول إلى حالة الكمال والقداسة. فالكتاب المقدس يشير إلى ما يتصف به الملائكة من قوة ” باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه وأيضاً ” حيث ملائكة وهم أعظم قوة وقدرة.

وبحسب التقليد الآبائى فإن الملائكة الذين بقوا في الصلاح الإلهى، ثبتوا في رتبتهم وتمتعوا بالمجد الإلهى. أما من ابتعد منهم عن الله واعتد بذاته فقد صار شريرًا وفقد بهائه، وصار في عداد القوات الشريرة. 

وتعاليم الكتاب المقدس والتقليد بشأن سقوط الملائكة، هي تعاليم واضحة. فقد أشار بعض الآباء إلى أن سبب سقوط الشيطان هو الكبرياء، إلا أن البعض الآخر قد أقر بأن سبب سقوط الشيطان كان هو حسده للإنسان. وحسب هذا الرأى فإن زمن سقوط الشيطان يرجع إلى الوقت الذي خلق فيه آدم. 

فيذكر ساويرس ابن المقفع أن سبب سقوط الشيطان هو امتناعه عن التسبيح مع الملائكة استكبارًا ورغبة في التشبه بالله. كما يشهد عنه إشعياء النبى قائلاً: ” كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح كيف قُطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم وأنت قلت في قلبك أصعد إلى السموات أرفع كرسى إلى كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصى الشمال أصعد فوق مرتفعات السماء أصير مثل العلى”

كما يرى القديس إيريناؤس أنه لما خلق الله الإنسان على صورته ومثاله حسده الشيطان بسبب محبة “الكلمة” له، وهو يستند لقول الكتاب ” وبحسد إبليس دخل الموت “.

 

هؤلاء سقطوا عن رتبتهم وتركوا مسكنهم. يقول القديس بطرس إن ” الله لم يُشفق على ملائكة قد أخطأوا بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلّمهم محروسين للقضاء ، ” والملائكة الذين لم يحفظوا رياساتهم بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام “

وقد تحدث القديس أثناسيوس في كتابه ” حياة انطونيوس ” مرات عديدة عن شياطين التجارب، وكيف أن هذا الناسك البار لم يرتعب أمام هذه الأرواح الشريرة، لأن كل هذه الأرواح هي بلا قوة أمام كل مَن يملك القوة الإلهية “[1]

فهدف الظهور الشيطانى والخيالات الشريرة هو اعاقة الإنسان عن مواصلة مسيرته نحو القداسة والكمال. فهو يريد أن يفسد سبل الله المستقيمة كما جاء في سفر الأعمال عندما خاطب بولس عليم الساحر ووصفه بصفات إبليس ” أيها الممتلئ غش وكل خبث يا ابن إبليس يا عدو كل بر ألا تزال تُفسد سبل الله المستقيمة.

وهكذا فإن الملائكة هم جزء من هذا النسيج الكوني، وهذا يقودنا إلى الحديث عن العلاقة بين الإنسان والكون. التعليم اللاهوتى يعتبر أن الإنسان كيانًا واحدًا في علاقته مع البيئة والكون، فهو يوجد في حالة شركة دائمة ، الشركة هي أساس الوجود وأى كيان حقيقى لا يمكن معرفته بدون شركة وإذا كان الوجود – الإنسان والكون . هو شركة ، فإننا لا نفهم هذا الوجود إلا بوجود علاقة. وبالتالى لا يمكننا أن نفهم الوجود كوجود في حد ذاته لأن كل كائن لا يوجد في حالة عزلة ولا يحيا كفرد. ولذلك لا يمكن فهم وجود كائن خارج نطاق الشركة مع الكون الذي يحيا فيه ومن أجل هذا فقد رفض الآباء منطق أرسطو الذي يُنادي بأن كل الموجودات تُفهم وتُدرك في ذاتها، وليس كما هي في علاقة شركة مع غيرها . 

وعليه فإن مسيرة الإنسان تفهم فقط من خلال علاقته بالله والكون. وبناء على ذلك فالإنسان هو مبدع وشريك في الخلق بالنعمة ودائما في ارتباطه بالأفعال الإلهية المحيية. 

  1. Μ . Αθανασίου, βίος και πολιτεία του οσίου πατρός ημών Αντωνίου PG 26, 857A. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى