الخريستولوجي بحسب تعاليم القديس كيرلس الأسكندري
مقدمة
بدايةً ينبغي التأكيد على أن بداية أي إنحراف عقيدي أو لأهوتي يأتي من إخضاع الله غير المحدود وغير المفحوص وغير المدرك وغير المحتوى، للعقل المحدود. الأمر الذي يقود بالضرورة نحو السقوط في إنحرافات فكرية كثيرة، ستؤدي حتما لخلق حالة من التشتت والإنقسام، ثم ينتهي الأمر إلى إنكار الإيمان المستقيم. وهذا هو معني كلمة (aίρeση) أي تقسيم وتجزئه.
بطبيعة الحال هذا راجع لعدم القدرة على إخضاع العقل لنور الإيمان وعمل الروح القدس، لأن محاولة إستيعاب موضوع التدبير الإلهي بالعقل فقط ينتهي بالضرورة للنتيجة التي أشرنا إليها أي للشطط الفكري، والسقوط في إنحرافات كثيرة. وهنا يجب أن تشير إلى حقيقة مؤكدة، وهي أن الهرطقات بالأساس تمثل تيار فكري يستمد وجوده من فلسفات سابقة عليه ، فالنسطورية على سبيل المثال تستند إلى فلسفة تنادي بأن :
- اللاهوت لا يقبل الولادة.
- وأن الله لا يمكن أن يأخذ جسداً، ولذلك فهو لم يتجسد بل إتصل بالإنسان يسوع المسيح.
وبهذا تنتهي النسطورية إلى نتيجة محددة وهي أن التجسد لم يكن حدثًا حقيقيًا، بل مجرد إتصال خارجي. لذلك كان الآباء يُشدّدون على أهمية وضرورة الإيمان بشخص إبن الله، الذي أعلن عن ذاته في ملء الزمان، بصورة تدعو لقبول هذه الحقيقة بلا فحص أو بحث أو تفكير كثير، وهذا قد تجلّي بصورة واضحة في تعاليمه وفي حياته وفي معجزاته، الأمر الذي لا يجوز معه حتى مجرد التفكير أو التردد في الإقرار بالوهية المسيح.
جوهر التعاليم الخريستولوجية للقديس كيرلس
يُعد القديس كيرلس، واحد من آباء الكنيسة الكبار الذين لعبوا دورًا محوريًا وأساسيًا، في مقاومة الهراطقة. وقد فهم تعليم الكنيسة الخريستولجي على أنه الأساس الذي يُبنَي عليه الوعي والإدراك اللاهوتي بشكل عام ، لأن الخريستولوجي كما يرى، هو أساس كل التعاليم اللاهوتية الأخرى. ولما كانت حاجة الكنيسة الجامعة في القرن الخامس إلى إتفاق عام حول المصطلحات والتعبيرات والألفاظ، فإن جهد القديس كيرلس قد إنصب أساسا على وضع تحديدات واضحة للمصطلحات اللاهوتية على نحو يزيل ذلك اللبس واللغط الذي أثاره الهراطقة حول الكثير من الألفاظ الخاصة بموضوع الخريستولوجي. وقد بدأ نشاطه اللاهوتي المكثف إعتبارًا من ٤٢٩م فصاعدا، عندما بدأ الجدل الخريستولوجي يأخذ مسارا مختلفا، وذلك حين قام نسطور بطرح أفكاره الخاصة بالطبيعتين في المسيح، وإعتراضه على لقب والدة الإله. فمعظم كتاباته قبل هذا التاريخ كانت تتجه نحو الأعمال التفسيرية لأسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد لكن هذا لا يعني على الإطلاق أنه لم يكن مطلعًا على التعاليم الخريستولوجية للكنيسة في عصورها الأولى، لأنه قرأ الكثير من كتابات الآباء الذين سبقوه، وتعمق فيها، وذلك في فترة الإستعداد التي قضاها في برية شهيت (٣٩٤ – ٣٩٩)، حيث قرأ العهدين القديم والجديد، وتتلمذ فيها على يد الأب سرابيون الشيخ خليفة القديس مقاريوس الكبير وهذا ما أشار إليه هو نفسه في تحديده لملامح تلك الفترة بقوله: [ منذ الصغر تعلّمنا الكتب المقدسة على يد آباء أرثوذكسيين وقديسين]. بل إنه تفاعل مع هذه الكتابات، وخاصة كتابات كليمنضس الأسكندري، والعلامة أوريجينوس والقديس ديديموس الضرير والقديس أثناسيوس كما إطلع على كتابات باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ودرس اللغات القديمة مثل العبرية والسريانية وكتب باليونانية، وكانت هذه الكتابات هي القاعدة التي انطلق منها والأساس الذي بني عليه في مواجهته للهرطقات.
أعقب ذلك دراسته في مدرسة الأسكندرية اللاهوتية. ثم إستدعاه البابا ثاؤفيلس بعد ذلك، ليرسمه قارئا ومنذ ذلك الحين بدأ في شرح الكتب المقدسة. وبسبب محبته الشديدة للمعارف اللاهوتية، ونبوغه المبكر في العلوم اللاهوتية، إصطحبه البابا ثاؤفيلس إلى المجامع سواء مكانية أو مسكونية، وكان حاضرًا معه سنة ٤٠٣ مجمع السنديانة بالقسطنطينية الذي عُزل فيه القديس يوحنا ذهبي الفم. وإن كان القديس كيرلس قد ألغى هذا الحرم فيما بعد بتأثير من القديس إسيذورس الفرمي سنة ٤١٧ م ، وأعاد ذكر إسمه في صلاة المجمع. وكان قد رسم قسا بالأسكندرية في سنة ٤٠٤م، ثم خلف البابا ثاؤفيلس في كرسي البطريركية وأصبح البطريرك الـ ٢٤.
إعتبارًا من سنة ٤٢٩م بدأ يأخذ موقف واضح من نسطور بسبب تعاليمه غير الصحيحة عن الطبيعتين في المسيح، ورفضه للقب والدة الإله كما سبق القول . في نفس العام أرسل له رسالة فصحية، يوضح له فيها عدم صواب تعاليمه، ثم تبع ذلك تبادل للرسائل فيما بينهما. إلا كليهما توجه برسالة إلى كلستينوس بابا روما يشرح فيها موقفه، بعد أن أصر نسطور على التمسك بتلك التعاليم. وبدوره عقد كلستينوس مجمع سنة ه٤٣٠م أدان فيه تعاليم نسطور أعقب ذلك أن أرسل القديس كيرلس رسالة إلى نسطور تحتوى على ۱۲ حرم ثم طلب منه أن يوقع عليها ، لكنه رفض.
الحرومات الإثني عشر:
جوهر هذه الحرومات هي التأكيد على أن المسيح واحد وهي كالآتي:
- الحرم الأول: لمن لا يعترف أن عمانوئيل هو الله بالحقيقة.
- الحرم الثانى: يؤكد أن المسيح هو إله وإنسان معاً.
- الحرم الثالث: يؤكد أن الاتحاد هو اتحاد أقنومى واتحاد طبيعى وليس اتحاد من الخارج أو اتحاد الكرامة.
- الحَرْم الرابع: يؤكد أن ما يصدر عن المسيح من أقوال يُنسب إلى المسيح الواحد لا نقسم الأقوال بين أقنومين.
- الحَرْم الخامس : يرفض أن ينظر إلى المسيح كمجرد إنسان يحمل الله.
- الحرم السادس: يرفض القول بأن الكلمة هو إله وسيد المسيح.
- الحَرْم السابع : يرفض القول بأن كلمة الله يعمل في يسوع المسيح كإنسان.
- الحرم الثامن: يرفض القول بإن الإنسان الذي اتخذه الكلمة ينبغى أن يُسجد له مع الله الكلمة.
- الحَرْم التاسع: يتكلم عن العلاقة مع الروح القدس فيرفض القول بإن المسيح كان يستخدم القوة التى من الروح كما لو كانت خاصة بقوة غريبة عنه ولا يقول إن الروح خاص به، والذى به عمل المعجزات.
- الحَرْم العاشر: يرفض القول بأن الإنسان المولود من امرأة هو آخر على حده غير كلمة الله.
- الحرم الحادى عشر: يؤكد أن جسد الرب هو معطى الحياة لأن هذا الجسد يخص “الكلمة ولم يحصل فقط على حلول إلهى. هو جسد “الكلمة” الخاص به ولذلك يستطيع أن يهب الحياة.
- الحَرْم الثانى عشر: علينا أن نعترف أن كلمة الله تألم بالجسد وصلب بالجسد ، وذاق الموت بالجسد
وعلى أثر هذا كله، كانت الدعوة لإنعقاد مجمع مسكوني للبحث في مدى إستقامة تعاليم نسطور، وموافقتها لإيمان الكنيسة، وبحلول عام ٤٣١م عُقد المجمع المسكوني الثالث في أفسس (غرب تركيا حاليا) بدعوة من الأمبراطوار ثؤدسيوس الصغير، وإنتهت أعمال المجمع، بصدور قرار يقضي بحرم نسطور.
والواقع إن إصرار نسطور على هذه التعاليم المنافية لجوهر الإيمان المستقيم هي التي دفعت القديس كيرلس إلى تقرير هذه الحرومات.
لأنه وفقاً لهذه التعاليم يكون من المستحيل تجديد طبيعة الإنسان، بل ويبطل عمل النعمة الإلهية فإنكار إتحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح الواحد معناه إنكار الإتحاد بالله الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان بالنعمة. فالإنسان لا يمكنه الإتحاد بالله بواسطة قدراته الذاتية، مهما كانت، فلولا التجسد الإلهي ما إستطاع أحد أن ينال هذه العطية الإلهية الفائقة الوصف.
فهدف التجسد كما يقول القديس كيرلس: [أن تتمجد طبيعتنا بكل أمجاد اللاهوت] و [لقد نزل الإبن إلى حالتنا لكي يرفعنا إلى كرامته الإلهية]، لقد خلقت الإنسانية من جديد في المسيح وتكونت من خلال إتحاد اللاهوت بالناسوت في الكلمة المتجسد. وهذا ما سبق وأن أشار إليه القديس إيريناؤس بقوله: [ما الذي أحضره المخلص عند مجيئه، أعلم أنه آتي بكل الجدة (الجديد) بإنه حضر بنفسه وهو نفسه الذي سبق التنبؤ عنه لأن هذا قد أُعلن جهارًا أن هناك جدة سوف تآتي، لتجدد الإنسان وتعطيه الحياة]. ويقول القديس كيرلس أيضًا بأن القيامة [ برهنت على أنه أقوى من الموت والفساد لأنه الحياة بل والمحي]، ولذلك فقد أكد على حقيقة الإتحاد بين الطبيعتين في المسيح، قائلا: [بدون الإتحاد يصبح لدينا أثنين أحدهما هو الكلمة، والثاني هو يسوع] ويشرح القديس كيرلس هذا الأمر بمثال فيقول [ ألا نقول نحن أن أي إنسان منا هو واحد وله طبيعة إنسانية واحدة رغم أن طبيعته ليست بسيطة، وأنما مركبة من أثنين أي النفس والجسد، وهل يمكننا أن نفصل الجسد عن النفس المتحدة به، ونقسم الشخص الواحد (الأقنوم) إلى أثنين، ألا يلغي ذلك وحدة الإنسان].
إذن يجب علينا أن لا تُقسم عمانوئيل إلى إنسان منفصل عن كلمة الله، لأن تصوّر نسطور قائم على هذا الفصل، إذ يرى أن الإبن الوحيد الله الكلمة، إتصل بهذا الإنسان المولود من مريم، وصار هذا الإنسان يشترك في الإسم وكرامة الإبن أي أنه يُحسب مع الإبن الوحيد في إسم وكرامة البنوة والربوبية ولذلك كان إهتمام القديس كيرلس منذ بداية هذا الجدل الخريستولوجي، هو التأكيد على أن المسيح واحد من طبيعتين متحدتين، لكن هذا الإتحاد لا يعني مساواة اللاهوت بالناسوت. يقول تعليقاً على هذا الأمر: [كيف يستطيع إنسان أن يرى طبائع الأشياء وقد امتزجت إلى الحد الذي يصبح فيه اللاهوت والناسوت واحدًا ؟] ثم يُضيف [أننا نعتقد بأن اللاهوت ليس هو الناسوت وألا كيف يحدث الإتحاد بينهما ؟]. ويستشهد بما قاله الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس “وإن كان إنساننا الخارجي يفني فالداخل يتجدد كل يوم” (٢كو ١٦:٤)، إذ هو يميز عقليا فقط بين الأثنين، ولكننا ندرك أنه في الواقع إنسان واحد، رغم أن النفس توصف بالإنسان الداخلي والجسد بالإنسان الخارجي.
يقول أيضًا : [الذين يبدلون الحق الواضح لا يعلمون أنه بالحقيقة طبيعة واحدة متجسده للكلمة… وعندما إتخذ جسدا بنفس عاقلة وولد إنسانًا من إمرأة ظل الواحد بعينه الذي لا يمكن تقسيمه إلى أقنومين وأبنيين].
وهذا هو ما سجله في الرسالة العقائدية الرابعة (أمشير سنة ٤۳۰م) مؤكداً:
[ نحن لا نقول أن طبيعة الكلمة قد تغيرت حينما صار جسداً. وأيضًا نحن لا نقول أن الكلمة قد تغيّر إلى إنسان كامل من نفس وجسد بل بالأحرى نقول أن الكلمة قد وُحد مع نفسه أقنوميًا ، جسدًا محييا بنفس عاقلة، وصار إنسانًا بطريقة لا يمكن التعبير عنها أو إدركها].