منشور الاتحاد الهينوتيكون

‏محاولات استرجاع الوحدة في كنيسة الله 

لا أحد من النفوس التقية يقبل الانقسام في كنيسة الله، إلا غير الأتقياء فقط، فهم الذي يسرهم بل ويعملون على تمزيق ثوب جسد المسيح أي كنيسته تحت ادعاء الحق والدفاع عن الأرثوذكسية. وكما كان في القرن الخامس بعد مجمع خلقيدونية هكذا في كل جيل. حتى جيلنا الحاضر هناك معركة بين دعاة الوحدة في كنيسة الله وهم الحاملون لواء الإيمان الحق، وبين المستميتين في تمزيق ثوب جسد المسيح بالادعاء بـ “الأرثوذكسية”، والأرثوذكسية منهم براء.

ونحن نعرض لتاريخ كنيستنا لنتعظ مما حدث من مآس أدت في النهاية إلى خسارة عمت على الجميع على حد المثل القائل: “أعظم النار من مستصغر الشرر” و “شرارة صغيرة كفيلة أن تحرق البيت على كل من فيه”، لعل الجميع ينصت لصوت العقل ويعمل مع الأتقياء لوحدة الكنيسة لمجد الله.

حالة الكنيسة بعد مجمع خلقيدونية:

كما أوضحنا من قبل لقد لاقت كنيسة الإسكندرية وكنيسة أنطاكية وكنيسة أورشليم الأمرين على يد أصحاب السلطة الزمنية في القرن الخامس من جراء تمسكهم بإيمان الكنيسة الأرثوذكسية كما علمت به المجامع المسكونية الثلاثة (نيقية سنة ٣٢٥ ، القسطنطينية سنة ٣٨١، أفسس سنة ٤٣١). وكان شهيد الأرثوذكسية الأول بدون سفك دم هو البابا ديوسقوروس ثم خليفته البابا تيموثاوس الثاني.

تأثير الكنيسة الأرثوذكسية في سوريا ولدى الأباطرة:

وقد كان أتباع البابا ديوسقوروس من الكثرة ما صعب على مقاوميهم أن ينفوهم أو يمحقوهم أو يسيطروا عليهم، وقد امتد تأثيرهم إلى سوريا أيضاً. وكما يشهد العلماء اللاهوتيون الحديثون فإن علماء الكنائس اللاخلقيدونية – آنذاك – كانوا هم الأكثر قدرة في كل العالم المسيحي[1]، وظلوا في القرون من الخامس إلى السابع، قادرين على أن يقلبوا قرارات مجمع خلقيدونية رأساً على عقب[2]. وكانوا يقولون: “نحن الأرثوذكس الحقيقيون لأننا نتبع تقليد أثناسيوس وكيرلس، ولسنا ملوثين بهرطقات نسطور ولاون”. ومن المؤكد تاريخياً أن كثيرين في مدينة القسطنطينية كانوا يحسون روحياً في نفوسهم أنهم أكثر التصاقاً بكنائس الشرق من كنيسة الغرب (روما)، وقد أعطى هذا الإحساس التلقائي لتعليم كنائس الشرق قبولاً حسناً في البلاط الملكي أكثر مما كان متوقعاً، وقد ظهر هذا التعاطف واضحاً شديد الوضوح في المجمع الذي عُقد في القسطنطينية عام ٥٥٣ (والمعتبر لدى الكنائس البيزنطية أنه المجمع المسكوني الخامس). فهذا المجمع بالرغم من أنه لم يجحد مجمع خلقيدونية إلا أنه أكد على عقيدة الطبيعة الواحدة، ولكن دون موافقته على إدانة اللاهوتيين الأنطاكيين الذين عبروا عن آراء مضادة لآراء البابا ديوسقوروس. فقد كان هناك إحجام عن النطق بالحرم على أناس ماتوا منذ ١٠٠ عام.

المقاومة تستعصي على الأباطرة:

وقد حاول الأباطرة عبثاً أن يكسروا حدة المقاومة للقرارات العقائدية المجمع خلقيدونية (سنة ٤٥١). وكما رأينا، فقد عبأوا كل نفوذهم وقوتهم التي يستطيعون بها فرض آراء هذا المجمع، ولم يترددوا في أن يُمارسوا العنف من أجل أن يفرضوا أساقفة مشايعين لهذا المجمع على الإيبارشيات التي لا تنصاع لأوامرهم، وحتى إذا طرد مثل هؤلاء الأساقفة كانوا يعيدونهم بالقوة.

هذه السياسة في التدخل السافر العنيف والذي مارسه الإمبراطور مرقيانوس، استمر أو استؤنف بواسطة خلفائه وهم: الإمبراطور لاون، ثم زينون على الأقل قبل عام ٤٨٢م، حينما أصدر منشور الوحدة – الهينوتيكون، ثم جوستين الأول، ثم جوستنيان، ثم جوستنيان الثاني الذي مارس التدخل حتى عام ٥٧١م.

معارضون داخل البلاط الملكي

ولكن حتى هذه الأعمال القمعية كان يُبطئها ويُعرقلها المعارضة المؤثرة من داخل عقر دار الحكومة، مثل: القائد ذو النفوذ القوي “أسبار” ومثله “آلان” تحت حكم الإمبراطور لاون، وزوجة جوستنيان الإمبراطورة “ثيئوذورا” التي مارست تأثيراً فعالاً جداً في معارضة آراء زوجها الإمبراطور الموالي للكنائس الشرقية.

وكان طبيعياً أن هؤلاء الأباطرة حينما كانوا يتواجهون مع المقاومة الشديدة وغير المذعنة، كانوا أحياناً يتأرجحون في أفكارهم، فيُغيّرون اتجاهاتهم بطريقة فجائية ويتبعون سياسة مخالفة بديلة، فيحاولون إيجاد طرق للمصالحة أو بتعبير أدق للاتحاد مع الكنائس المعارضة.

أول محاولة للاتحاد (الهينوتيكون):

هذه السياسة اتضح نجاحها إلى حد ما، من حيث إن الثغرة العقائدية التي كانت تفصل بين الطرفين كانت تبدو متسعة وغير ممكن تجاوزها. وهكذا إذ تأثر الإمبراطور زينون جداً بتشبث هذه الكنائس برأيها (بعد أن كان مُحارباً مُضطهداً لها منذ سنة ٤٧٦م) غير رأيه، حتى أنه في عام ٤٨٢ أصدر مرسوماً سمي بمرسوم “الاتحاد” أو “الهينوتيكون من كلمة “هينوس Henos” أي الواحد، وذلك تحت تأثير البطريرك القسطنطيني أكاكيوس (٤٧١ – ٤٨٩)، الذي غير هو أيضاً رأيه وموقفه من انحيازه المجمع خلقيدونية، وكان ذلك بفضل المراسلات الحكيمة الرزينة الحبية بين البابا الإسكندري الجديد “بطرس الثالث”، وبين هذا البطريرك الذي كان قد سبق وأصدر حرماً ضد كنيسة الإسكندرية وباباها من قبل (البابا تيموثاوس الثاني).

أثر المراسلات السلامية الحبية بين الخصوم

ومن يقرأ هذه المراسلات اليوم – وليت يقرأها كل من يعنيهم الأمر – يتعلم كيف يمكن أن تحول سياسة المحبة والحوار والدبلوماسية في المقارعة مع الخصوم، تحوّل الخصوم إلى أحباء وتغيّرالانقسام ليعود اتحاداً. فليقرأها كل من يُعادي ويطعن ويُشهر بأعلام الكنيسة ويستعدي الآخرين على الخصوم ! حيث يُظهر البطريركان كل مشاعر التوبة الصادقة والاعتراف بالخطأ. ولا يمكن أن تتم المصالحة، وبالتالي الوحدة في كنيسة الله، بدون توبة الجميع والاعتراف بالخطأ من الجميع، لأن الانقسام هو خطية الجميع.

ملخص منشور الاتحاد:

وقد خاطب منشور الاتحاد: الأساقفة والإكليروس والرهبان وشعب الله في بطريركية الإسكندرية، واعترف بدستور الإيمان الذي سبق أن أصدره مجمع نيقية المسكوني الأول سنة ٣٢٥ والذي حضره ۳۱۸ أسقفاً وثبته مجمع المائة وخمسين أسقفاً المجتمعين في القسطنطينية سنة ٣٨١، ثم قرارات مجمع أفسس سنة ٤٣١؛ بالإضافة إلى الاثني عشر حرماً التي أصدرها القديس كيرلس الكبير، وقد استخدم التعبيرات المختصة بالمساواة في الجوهر للمسيح مع الإنسان وهي التي ذكرها أول من ذكرها القديس كيرلس الكبير في خطاب استرجاع الوحدة مع المشارقة، ورفض المنشور أي حديث عن انفصال أو اختلاط بين الطبيعتين في شخص المسيح. وشمل الحرم كلاً من أوطاخي ونسطور. ولم يجحد المنشور صراحة مجمع خلقيدونية، بل استخدم عبارة يمكن قبولها من كل الأطراف وهي : ونحن نحرم كل من علم أو يُعلِّم بأفكار أخرى سواء في خلقيدونية أو في أي مجمع آخر. وهي تعود على كلا الطرفين الذين اعترفوا بمجمع خلقيدونية، أو الذين لم يعترفوا به، أو الذين ظلوا نسطوريين في قلوبهم. كما لم يعترف المنشور صراحة بمجمع خلقيدونية.

ردود الفعل على منشور الاتحاد

وقد تراوح رد الفعل لهذا المنشور ما بين مؤيد له وجاحد. وقد أيده البابا بطرس الثالث (٦)، واعتبر أن هذا المنشور هو أساس طيب لاسترجاع الوحدة في كنيسته. ونشره في محفل عام وعلم الجموع بما فيه وحث على قراءته في كل مكان. بينما اتخذ أسقف روما موقفاً عدائياً إلى حد أنه حرم المنشور وأصدر حرماً ضد البطريرك القسطنطيني أكاكيوس والإمبراطور أنسطاسيوس (خليفة زينون) كليهما !

وكان هذا الإنشقاق بين كنيسة روما وكنيسة القسطنطينية من أكثر الانشقاقات خطورة في تاريخ الكنيستين قبل الانفصال الكبير بينهما سنة ١٠٥٤م.

واستمر هذا الانشقاق بين الكنيستين حوالي ٣٤ عاماً ( ٤٨٤-٥١٩م) لحين اعتلاء الإمبراطور جوستينيان العرش وتأييده السافر المجمع خلقيدونية. بينما استمر هذا المنشور الوحدوي مستمراً ٣٦ عاماً في التوحيد بين كنيستي الإسكندرية والقسطنطينية.

أما خلفاء البطريرك أكاكيوس، فبينما كانوا يرفضون أن يدينوا ذكرى سلفائهم، وبينما كانوا يتظاهرون بقبول الهينوتيكون، إلا أنهم كانوا موالين في قلوبهم لمجمع خلقيدونية. لذلك كان الإمبراطور أنسطاسيوس يعزلهم الواحد تلو الآخر، وذلك ما بين عامي ٤٩٦ – ٥١١م.

وحدث هذا بالمثل في سوريا وفلسطين، حيث كانت كنيسة أنطاكية وكنيسة أورشليم قد وقعتا تحت يد الأساقفة الذين كانوا يتظاهرون بالولاء لمنشور الاتحاد ليظهروا أنهم أرثوذكسيون؛ لكن بقاء أحد الغيورين على قيد الحياة وهو “القديس فيلوكسينوس المنبجي ، كان فرصة لأن يقاومهم لأنه كان أحد القلائل الذين عاشوا منذ الأجيال السابقة بعد موت أبطال منشور الاتحاد هذا، وعلى رأسهم أكاكيوس بطريرك القسطنطينية، وبطرس الثالث بابا الإسكندرية، وغيرهما، ما بين ٤٨٨ – ٤٩٠م. ولكن بعد عدة تقلبات في الأحوال، انتصر فيلوكسينوس أخيراً.

ففي عام ٥١٥ م عُزل البطريرك الأنطاكي الدخيل المفروض من السلطة الزمنية، واستبدل بالراهب العالم ساويرس. وفي عام ٥١٥ م ، قدم البطريرك ساويرس الأنطاكي تفسيراً أرثوذكسياً لهذا المنشور مضاداً لمجمع خلقيدونية، ليكون له فضل السيادة على مجمع صور الذي كان متذبذباً في رد فعله تجاه هذا المنشور.

مصير مشروع الاتحاد

لم يلق منشور الاتحاد “الهينوتيكون” الإجماع من أي من أساقفة ورهبان الفريقين. ففي الكنيسة اللاخلقيدونية ذاتها وجد من الأساقفة من تشكك في أرثوذكسية إعلان الإيمان هذا، إذ لم يجدوا فيه جحداً صريحاً لمقررات مجمع خلقيدونية العقائدية ولطومس لاون (أي إعلان لاون الذي قرره هذا المجمع). كما أن البعض من رهبان كنيسة القسطنطينية في دير الذين لا ينامون Acoemetae والبطريرك الأنطاكي كالانديون، كانوا مشمئزين منه

وحتى في الكنيسة القبطية انفصل بعض الأساقفة المصريين عن الشركة مع بطريركهم البابا بطرس الثالث، ظناً منهم أنه وافق على دستور مجمع خلقيدونية واعترف بالطبيعتين المنفصلتين في المسيح، فتدارك البابا بطرس الأمر ودعا أساقفة الإيبارشيات إلى مجمع في الإسكندرية وعرض عليهم صورة المراسلات بينه وبين البطريرك القسطنطيني أكاكيوس وصورة مرسوم الاتحاد. فاقتنع بعضهم، غير أن مجموعة منهم أبت إلا توقيع الحرم والحكم ضد البطريرك أكاكيوس، فرفض البابا طلبهم، فانفصلوا من شركته وقطعوا العلاقة معه، واستقلوا بأنفسهم وعرفوا بالذين لا رأس لهم acephalos

أما كنيسة روما التي كان يرأسها فيلكس الثالث فقد رأينا كيف حرم المنشور والبطريرك أكاكيوس. لذلك، فلم تنعم الكنيستان الخلقيدونية واللاخلقيدونية بالاتحاد إلا مدة ٣٦ عاماً فقط، ثم تعاقب على كنيسة القسطنطينية بطاركة رفضوا المنشور وعادوا مرة أخرى إلى الانقسام والتغرب عن إخوتهم في الإيمان في مصر وسوريا.

ولم يدروا أن هذا الخرق الذي مزق ثوب جسد المسيح سوف يتسع خرقه قليلاً قليلاً حتى تأتي جحافل الجراد بعد ما لا يقل عن مائة عام لتأكل الحنطة والزوان معاً، ويحترق البيت كله بكل من فيه!

  1. ‏ Henry Chadwick, The Early Church, Penguin Books, 1988, p. 206.
  2. ‏ Gerald Bray, Creeds, Councils & Christ, Inter Varsity Press, 1984, p. 164.
  3.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى