قد سبيتِ قلبي يا أختي العروس
«قد سبيتِ قلبي يا أختي العروس، قد سبيتِ قلبي،
بإحدى عينيكِ، بقلادة واحدة من عنقك»
(4: 9)
المعنى الإجمالي أن العروس قد أسرت قلب المسيح بنظرة حب واحدة، وبعمل واحد من أعمال الإخلاء عندما أخضعت عنقها تحت نير المسيح.
في الحقيقة إن عبارات نشيد الأنشاد ليست للعزاء وليست للفهم كمثل ما نفهم أي موضوع دراسي؛ ولكنها للحياة والممارسة، وذلك بترديدها المستمر على مدى الساعات والدقائق واللحظات هي هي عبارات تقال نبضات القلب.
فإذا كنت تريد أن تستفيد من هذا السفر لا تكتف بقراءته، بل اجعله وسيلة للممارسة القلبية اليومية لمحبتك للمسيح ممارسة تملأ الحياة كلها بكل لحظاتها، حتى أثناء الأكل، أو في طريقك للعمل. أثناء وقوفك في التسبحة، حينما تكون في المائدة، في ساعة نومك…. إنها ممارسة لا تكف، فمع كل نَفَس تتنفّسه، مع كل نبضة من قلبك، تُقدّم حبَّك للمسيح.
«قد سبيتِ قلبي يا أختي العروس قد سبيتِ قلبي»
لاحظ التكرار في قوله «قد سبيتِ قلبي»، فالتكرار هو لغة الحب بين الأحبة.
«سبيتِ» أي سرقتِ، أي صار قلبي مسبيًا لحبك، مغلوبًا لهذا الحب. فمسرَّة الله هي أن يُغلب من تحننه، فرحته هي أن يُغلب من محبة أولاده. وفي موضع آخر في السفر يقول آية مشابهة: «حولي عني عينيك لأنهما قد غلبتاني» (نش ٦: ٥)
«سبيتِ قلبي»: لغة القلب هي الوحيدة القادرة أن تسبي قلب الله الكلام الذي يخرج من قلبك هو وحده الذي يصل إلى قلب المسيح؛ أما الذي يخرج من الشفتين فيضيع في الهواء ولا يصل إلى حضرة الله. لذلك احرص دائما أن تكون صلواتك صادرةً من قلبك. هذه الصلوات التي لا يدرى بها الناس ولكن أبوك السماوي وحده يراها ويجازيك عنها.
يقول الله في سفر إرميا : «وتطلبونني فتجدونني إذ تطلبونني بكل قلبكم» (إر ۲۹: ۱۳) وعكس ذلك هو : «هذا الشعب يُكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعد عني بعيدا» ( مر ٧: ٦)، لذلك رفض المسيح هذا الشعب. أما الذي يُصلّي من كل قلبه فهذا تصل صلاته وصراخه للمسيح وتسبي قلبه.
ولكن لماذا التركيز على القلب؟ لأن طبيعة الله هي المحبة، حسب تعريف ق. يوحنا في آية تُعتبر أقصر وأصدق تعريف لطبيعة الله: «الله محبة». فإذا أردت أن يصل صوتك إلى الله، أو تتكلم لغة الله فلا هي لغة عربية ولا قبطية ولا يونانية، ولا أية لغة أخرى … إنما فقط لغة القلب، أي المحبة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الله.
«يا أختي العروس»
لاحظ اقتران كلمة «عروس» بكلمة «أختي»، هذا يُبيّن أن المقصود هو عرس بتولي من أرقى ما يمكن بعيدا تماما عن مفهوم العرس الموجود بين الناس. إنه عرس على مستوى الحب الإلهي على مستوى الحب المتبادل بين الآب والابن والذي طلب المسيح أن ينسكب داخل قلوبنا، وذلك في آخر جملة من صلاته على الأرض: «ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به» (يو ١٧: ٢٦). لذلك نقول إن هذا الحب يفوق تماما كل المفاهيم البشرية عن الحب وعن العرس.
«يا أختي»
الرب من فرط تحننه جعل نفسه أخا لنا بالتدبير قال للمجدلية مباشرة بعد القيامة: «اذهبي قولي لإخوتي…» (يو ۲۰: ۱۷). المسيح أدخلنا في عهد أُخوَّة معه بالصليب والقيامة. فقد شقَّ بالصليب الحجاب الفاصل بيننا وبين الله – أي الخطية – وأدخلنا في عهد بنوّة للآب وأخوّة له «ليكون هو بكرًا بين إخوة کثیرین» (رو ۸: ۲۹).
هناك قول في بستان الرهبان يُبيِّن كيف تعيش النفس في عهد أخوة دائمة مع المسيح. وقد جاء هذا القول ضمن مجموعة أقوال للقديس أنبا مقار، ولو أنه غير منسوب له صراحةً بل إلى شيخ . وهو يحكي عن أخت (تمثل النفس البشرية) ذهبت مع أخيها (المسيح) إلى عيد القرية، وكان أخوها ممسكًا بيدها، وهكذا لم تستطع أن تعمل أي جهالة «لأن أخاها كان ممسكًا بيدها»، وكان شبان القرية يشتهونها، ولكنهم لم يستطيعوا أن يعملوا بها شيئًا، «لأن أخاها كان ممسكًا بيدها»… وتستمر القصة بتكرار مقصود لهذه العبارة ٨ مرات: «لأن أخاها كان ممسكًا بیدها». وتنتهى بهذه الخاتمة:
[فما دامت النفسُ ذاكرةً اسم ربنا يسوع المسيح الذي صار لنا أخا بالتدبير، فإنه يكون في كل وقتٍ ممسكًا بيدها. وإن أراد الأعداء غيرُ المنظورين خداعها فلا يستطيعون أن يفعلوا بها شيئًا لأن أخاها ممسك بيدها .. … إن هي تمسكت في كل وقت بالاسم المخلص الذي لربنا يسوع المسيح ولم تُرخِه]
(بستان الرهبان، قول ٦٢).
«بإحدى عينيك»
أي بنظرة واحدة من نظرات الحب التي تُقدِّمينها إلى إن نظرة واحدة مملوءة بالحب الصادق المقدَّم للمسيح لها قيمة كبرى لدى الحبيب، وكفيلة بأن تسبي قلبه.
تتكرر كثيرًا في المزامير العيون المرفوعة أمام الله :
+ «إليك رفعتُ عيني يا ساكن السماء» (مز ۱۲۲ في الأجبية)،
+ «رفعت عينيَّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني» (مز ۱۲۰)،
+ «عيني إلى الرب كل حين لأنه يجتذب من الفخ رجلي» (مز ٢٤)،
+ تبددت عظامهم عند الجحيم لأن عيوننا إليك يا رب» (مز ١٤١).
هذه المزامير اختبرها آلاف الرهبان الذين سبقونا في هذه البرية وذاقوا بها المعونة الفائقة الناتجة من رفع العينين إلى الرب.
نقرأ في العهد القديم قصة معبّرة جدًا تُبرز قيمة رفع العينين إلى الرب. حدثت هذه القصة في أيام يهوشافاط الملك حينما اجتمعت ثلاثة جيوش على أورشليم: بنو عمون، ومؤاب وجبل ساعير، فصلى يهوشافاط للرب وقال: «ونحن لا نعلم ماذا نعمل ولكن نحوك أعيننا» (٢أي ۲۰: ۱۲)… وكانت النتيجة باهرة إذ أن هذه الثلاثة جيوش قامت بعضها على بعض وأفنوا بعضهم بعضا، ولم يتبق على يهوشافاط وشعبه إلا أن ينهبوا الغنيمة!
«بقلادة واحدة من عنقك»
القلادة في العنق من أدوات الزينة: «ما أجمل خدَّيكِ بسموط وعنقَكِ بقلائد» (نش۱: ۱۰)، وبالنسبة للإنسان المسيحي، فما يُزيّن عنقه أن يحمل نير المسيح.
«بقلادة واحدة من عنقكِ» تعني بعمل واحدٍ من أعمال حمل نير المسيح، أي من أعمال الإخلاء وإماتة الذات حبًّا في المسيح؛ هذا العمل الواحد قادر أن يسبي قلب المسيح.
وأعمال الإماتة في الرهبنة كثيرة، كأن تختار الموضع الأخير وتكون آخر الكل، أو تُقدّم الآخرين عليك، أو تقوم بالأعمال الحقيرة.
كذلك من أعمال الإماتة التي تسبي قلب المسيح أن تتحمل في صمت من أجل الرب ما يأتي عليك أن تتهم ويُفترى عليك باطلاً لأي الأسباب… ولكنك تبلع ريقك، وتقبل بشكر، مع أن ذلك يكون مرا في حلقك، ولكنك تُصمِّم على السكوت وعدم الدفاع أو الرد.. هنا في هذا الموقف تكون قد سبيت قلب المسيح.
فيكون لسان حالك ما جاء في البستان: «كنتُ قادرًا على أن أجيبك بما يوافق كلامك هذا، ولكن ناموس إلهي يُغلق فمي» (قول رقم ٤٦٤). فمن أجل حب المسيح ومن أجل حمل نيره قبلت بكل سرور أن لا أرد عليك.
ويجيب المسيح على ذلك:
«قد سبيتِ قلبي يا أختي العروس… بقلادة واحدة من عنقك».
«العنق» تعبير عن إماتة الذات قطع العنق معناه الموت وتقديم الحياة حتى الموت. يمتدح بولس الرسول أكيلا وبرسكيلا لأنهما «وضعا عنقيهما من أجل حياتي» (رو ١٦: ٤) أي لأنهما جازفا بحياتهما لكي ينقذوا الرسول.
الراهب العمال الذي يريد أن يرضي المسيح كهدف أول وأخير لحياته، عليه أن يجعل هذه الآية موضوع تأمله ويرددها على مدى الليل والنهار: «قد سبيتِ قلبي يا أختي العروس بإحدى عينيكِ وبقلادة واحدة من عنقك»، وعليه أن يطلب من المسيح أن يُعلمه كيف يقدِّم له نظرات الحب التي تسيبي قلبه، وكيف يقدم أعمال الإخلاء وإماتة الذات بل تقديم العنق والحياة كلها حبا في الملك المسيح: «من أجلك نُمات كل النهار، قد حسبنا مثل غنم للذبح» (رو ۸: ٣٦)