التقليد الرسولى 

بدايةً يجب التأكيد على أن التقليد أو التسليم قد حفظ من خلال الذاكرة الجماعية للمؤمنين، فالكثيرون منهم كانوا قد سمعوا عظات الرسل بشكل مباشر. وكان من الطبيعي أن تُطرح مسألة مدى صحة التسليم الرسولى بعد انتقال الرسل. وقد إهتم أولئك الذين سمعوا عظات الرسل في هذه الفترة بأن يعثروا على معلومات شاملة عن محتوى عظات الرسل. وكان أبرز من اهتم بتجميع هذه المعلومات هو بابياس الكاتب المعروف لفترة ما بعد الرسل. وقد تعهد بابياس مسئولية تجميع معلومات عن عظات الرسل، وبذل في ذلك محاولات كبيرة جدًا لمقابلة أكبر عدد من الذين سمعوا الرسل بشكل مباشر. 

معنى التقليد في العهد الجديد 

التقليد الذي عاشت به الكنيسة منذ تأسيسها وحتى الآن، يُمثل المصدر الذي استمدت منه تعليمها، وبواسطته توثق إيمانها . لأن المصدر هو المسيح وقد سلّمه بنفسه للرسل ” لأني تسلمت من الرب ما سلمته لكم ” (۱كو۲۳:۱۱ ) ، والرسل سلموا الكنيسة هذه المعرفة التي نالوها. ولذلك لا يستطيع أحد أن ينادي بفهم خاص للحياة المسيحية دون أن يعود للآباء القديسين الذين سلّموا لنا الإيمان، هذا الإيمان ” المسلّم مرة للقديسين ” (يهوذا ۳). والقديس أثناسيوس كما سبق وأشرنا ، يشهد للآباء الذين حفظوا وديعة الإيمان ولتقليد الكنيسة وتعليمها الذي سُلّم بواسطة الرسل منذ البداية، بقوله: ” دعونا ننظر إلى تقليد الكنيسة وتعليمها وإيمانها الذي هو من البداية، والذي أعطاه الرب وكرز به الرسل وحفظه الآباء. أيضا يقول القديس كيرلس الأسكندري: [إن الآباء القديسون الذين جاءوا بعد آباء نيقية، وكانوا رعاة للشعب، وأنوار للكنائس، ومعلمين مهرة جدا للاسرار، هؤلاء قد حفظوا الإيمان الموضوع والمحدد من آباء نيقية بدون نقص]، أى أن الآباء كانوا أهلاً لهذه الأمانة، لأنهم حفظوا هذه الوديعة كما أعطاها الرب، وكما كرز بها الرسل وهذا ما يشهد بها القديس غريغوريوس النيسي، إذ يقول: [ويكفي للتدليل على صحة تعليمنا أن التقليد قد انحدر إلينا من الآباء كميراث تسلّم إلينا من الرسل بواسطة القديسين الذين أتوا بعدهم]. هذا ما تمارسه الكنيسة على امتداد تاريخها، فقد عاشت بالتقليد المسلم إليها وحافظت عليه وانتقل هذا بسهولة ويسر من جيل إلى جيل. إذ أن الضامن لاستمرارية الإيمان والتعليم، هو الروح القدس ذاته الذي عمل في الآباء، ومازال يعمل في الكنيسة حتى الآن. وهكذا يؤكد القديس باسيليوس على [أن تسليم الآباء هو بكل يقين ما تمارسه الكنيسة][1]. وعلى قاعدة هذا التسليم وهذا اليقين تأسست الكنيسة. 

داخل هذا الإطار سنبدأ أولاً بتوضيح البعد اللغوي الخاص بمصطلح التقليد أو التسليم، ثم بعد ذلك نتناول كيفية إستخدام مصطلح التسليم عبر المراحل التاريخية المختلفة بغية الوصول إلى فهم صحيح لمعنى التسليم الرسولي في العهد الجديد، ثم بعد ذلك نشير إلى أهمية التفسير الخريستولوجي داخل إطار التقليد، وسيتبع ذلك تناول موضوع المجال الذي يعمل فيه التقليد، ومن هم المعبرون عن التقليد. 

البعد اللغوي الخاص بمصطلح التقليد أو التسليم 

إن مصطلح “التسليم”، ليس من المصطلحات المعتادة في العهد الجديد، يرد ذكره فقط في بشارتي متى ومرقس، (مت٢:١٥ ، ٣، ٦) (مر ۷: ٣، ٥ ، ٨ ، ۹، ۱۳) كما استخدمه الرسول بولس أيضًا. لكن مصطلح ” التسليم” كما جاء في رسائل القديس بولس يحمل المعاني الآتية : 

۱ – التعليم الخاطئ الذي يعتبر أن الإنسان هو المركز (كو ٨:٢). 

۲ – مجمل تعليم الديانة اليهودية (غل ١٤:١). 

٣ – التعليم الرسولي الذي يُشكّل محتوى التقليد (اكو٢:١١، ٢ تس ٢ : ١٥، ٦:٣). 

تحتوي الرسائل الرعوية على مصطلح مشابه لمصطلح التسليم، وهو مصطلح الوديعة أو الأمانة (pαρακαταθήκηوهو مأخوذ من الحياة التجارية، وقد استخدمه الرسول بولس حين كتب لتيموثاوس، وكان الهدف من إستخدامه، هو التاكيد على الثقة في شخص تيموثاوس الذي سيخلفه في تقديم التعاليم المستقيمة (١تيمو٢٠:٦، ٢ تيمو ١: ١٤.١٢) هنا حدث تغيّر في لهجة الحديث بسبب ظهور الهرطقات، كما أن الوصية لم تُشر فقط إلى التعليم، بل كانت أيضًا تؤكد على أهمية التعليم الصحيح. إن الفعل pαραδίδοναι أي سلم، هو من الكلمات المعتاد إستخدامها، أما من حيث معناه كمصطلح، وإستخدامه للاعلان عن التعاليم العقيدية، ونماذج العبادة والقانون الأخلاقي الذي تسلمته الكنيسة عبر تاريخها المتصل، فلا يرد ذكره بشكل مستمر في العهد الجديد. هكذا يُستخدم هذا الفعل في إنجيل القديس مرقس (۱۳.۷) وأيضا في (أع ١٤.٦)، في الاعلان عن انتشار التقليد الرباني، ويرد ذكر نفس الفعل في أسفار موسى كمشرع وكمصدر، والذي استقى منه الأتقياء أعراف الأمة. المعنى المقابل نجده في (أع ٤:١٦) أي فيما يخص المرسلين من قبل المجمع الرسولي، إذ كان لهم سلطانا واضحا على المؤمنين الآخرين. كما أن معنى الفعل (سلّم) واضح أيضا في المواضع الثلاثة التي أشار إليها الرسول بولس بشأن التقليد الخاص بالتعليم الذي سلمه إلى أهل كورنثوس ( ١ كو٢:١١ ، ٢٣ ، ٣:١٥). 

الموضوع الأول يمتدح فيه القديس بولس ثبات المؤمنين على تعاليمه، وفي الجزء الثاني يشير إلى قيامة الرب كمصدر للتسليم الخاص بتعليمه عن الافخارستيا ، بينما في الجزء الثالث يأتي محتوى التسليم الرسولي متمثلاً في الدستور الأول للمسيحيين، والذي أخذه من كنيسة أنطاكية، كما يُعتقد. وفي هذه المواضع الثلاثة يُعتبر القديس بولس – بصفته رسول – ضامنًا لصحة التسليم، ولكن كما تسلمه من الرب. وأخيرًا في موضع رابع ( في رو ٦ ١٧): يقول ” صورة التعليم التي تسلمتموها “، وهنا يُشير إلى أن مصطلح pαραδοση أي تسليم، مرتبط بالتعاليم الشفاهية أيضًا. 

أما عن محتوى التسليم الرسولي، فهناك معنيين مختلفين وردا بالرسائل الجامعة. هكذا نجد في ( ۲ بط ۲ : ۲۱) أن الإيمان المسيحي والحياة المسيحية هى (الوصية المقدسة المسلّمة)، أى أنها تأخذ المكانة التي كانت للتوراة عند اليهود . هذا بالإضافة إلى الاشارة التي وردت في رسالة (يهوذا ۳) بشأن تفرّد الإيمان المسيحي وثباته ونقاءه هنا يظهر تأثير صراع الكنيسة ضد الهراطقة والذي يُلزمها أن تتحصن خلف حصون ثابتة وقوية ونعني بذلك تقنين التقليد، وهكذا يصبح من غير الممكن للهراطقة أن يخترقوا حقل التعليم الكنسي. 

 

كيفية إستخدام مصطلح “التسليم عبر المراحل التاريخية المختلفة: 

الحقيقة المؤكدة أن التسليم أو التقليد يُشكل ظاهرة مشتركة في كل الديانات، فهو كتسليم للعقائد والعبادة، والوصايا الأخلاقية من جيل إلى جيل، يهدف إلي تعليم الأجيال اللاحقة بهذه الأمور، والتأكيد على ضرورة حفظ الاعلانات التي تحققت في الماضي، وهكذا ينشأ التسليم أو التقليد والتسليم بهذا المعنى من حيث أنه موجود في كل ديانة، كان في بدايته تسليما شفاهيًا ومتنوع الأشكال، ثم إتخذ نموذجًا محددًا وصار مكتوبًا في مرحلة ثانية، وهكذا اكتسب وضع قانوني بالنسبة للجماعة الدينية في مرحلة ثالثة. 

فخبرات شعب إسرائيل في لقاءاته مع الله، واختياره كشعب الميراث، ظلّ لسنوات عديدة، تقليدا شفاهيًا ، ثم صيغ في مرحلة ثانية، وبدأت الصياغة بالناموس، ثم كتب العبادة، لأن هذين العنصرين الناموس والعبادة يحملان أهمية خاصة لحياة الشعب اليهودي. وقد شكل تسجيل التقليد البداية بالنسبة للعهد القديم. وهنا يجب أن نؤكد على الملمح الخاص بتقليد العهد القديم، الذي تشكل أو تكوّن في ضمير الرواة على مر الزمان فالبعد التاريخي للتقليد، والخبرة التي تكونت لدى الشعب في إطار المعجزات التي صنعها الرب، يُشكلان الأساس الذي يقوم عليه التفسير، وهذا يقود إلى الفهم المستقيم والدقيق للتقليد هكذا فإن الله الذي استُعلن في الأسفار الخمسة الأولى هو الخالق الذي خلق العالم والإنسان، والذي استُعلن في التاريخ، وقاد شعبه لسنوات طويلة. فهو الذي اختار الآباء، والذي حرّر شعبه من العبودية، وأقام معه عهدًا في سيناء، وقاده فيما بعد إلى أرض كنعان بقيادة موسى ويشوع هذه الأحداث المعجزية، اكتسبت مبكرًا ملامح قانونية يمكن الرجوع إليها في مسيرة الشعب اللاحقة، وهكذا صارت هذه الأسفار الخمسة الأولى، كتابًا لليهودية، وبقى هكذا حتى اليوم. وصار الناموس بمثابة البوصلة لحياة الشعب وموسى هو الضامن لكل تعليم ديني صحيح. لكن كان هناك خطر يتمثل في ما قد يُصيب التقليد المكتوب بالجمود، وهذا الخطر قد رآه الأنبياء مُبكرًا، ولذلك فقد اعترضوا على هذا الأمر بشكل واضح، مُذكرين أن الله هو مصدر الاعلان، ومنه يؤخذ التقليد الحقيقي، والوصايا الأخلاقية خاصةً و وأن تغيّر الأوقات، قد تطلب تكيّف الناموس مع الظروف الجديدة. لكن الكتاب قد انحصر بشكل أساسي في الأسفار الخمسة الأولى، ومن أجل هذا سمى ناموسا أى قانونًا إلهيًا للحياة، وبقى هكذا حتى اليوم. وربما أستبدل اليهود – دون أن يدروا – الإيمان بالله الذي تشهد له الأسفار الخمسة الأولى بالإيمان بهذه الأسفار في حد ذاتها. والنتيجة هي تحويل الشهادة الحية لعمل الله إلى التمسك بالحرف المكتوب الجامد البعيد عن الحياة. وقد حاولت الكتابات الرؤيوية أن تملأ هذا الفراغ، بخلق تقليد جديد ، مفسر للكتاب. 

أيضًا من الملامح الخاصة بالروح الذي ساد في تلك الفترة، أن كل من الرؤيويين والربانيين قد حاولوا أن يُرجعوا تفسيراتهم وتعاليمهم إلى أشخاص مقدسين، وإلى الشيوخ الذين استأمنهم موسى على بعض الأسرار. وهكذا جعلوا التقليد مساءً للكتاب في الصحة، وذلك بالرجوع إلى الاعلان الإلهي في سيناء. لكن رؤيتهم من جهة هذا الإعلان لم تحمل شهادة لله، بل إن التقليد وفقًا لهذه الرؤية قد إكتسب استقلالية في ذاته، وخرج خارج إطار الزمن، وصار له كيانا أبديًا إلى جوار الله. إلا أن هذه الرؤية في الحقيقة، لا تتفق من حيث المحتوى مع القصد الإلهي

لقد كانت المناداة بالتقليد الرباني بالنسبة للشعب البسيط، تعني عمليًا تحميله بحمول ثقيلة ينئ بحملها. وهذا لأن هناك آلاف التفاصيل الخاصة بالوصايا والنواهي التي حددها الناموس والتقليد اليهودي يطلب من بسطاء الناس أن يتمموا المستحيل، دون أن يترك لهم إمكانية معرفة الهدف من وراء هذه الوصايا والنواهي والفائدة التي تُجنى من ورائها ، لكي ما يستطيعوا أن يفهموا ، ويقتربوا من الله.

أما إذا إنتقلنا إلى الحياة المسيحية، فيصبح الكتاب المقدس هو المرحلة الأخيرة التي تُضاف للمراحل السابقة. ووجوده لا يؤدي إلى محو التقليد الشفاهي، بل يصبح فقط هو العنصر السائد في الحياة الكنيسة. لكن أيضًا التقليد في إرتباطه بالكتاب المقدس له أهمية كبيرة، لأنه يُساهم في تقديم تفسير للكتاب بما يتناسب مع التحولات والظروف الحياتية. 

أهمية التفسير الخريستولوجي في إطار التسليم أو التقليد 

لا يكفي في هذا الإطار أن نشير إلى التعاليم والأعمال التي صنعها الرب يسوع والتلاميذ في زمن معين لأن ذلك يعني أننا ننظر إلى الأمر في بعده التاريخي فقط، وبالطبع هذا يُعد أمر يخص موضوع التحقق التاريخي، وهو أمر هام وضروري بالنسبة للمؤرخ، لكنه ليس كذلك بالنسبة للاهوتي التاريخ يُمثل فقط الساحة التي بداخلها يتحقق سر التدبير الإلهي في المسيح. وهنا يجب أن نؤكد على أهمية التفسير الخريستولوجي داخل إطار التقليد. فكما أن العهد القديم يستند في صحته إلى اعلان الله في سيناء، هكذا فإن العهد الجديد يستند في صحته إلى شخص المسيح القائم من بين الأموات. ولا مجال هنا لتحليل النصوص، التي تؤسس لهذه المكانة أو ذلك الموقف وهي كثيرة ومعروفة، بل الهدف هو إظهار مدى أهمية التفسير الخريستولوجي تحت مظلة التسليم أو التقليد، حتى تتضح أهمية هذا التقليد. 

إن غلبة المسيح على الموت، وظهوراته للتلاميذ هي التي تؤسس الكنيسة وتجعلها تتمكن من التعرف على ذاتها وعلى وجودها الحقيقي داخل الزمن. فيسوع المسيح القائم من بين الأموات هو حاضر على الدوام وفي كل لحظة داخل الكنيسة، وهو الضامن لمسيرة حياتها ، وهو المعيار الحقيقي لتقليدها. وهكذا فإن التقليد لا يمكن أن يستقر بذاته أو يثبت بذاته، ولا يوضع في ماضي بعيد، بل بالعكس يبقى على الدوام يُشير إلى المسيح . تماما كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم في مقدمة تفسيره لإنجيل متى [ن الأناجيل المكتوبة هي نتيجة لخطية الإنسان التي تعوقه أن يسمع الكلمة مباشرة، والحضور الحيّ للمسيح القائم من بين الأموات هو الذي يُشكل الضمان، والبداية للفهم الصحيح للإنجيل والتقليد ، وليس العكس ] ” فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهى التي تشهد لي ” ( يوه : ٣٩ ). 

فالمسيح القائم من بين الأموات هو الذي يجعل فهم الماضي أمرًا ممكنًا، بمعنى أن كلام وأعمال يسوع، بل وكل سر التدبير الإلهي الذي تحقق في المسيح تصير أمورًا مفهومة، في ضوء القيامة، وتحت قيادة الروح المعزي إذن فالاعتبارات التاريخية تدخل في سر التدبير الإلهي، وتكتسب معناها بحضور المسيح القائم من الموت. فبعدما تمجد يسوع، تذكر التلاميذ أعماله، وأدركوا أهميتها ، هكذا على سبيل المثال نستطيع أن نفهم نحن أيضًا وبشكل صحيح موقف المسيح من تقاليد الشيوخ، فقط حين نتذكر أنه لم يكن معلّما للناموس حتى يستقي حقيقته من اتفاقه مع الناموس ولا نبيًا يستدعي حضور كلمة الله، بل هو الكلمة الذي قام من الأموات وصعد إلى السموات وجلس عن يمين أبيه. 

إن المقابلات التي وردت في الموعظة على الجبل ” سمعتم أنه قيل للقدماء .. أما أنا فأقول لكم ” (مت ٥ : ٢١ ، ۲۲ ، ۲۷)، تفهم بشكل صحيح، في ضوء القيامة التي كشفت عن شخص ذاك الذي كان يختفي خلف كلمة “أما أنا”، أى الرب يسوع. وهكذا يتضح أن تعليم المسيح في مواجهة التقليد القديم والناموس، لا ترمي إلى تشكيل نموذج نبوي جديد ولا لنموذج رباني أو رؤيوى يهدف للتكيف مع الظروف الجديدة للحياة، بل تهدف إلى عودة العلاقة مع الله إلى سابق عهدها، تماما مثلما أعلنها هو نفسه، بظهوره في الجسد. بهذه الطريقة يصبح التقليد تعبيرًا عن العلاقة الحيّة بين الإنسان والله، بل أن العهد القديم يكتسب الآن معنى جديداً بعد قيامة المسيح. ويتم تفسيره بطريقة خريستولوجية من قبل الكنيسة، بل يُفسر كنسيا أيضًا، طالما أن الكنيسة هى جسد المسيح فالنبوات التي جاء بها الناموس، تُشير إلى مجيء المسيح ، بصرف النظر عن التفسيرات المتنوعة (نماذجية رمزية روحية .. الخ) والتي استخدمتها الكنيسة لفهم العهد القديم. وهكذا لا يمكننا أن نتجاهل التفسير الخريستولوجي لأنه هو الذي يُشكل ملمحها الأساسي. 

إذن فقد بات من الواضح أن التركيز على معيار الفهم الصحيح للتقليد كميراث يخص الكنيسة، والتأكيد على سلطان حضور الله في تاريخ شعبه، يُشكلان البداية للتعرف على خطة التدبير الإلهي من أجل خلاص البشر. هذا التاريخ الممتد . بكل ما يحمله من أحداث. يكتسب معناه بحضور المسيح فيه. فحيث يوجد المسيح، توجد الكنيسة ويتحقق الخلاص، وليس حيث يستمر تاريخ شعب بيولوجيا وتاريخيًا. 

وهكذا يتضح أن التقليد لا يمكن أن ينحصر في دراسة الشكل ،والأسباب، ولا ينحصر في بعض النصوص القديمة، بل لكي يكون صحيحا وحقيقيًا، ينبغي أن يحمل محتوى حقيقي، وأن يشهد لكل الأعمال المعجزية التي صنعها الآب بالابن في الروح القدس منذ القدم وحتى أواخر الدهور. وإلا ستتعرض لخطر تحويل الإيمان بالإله الخالق المحي، إلى الإيمان بنماذج إنسانية، وأشكال لغوية. 

ولهذا فحضور المسيح القائم من بين الأموات وسط شعبه، يمثل الرجاء الحي للمؤمنين وإستعلان للخليقة الجديدة، التي بدأت بتجسد الكلمة. وهذا أمر مرتبط بالإيمان بالله ضابط الكل، وبخبرة الحياة الجديدة التي تجلّت وإستعلنت بالقيامة. 

المجال الذي يعمل فيه التقليد 

إن المجال الذي يتحقق فيه التقليد، كتسليم مستمر للإيمان، والعبادة، والأخلاق، لا يمكن أن يكون سوى المجال الكنسي الذي فيه يتحقق حضور دائم للمسيح القائم من الأموات. وهذا يُشكل حقيقة أساسية تُستنبط ليس فقط من الأجزاء التي أشرنا إليها في البداية، بل من خلال ميلاد العهد الجديد ذاته كتجميع للتقليد. هذا أمر طبيعي جدا ، طالما أن الكنيسة هي جسد المسيح القائم، وصوت الروح المعزي الذي يشهد باستمرار لسر التدبير الإلهي.

وحتي نشرح هذا الأمر، نستعرض بعض النصوص التي توضح ذلك. في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، يضع الرسول بولس أقدم دستور للإيمان المسيحي، يقول: ” فإنني سلّمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب وأنه دفن وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب” ( ١كو ٥.٣:١٥ ) وهذا النص يُمثل ملخصاً للإيمان، ومن المحتمل أن يكون القديس بولس قد استلمه في أنطاكية، ونقله إلى كورنثوس لقد أدخل هذا النص، ليؤكد على إنجيل الخلاص، وعلى الإيمان الفريد الذي يمكن أن يُخلّص الإنسان. بالطبع هذا يتحقق داخل الكنيسة فقط، حيث تُسمع الرسالة المفرحة، رسالة الخلاص الموجهة للجميع هذا الدستور ذاته، يحمل توجها كنسيا والعبارة التي استخدمت مرتين في الآيتين (۳ ، ٤) أي حسب الكتب، هي عبارة سريعة وموجزة، ولكنها تقود إلى نفس الأساس التفسيري الذي أشرنا إليه سابقاً. فالأمر لا يتعلق بالحرف كما كان الحال في العهد القديم، لأن الإشارة إلى الموت الخلاصي وبهاء قيامة المسيح، يتعلق بتطبيق التفسير الخريستولوجي لنصوص العهد القديم، وهكذا يمكن القول بأنه يُعِمد الكتاب المقدس كله في اسم المسيح، ويجعله كتاب إسرائيل الجديد ويعطيه للمرة الأولى اسمه الحقيقي الدليل على استقامة التفسير المسيحي، هو حضور المسيح القائم من بين الأموات وسط شعبه وصوت الروح المعزي ، وشركة الآب، وهذه ملامح إكليسيولوجية واضحة. 

لنأخذ نصا آخرًا ( ۱كو ۲۳:۱۱)، حيث يُذكر الرسول بولس بتسلّمه سر الافخارستيا، الذي استلمه كما يقول “من الرب”. وكما هو واضح أن الرسول بولس هنا يحمل ضميرًا كنسيا، أي قائم على أساس إكليسيولوجي ينبغي أن يوضع عليه السر. فحين يقول “من الرب” لا يعني أنه أخذه عندما تسلّم السر، بل يعني أن السر، هو سر المجال الذي يعمل فيه الرب كسيد ، أى أنه يتوجه نحو الكنيسة ولهذا يُذكر بمكانته كعضو في جسد المسيح (الكنيسة)، بأن يُشير إلى مصدره. فتعبير ” من الرب” يعني أن السر هو سر الكنيسة كجسد المسيح وبناء عليه فإن مكانه الصحيح هو فقط داخل الكنيسة. التسليم أو التقليد لا يتحدد من خلال استمرارية التعليم في حد ذاته، بل هو انتشار النور في المجال الليتورجي، وأيضا هو لا ينحصر في كلمات، بل في القوة التي ترافق التعليم على الدوام. 

إذن فالكنيسة هي المجال الذي يتحقق فيه التقليد. وقد دعت الضرورة إلى صياغة وتجميع لبعض مقتطفات التقليد وتسجيلها في كتب مثل: كتب التسابيح تجميع أحاديث النصح والإرشاد، القوانين الأولى، وذلك لخدمة احتياجات الحياة الكنسية. كل هذا قد تأكد وجوده في مجمل أسفار العهد الجديد. وهذه الأمور لم تكن نتاج لقرارات مجامع ، بل قد نشأت وانتشرت داخل الكنيسة، وقُرأت في الاجتماعات التعبدية، لكي تعبر عن روح الكنيسة. والواقع أن الإهتمام بهذا التسليم المكتوب، كان الهدف منه أيضًا كشف حيل وخداع بعض الهراطقة الذين كانوا يُروّجون لكتب مدسوسة تحمل أسماء رسل وتلاميذ. ولهذا تصدت لهم الكنيسة إستنادًا إلى تقليدها الرسولي المحفوظ لديها. لقد كان هذا بالحقيقة هو صوت الروح القدس الذي يُوجه الكنيسة. 

المعبرون عن التقليد 

ظهور بعض الاتجاهات المتحمسة والمنحازه لبعض الهرطقات وللغنوسيين، ولتقاليد يهودية في بعض الكنائس الأخرى، طرح مسألة خاصة بتحديد هوية المعبرين عن التقليد والحافظين له في العصر الرسولي. لأن هؤلاء المتحمسون للهراطقة إستبعدوا الجانب التاريخي تماماً، واكتفوا فقط بالإشارة إلى حضور الروح القدس، وحولوا المسيحية لنظرية ميتافيزيقية مطلقة. أما الذين قبلوا بتقاليد يهودية فقد تجنبوا مبدأ التفسير الخريستولوجي، ونظروا إلى المسيح بحسب الجسد كرمز يمكن الإقتداء به واعتبروا المسيحية مجرد هرطقة يهودية، مُدّعين أنهم ظلوا أمناء للكتاب المقدس (العهد القديم). وهذان الانحرافان، شكلا في البداية تضليلاً وتزييفا للحقائق، قاد فيما بعد لتفسير خاطئ للتقليد ولم يكن يسوع بالنسبة لهؤلاء هو الرب القائم من بين الأموات، الذي يُعيد خلق الكون باستمرار، ولكنه كان شخصًا مصلحًا فقط. أما الغنوسيون فقد قالوا إن يسوع هو كائن يسمو على الطبيعة، دون أن يكون تجسده حقيقة. 

ولاجل هذا كله ربطت الكنيسة بين التقليد الحقيقي وبين المعبرين الأوائل عنه، أى تلاميذ المسيح والرسل، وهؤلاء الرسل المبشرين بالقيامة هم المعبرون عن التقليد لأنهم وكلوا من الرب يسوع أن يبشروا المسكونة كلها بحضوره المحيي، وأن يشرحوا ويفسروا عمله على الأرض ، وأن يخبروا بملكوته الذي بدأ بالقيامة وسيكتمل في الأبدية. هكذا أخذ الرسل هذه المكانة الخاصة في الكنيسة، والتي ستبقى على الدوام علامة مُضيئة في الحياة المسيحية. والكنيسة تجد في شهادتهم وفي إيمانهم، التعبير الحقيقي عن إيمانها. 

إن بشارة العهد الجديد في مجملها تعتمد على التسليم الرسولي لأن هذا التسليم هو الذي يشكل التعبير الحقيقي عن إيمان الكنيسة. إذ هي مبنية على هذا الأساس أي أساس الرسل، الأمر الذي يعني أن الكنيسة تبقى كنيسة ، فقط حين تبقى مستندة بصفة دائمة على الكرازة الرسولية. لقد عاش الرسل سر التدبير الإلهي في المسيح بشكل كامل، لأنهم أُختيروا من الله ليعبروا عن هذا السر ويبشروا به وهذا يُعد إمتياز خاص، لكنه إمتياز لصالح الكنيسة تحت مظلة الروح القدس الذي يجمع أعضاء الجسد الواحد في شركة محبة واحدة. وإمتياز الرسل مرتبط بكون تعليمهم هو الذي يشكل التقليد، وقد أتمنوا من خلال مسحة الراعي التي لهم أن يُسلموا وديعة الإيمان التي تسلموها كما هي، لتلاميذهم، وللأساقفة الذين أتوا بعدهم. هذه الجزئية الأخيرة بقدر ما هي مرتبطة بالعهد الجديد، وبقدر ما تُشكل بداية لكل رؤية مستقيمة وصحيحة للتقليد ، إلا إنها ترتبط بحقل التاريخ الكنسي بشكل أساسي. 

خطورة التفسيرات الخاطئة: 

انتشار المسيحية في كل المسكونة ودخول أُناس يحملون أفكارًا متباينة وتقليدات مختلفة، أدى إلى طرح تفسيرات كثيرة ومتنوعة عن المسيحية. وكثيرون من المسيحيين المثقفين، وخاصة في روما وفي المدن الكبرى الأخرى، قد أعطوا لأنفسهم الحق في تأسيس مدارس خاصة، وفي هذه المدارس نشأت مجموعات دينية لشرح التعاليم المسيحية على المستوى المكاني. وهكذا استطاعوا أن يبثوا أفكارهم المضللة وتفسيراتهم الخاصة عن المسيحية باعتبارها تعاليم تعكس التقليد الرسولى[1]. الذين تبنّوا هذا التعليم بشكل أساسي، هم الغنوسيون، وهؤلاء رفضوا التقليد، وادّعوا أنهم يمتلكون تعاليم غير معروفة عن الكنيسة. لكن الكنيسة الجامعة اعتبارًا من القرن الثانى أكدت وشددت على أهمية التسليم الرسولى، وعلى مسئوليتها في حفظ هذا التسليم. وقد أدت الكنيسة هذه المسئولية بكل أمانة، وانتقل التسليم الرسولي من جيل إلى جيل كتعليم موثوق في صحته وسلامته من أي انحراف 

أخيرًا فإن كلمة رسولي ترتبط بشكل مباشر بعمل الكرازة، فالرسل أخذوا وصية من المسيح أن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.إن حفظ التسليم الرسولي والتأكيد على أهميته من قبل الكنيسة، يكتمل من خلال نشر التعاليم الرسولية القديس أثناسيوس يعتبر أن التقليد والتعليم والإيمان هم أمر واحد وأن الآباء هم الذين حفظوا الإيمان. وعلى هذا الأساس تأسست الكنيسة. ويضيف أيضًا: [وبحسب الإيمان الرسولي المسلّم لنا بالتقليد من الآباء، فإني قد سلّمت التقليد بدون ابتداع شئ خارجًا عنه. وذلك قد رسمته مطابقا للكتب المقدسة]. 

هذا التسليم الرسولي الذي حافظت عليه الكنيسة وإنتقل من جيل إلى جيل وحتى الآن لم يُحفظ كنصوص وكلمات جامدة بل هو كيان حي. فالكنيسة ليست متحفاً للتاريخ، بل هي تيار حياة ونبع رجاء لكل العالم. هكذا فإن التسليم الرسولى ليس مجرد صيغ وأفكار ونظريات وافتراضات، بل هو أولاً احتكام إلى شهود قديسين شهود للإيمان الحى والحقيقى .. الكنيسة غير مقيدة بالحرف لأنها تحيا بالروح والروح هو الذي يقود مسيرة الكنيسة حتى المنتهي. 

  1. περί του Αγίου πνεύματος 61-39
  2.  Βλ. Γ.Ι. Μαντζαρίδη κοινωνιολογία του χριστιανισμού θεσσαλονική 1990.173.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى