هل الدين هو السبب الحقيقي للعنف في العالم؟
هل الدين هو سبب كل هذا العنف الذي في العالم؟ هل سبب كل هذا القتال متأصل بطريقة أو أخرى في المعتقدات الدينية؟ البعض يؤكد ذلك.
على سبيل المثال، قبل الله قربان هابيل، لكنه لم يقبل قربان قايين. يقول الكتاب المقدس: «فاغتاظ قایین جدا» (التكوين ٤: ٥). وقام قايين لاحقًا بقتل هابيل وكانت أول أعمال العنف بين البشر التي سجلها الكتاب المقدس متأصلة في مسألة دينية. وقد تبعها العديد من أعمال العنف على مر التاريخ البشري، والتي كاتب ترتبط بطريقةٍ مباشرة، أو غير مباشرة بالدين.
أشار الكاتب والأستاذ جا. هارولد إلين (J. Harlod Ellen) في كتابه بعنوان «قوة الدين المدمرة» إلى أن الدين هو سبب العنف في العالم. وفيما يلي تعليق على شبكة الإنترنت يقدم الكتاب:
«سواء قادوا الطائرات لاختراق مركز التجارة العالمي أو البنتاجون، أو فجَّروا السفن والموانئ والمباني الفيدرالية، أو قتلوا الأطباء والممرضات في عيادات الإجهاض، أو أبادوا الفلسطينيين المعاصريين، أو قتلوا الجنود الإسرائيليين من خلال عمليات التفجير الانتحارية، يتشكل جميع المتدينين المدمرين بنفس التعبيرات المجازية التي تتعلق بالأحداث المرعبة التي سوف تحدث في المستقبل، ولا يمكن إدراكها، وكذلك بالمثال الإلهى والتخطيط للعنف.»
بدايةً من العبودية المصرية لبني إسرائيل، إلى الحروب الصليبية الدينية في القرون الحادي والثاني والثالث عشر، وحتى صراعات يومنا الحاضر في جميع أنحاء العالم، يرى الكثيرون أن الدين قوة للعنف، أكثر من السلام. ولعل هذا السبب ما دفع الراحل كريستوفر هيتشنز (Christopher Hitchens)، وهو أحد الكتاب والمتحدثين الملحدين، إلى كتابة العبارة التالية: «الدين يُسمّم كلَّ شيء». كما كان للملحد فريدريك نيتشه (Friedrich Nietzsche) في القرن التاسع عشر وجهة نظر مهينة بالقدر نفسه عن المسيحية عندما قال: «إنها قد ملكت إرادة الوصول إلى الغاية الأخيرة الممكنة من الفساد.. ولم تدع شيئًا دون أن تلمسه بفسادها، كل قيمة حولتها إلى لا قيمة، وكل حقيقة إلى كذب، وكل أمر مشرف إلى حطة للروح.»
لكن هل الدين، وتحديدًا المسيحية هي سبب العنف في العالم؟
بلا شك حدثت حروب عنيفة باسم الله. لكن الدين ليس السبب الوحيد، أو الأكبر لهذا العنف في العالم. ويجب الاعتراف بأن الأنظمة العلمانية، مثل الحكومات الماركسية، ارتكبت أكبر عمليات إراقة الدماء في القرن العشرين. على الأقل مائة مليون قتلوا في الصين الشيوعية والاتحاد السوفيتي وكمبوديا وأنظمة شيوعية أخرى. نعم، في القرن العشرين وحده.
بحث الأسباب النهائية
ليست المسيحية أو الدين أو الأيدولوجية العلمانية هي أقصى سبب للعنف، بل هو ينبع من قلوب البشر الأنانية. قال يسوع إن سبب الشر والعنف في العالم ليس في ظروف خارجية، أو وجهات نظر دينية متضاربة، بل «من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زني ،فسق شهادة ،زور، تجديف. هذه هي التي تنجس الإنسان» (متی ۱۵: ۱۹، ۲۰).
تسبب قلب البشر الأناني الذي يتبنى الطمع، والحسد، والغيرة، والكبرياء، والكراهية في العنف المدمر في العالم. وللأسف كثيرًا ما يحدث ذلك باسم الدين. وفي الواقع، الحسد والقلب المتكبر هما الذين تسببا في ثورة الشيطان ضد الله. لذا فالعنف كان موجودًا معنا منذ البداية، لكن الدين والتعاليم التي قدمها يسوع لم تكن مسؤولة عن هذا العنف مطلقًا.
في حالة تركها بلا رادع سترجع الطبيعة البشرية دائمًا إلى طرق العمل من أجل مصلحتها ومنفعتها الشخصية، التي تسعى إلى الكسب على حساب الآخر. وكثيرًا ما يستخدم الناسُ العنف لتحقيق أهدافهم. لكن على الجانب الآخر من المعادلة، تدعو رسالة يسوع إلى الاهتمام بالآخرين، ورعايتهم، بما لا يقل أهميةً عن نفسك. وفي الواقع، هذه هي جوهر تعاليمه التي تمثل قلب الله. قال يسوع: «فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم؛ لأن هذا هو الناموس والأنبياء» (متى ٧: ۱۲).
على الرغم أن البعض قد شنوا حروبًا، واستعبدوا الناس، وحاولوا بعنف السيطرة على الآخرين باسم الدين، سواء في الماضي أو الحاضر، لم تكن هذه هي المسيحية الحقيقية. وعَنَّا.. لماذا نوجه اللوم إلى المسيحية عندما يتصرف الأشخاص بما يخالف تعاليم يسوع ومثاله؟ لأن المسيح هو «رئيس السلام» (إشعياء ۹: ٦) وعلى مدار التاريخ، لا يوجد شك في أن أتباع المسيح المخلصين كانت لهم قوة فدائية للسلام والخير في عالمنا.
إن رؤية يسوع قادت أتباعه إلى تعزيز جهود السلام والإنسانية، وفرض حماية للأطفال، والذين لم يُولدوا بعد، ووضع قوانين عمل الطفل، وفصل الكنيسة عن الدولة، والحرية والعدالة، ورعاية كل المحتاجين في جميع أنحاء العالم. إن يسوع وتعاليمه بعيدون كلَّ البُعدِ عن العنف؛ ما عزّز المزيد من الخير، وقد قدمت هذه التعاليم مساهمات إيجابية في المجتمع، أكثر من أية قوة في التاريخ.
هل يمكن أن يُبيد الله البشر إبادة جماعية؟
يُقصد بالإبادة الجماعية القتل العمد لمجموعة كبيرة، أو أمَّة معينة، على أساس عرقي أو سیاسي أو ثقافي. وتُعد كلمة الإبادة الجماعية مزيجًا من اليونانية واللاتينية وتعني «قتل جنس معين». وكانت الفظائع التي ارتكبها هتلر والجيش النازي ضد اليهود عملية إبادة جماعية. فقد حاصر النازيون حوالي ستة ملايين يهودي، وقتلوهم في الفترة من ١٩٣٨ حتى ١٩٤٥. كما قُتِل أكثر من مليوني مواطن من كمبوديا على يد جيش بول بوت للخمير الحمر في الفترة من ۱۹۷۵ حتى ۱۹۷۹. وخلال مائة يومٍ في عام ١٩٩٤ ، قُتِل بوحشية أيضًا حوالى ۸۰۰ ألف من التوتسي في رواندا على يد الميليشيات المسلحة لقبيلة الهوتو. وفي الفترة من ۱۹۹۲ حتی ۱۹۹۵، قام الصرب بعملية «تطهير عرقي» للبوسنة والهرسك، بعد أن قتلوا أكثر من ٢٠٠ ألف مسلم في البوسنة. لم تكن هذه الحالات سوى أمثلة قليلة من الإبادة الجماعية التي ارتكبها البشر ضد بعضهم البعض في التاريخ الحديث.
تثير أعمال القتل التي يرتكبها بلا رحمة مجموعة من البشر، الاشمئزاز؛ لأنها ضد شعورنا بالأخلاق والحرية والعدالة ويبقى السؤال: هل يمكن أن يشارك الله في مثل هذه الأعمال الوحشية ضد شعب أو عرق معين؟ هل من الممكن أن يُبيد الله البشر إبادة جماعية؟
في سفر التثنية، قال الله لبني إسرائيل: «بل تحرمها تحريماً: الحيثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمرك الرب إلهك» (التثنية ۲۰: ۱۷) وبعد سنوات يقول الكتاب «فضرب يشوع كل أرض… لم يُبقِ شاردًا، بل حرم كل نسمة كما أمر الرب إله إسرائيل» (يشوع ۱۰: ٤٠). لذلك اتَّهم البعض من أمثال الملحد كريستوفر هيتشنز، الله، بارتكاب الإبادة الجماعية قائلًا: «كان الكنعانيون يُطردون من بيوتهم بلا رحمة أو شفقة؛ حتى يُفسحوا المكان لبني إسرائيل المتمردين والناكرين للجميل.» لذلك هل كان إلها بلا رحمة، يمحو عند حمو غضبه أجناسًا كاملة من البشر ؟
دافع الله
أولًا: لم تكن أية عملية قتل من الله في العهد القديم إبادة جماعية. فقد كان الدافع لذلك مخاوف أخلاقية، لا بسبب الجنس أو العرق. لم تكن الإبادة الجماعية ببساطة داخل طبيعته. وخلال الإجابة عن السؤالين: «ما هو الله حقًّا؟ وهل الله عنيف» اكتشفنا أن الله رحيم ورؤوف (المزامير ۱۰۳: ۸)، وقدوس وبــار (المزامير ۱٤٥: ۱۷ ؛ الرؤيا ۳: ۷)، وعادل ومنصف (المزامير ۱۱۹: ۱۳۷، ۱۳۸). والله لا يتسرع في الحكم، بل هو بطئ الغضب وكثير الرحمة (المزامير ۱۰۳: ۸). لكنه جاء ليدين الأرض. يدين المسكونة بالعدل والشعوب بأمانته (المزامير ۹۶: ۱۳) فليس في طبيعته، بتاتًا، ظلم، أو أن يكون ظالمًا.
لن يكون الله كاملا ومُحِبًّا دون أن يكون عادلا أيضًا، ويقضي بالعدل. ولا يمكن أن يدير وجهه عند ارتكاب الشر، ويظل صالحًا. يساعدنا اللاهوتي جا. أي باكر (JI. Packer) على رؤية هذه النقطة بوضوح هل يمكن أن يكون الإله الذي لا يهتم بالفرق بين الصواب والخطأ، صالحًا، وجديرًا بالإعجاب؟ هل يمكن للإله الذي لا يفرق بين وحوش التاريخ مثل هتلر وستالين من جانب (إن كان يجرؤ بنا أن نستخدم الأسماء)، وقديسيه من الجانب الآخر، أن يكون محل المديح، والكمال الأخلاقي؟ لابد أن تكون اللامبالاة الأخلاقية نقصًا في الله ، وليس كمالًا فيه. إن عدم إدانة العالم قد تبين اللامبالاة الأخلاقية. ويعد البرهان الأخير بأن الله كائن أخلاقي كامل يهتم بأسئلة الصواب والخطأ، التزامًا منه بدينونة العالم.
الله يقضي بالعدل لأنه إله كامل وقدوس ومحب. والتصرف على خلاف ذلك لن يجعله في مكانة إلهية.
أسباب الله
ثانيا: يجب أن نحدد السبب الذي جعل الله يوصى بدمار شعب بالكامل. قال موسى لبني إسرائيل: «ليس لأجل برك وعدالة قلبك تدخل لتمتلك أرضهم، بل لأجل إثم أولئك الشعوب يطردهم الرب إلهك من أمامك، ولكي يفي بالكلام الذي أقسم الرب عليه لآبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب» (التثنية ٩: ٥). لم يكن دخول أرض كنعان التي وعد الله أن يعطيها لإبراهيم، بسبب شيء فعله بني إسرائيل، أو لأنهم كانوا يعيشون بصدق لله؛ لأنهم لم يكونوا كذلك بل امتلكوا الأرض بسبب وعد الله لإبراهيم.
فضلا عن ذلك، تعرض الكنعانيون إلى التدمير؛ بسبب شرهم؛ لأنهم كانوا يعبدون الأوثان، كما كانوا يرتكبون زنا المحارم، والدعارة في المعابد، والزنا، والمثلية الجنسية، والزنى بالحيوانات كما كانوا يتحرشون بأطفالهم، ويقدمونهم ذبائح. باختصار كانوا شعبًا فاسدًا. لكن الله تأنى عليهم، وبسط رحمته لهم، حتى في خطاياهم البغيضة. وقد أعطى الله شعب كنعان أكثر من أربعمائة سنة؛ حتى يتوبوا عن طرقهم الرديئة (التكوين ١٥: ١٦). لم يكن الله يحمل شيئًا ضدهم كشعب، لكنه كان يختلف مع سلوكهم الفاسد والشرير، ويعارضه.
مع ذلك، كان الله على استعداد أن يخلص الأبرار داخل كنعان وينقذهم. وهو الذي أنقذ رحاب في أريحا؛ لأنها كانت بارة. وفي نهاية الأمر، جاء الله بالدينونة على جميع الخطاة الذين لم يتوبوا عن خطاياهم. ولكن أهل كنعان لم يُظهروا أي تغيير أو اختلاف. وما أتى من دينونة إلهية على هذا الشعب، لا يعكس أن الله أبادهم إبادة جماعية، بل يكشف ببساطة عن عدله المقدس، وقضائه البار.
يعد انتشار الشر في العالم واحدًا من أكثر الاعتراضات شيوعًا ضد الله. والسؤال الذي يُكرره كثيرون لماذا لا يتدخل الله ويوقف الشر والألم؟ وعندما يتدخل لكي يوقف الشر، كما هو الحال في دينونته على الكنعانيين، يشتكى البشر بأنه يتصرف بقساوة. لكن إن كان الله القدوس والبار، والعالم بكل شيء، موجودًا بالفعل، أليس من المتوقع أن يحدد مقاييس الدينونة على فاعلى الشر؟ حتى إن لم نفهم تمامًا سبب تدميره للكنعانيين، يمكننا الثقة في أن لديه أسبابًا وجيهة لعمل ذلك. فالله هو الله، ونحن لسنا الله. يقول الله: «لأن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي» (إشعياء ٥٥: ٨)
ورغم أننا قد نصارع أحيانًا لفهم أساليب الله التي تتعلق بالعدل والحق فإننا يجب أن نعترف بإيمان أنه إله رائع وقدوس. يقول عنه الملك داود: «اللهم، في القدس طريقك. أي إله عظيم مثل الله؟ أنت الإله الصانع العجائب. عرفت بين الشعوب قوتك. فككت بذراعك شعبك، » (المزامير ۷۷: ١٣- ١٥).