هل من الممكن فعلاً معرفة الحق؟

عندما نكتشف حقاً معيناً، نكتسب المعرفة، أو نحصل على إجابات لكل أسئلتنا. لكن هل تجيب الحقائق الكونية عن هذه الأسئلة؟ أم إن الأمر يتلخص في ما نختار تصديقه؟ والسؤال هنا هل توجد طريقة لمعرفة إن كان الحق موجودًا كحقيقة عامة؟! 

بعض التعريفات 

أولًا: دعونا نبدأ بتعريف الحق. ما هو الحق؟ يوجد تعريفان شائعان لمفهوم الحق، يقدم قاموس وبستر واحدًا منهما، وهو أنه «الدقة في الأصل أو المعيار». على سبيل المثال، نفترض أني سألتك: «كم الساعة؟» على الأرجح ستنظر إلى ساعتك أو هاتفك الجوال وتقول إنها «۲:۲۳ مساءً». لكن ماذا لو نظرتُ لساعتي وقلت لك «لا ، إنها ٢:٢٦ مساءً». مَن مِنا يقول الحقيقة؟!

من الممكن أن نتجادل اليوم كله بخصوص : أي جهاز من أجهزتنا أفضل في تحديد الوقت؟ ولكن لتحديد الوقت الصحيح لا بد أن نضبط ساعتنا حسب المعايير الدولية لتحديد الوقت وضبطه. وسيكون ذلك من خلال جرينتش بإنجلترا؛ حيث موطن توقيت جرينتش (GMT). ويعد توقيت جرينتش هو التوقيت العالمي وأساس التوقيت في أية منطقة بالعالم. وعلى الرغم من استبدال توقيت جرينتش بالتوقيت الذري (UTC)، فإنه لا يزال يُستخدَم على نطاق واسع بصفته المقياس الرسمي لتحديد الوقت في جميع أنحاء العالم. 

لذلك تحديد «القول الحقيقي» هو في الواقع الحق. فهل الساعة هي ٢:٢٣ أم ٢:٢٦ مساءً؟ . علينا ببساطة تحديد ذلك بما يتوافق مع «الأصل أو المعيار» الخاص بضبط الوقت حسب توقيت جرينتش. وبالتالي يُصبح الوقت الذي يتفق مع توقيت جرينتش هو الصحيح وبتطبيق هذا التعريف على الحقيقة الأخلاقية نؤكد أن الله هو المعيار المطلق لكل الحقائق الأخلاقية فطبيعته وشخصيته يحددان الصواب والخطأ، والخير والشر، والحقيقي وغير الحقيقي. 

أما التعريف التاني للحق هو «التطابق مع الواقع». وتعني هذه الفكرة تقريبًا أن الحق هو ما يتطابق مع العالم الواقعي. على سبيل المثال، قد أقول إني لدي أربعة أولاد هم شابان وفتاتان عندئذ يكون السؤال: «هل هذا القول صحيح أم خطأ؟» يمكن أن يكون هذا القول حقيقيًّا إذا تتطابق مع الواقع. ولكني في الواقع لديَّ أربعة أولاد هم ثلاث فتايات وشاب. لذلك وبما أن قولي لم يتطابق مع الواقع، فهو غير حقيقي. عندما نطبق تعريف الحق على الحقيقة الأخلاقية، فإننا نؤكد أن هذه الحقيقة تتفق مع الواقع الذي خلقة الله. 

إنكار وجود الحق 

لكن البعض يقول ببساطة : «لا يوجد حق». وتعد مشكلة هذه العبارة أنها تتناقض مع ذاتها بعبارة أخرى، تدحض الجملة نفسها من خلال وجودها. دعوني أشرح ذلك. في بداية الرسالة إلى تيطس، قدم بولس بعض النصائح والوصايا إلى تيطس، الذي كان قد بدأ في تأسيس كنائس بيـن أهـل كريت. وقد واجهته بعض الأفكار المعادية. واقتبس بولس من أبيمنيدس الذي من كريت، قائلًا إلى تيطس: قال واحد منهم، وهو نبي لهم خاص «الكريتيون دائمًا كذابون. وحوش ردية. بطون بطالة» (تيطس ۱ : ۱۲). وأي قارئ فطن للكتاب المقدس سيفهم السخرية الموجودة في هذه العبارة. فإن كان كل الكريتيين كذابين، فكيف يمكن الثقة في أبيمنيدس نفسه؟ سيكون الأمر مثلما أقول وأنا من كاليفورنيا: «لا يمكنك الثقة في أهل كاليفورنيا». 

تعاني العبارات التي من نوعية «الكريتيون دائمًا كذابون» «ولا يوجد حق» من العيب نفسه. فكلا العباراتين تتناقضان مع نفسيهما. والعبارة الثانية تحديدا تتعارض بشدة مع نفسها، لأن مذكورًا بها كلمة «حق»! وفيما يلي بعض الأمثلة الأخرى المتناقضة 

  • لا توجد جملة إنجليزية تتكون من أكثر من خمس كلمات. 
  • لا شيء يسمى الحق المطلق (هل هذا حتما حقيقي؟) 
  • لا يمكن التأكد من أي شيء هل أنت متأكد من ذلك؟) 

لا تقل أبدًا كلمة «أبدًا». (تأخرت كثيرًا ! فقد قلتها بالفعل في الجملة السابقة!) تحتوى جميع العبارات الأربع السابقة مثلهم في ذلك مثل عبارة «لا يوجد حق» على بذور تثبت خطأ قائليها وتُضعف هذه الجمل من نفسها عندما تتناقض مع المقاييس الخاصة بها عن الحق. لا وسيلة للهروب من حقيقة أن الحق موجود ويمكن معرفته. وهكذا، يُصبح السؤال الأهم ليس إذا ما كان الحق موجودًا، بل ما هو الحق؟ 

شرح يسوع بوضوح ما هو الحق عندما قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يوحنا ١٤: ٦). ببساطة : الحق هو شخص يمكننا الارتباط به. الله ليس معيارنا للحق الأخلاقي الذي يتوافق مع الحقيقة التي خلقها فحسب، بل هو ذاك الشخص الذي بذل جهودًا استثنائية ليكون في علاقة معنا. والعلاقة أساسية في معرفة الحق والحياة به. 

هل بعض الحق هو تفضيل شخصي؟

ربما سمعت أحدهم قبلًا يقول: «حسنا، قد يكون ذلك حقيقيًا لك، لكنه ليس حقيقيًّا لي». ورغم أن هذه العبارة  شائعة الاستخدام، لكن لا بد أن نسأل:  هل يمكن أن يكون الحق موجودًا، فقط، للشخص الذي يؤمن به؟ هل يمكن أن يكون شيئًا حقيقيا لشخص، لكنه ليس كذلك بالنسبة لشخص آخر؟ 

إزالة اللبس 

يكمن وراء العبارة السابقة خلط متأصل بين مفاهيم الحق والإيمان. وبكل وضوح لنا أن نتمتع بالحق في الإيمان بمعتقداتنا الخاصة، لكن هل يعني ذلك أن لكلّ مِنا الحقائق الخاصة به؟ يعد الحق مستقلًا عن معتقداتنا. ومن الناحية الأخرى من الضروري أن تكون المعتقدات شخصية. لذلك، عندما نضع في الاعتبار طبيعة الحق لن يكون له معنى قول إن شيئًا ما حقيقي لك، لكنه ليس حقيقًا بالنسبة لي. على سبيل المثال، تخيل أنك أنت وصديقك أمام تفاحة خضراء على الطاولة. يعتقد صديقك أن التفاحة فاسدة من الداخل، ومليئة بالديدان. لكنك تعتقد أنها طازجة، وخالية من الديدان. هل يمكن أن تكون معتقداتكم المختلفة بخصوص التفاحة تعكس حقيقتين مختلفتين، ويكون اعتقاد كلّ منكما حقيقة؟ إن الطريقة الوحيدة لحل هذه المعضلة هي قطع التفاحة، ومعرفة ما بداخلها عندئذ سيمكنك اكتشاف الحقيقة. وستكشف اللحظة التي تقطع فيها التفاحة عن الحقيقة؛ ما سيفضح المعتقد الخاطئ. إن حقيقة التفاحة موجودة ومستقلة عنك، وعن معتقدات صديقك. 

الحقائق والمعتقدات الأخلاقية 

الشيء نفسه يتعلق بالحقائق الأخلاقية. أصبح الله وكلمته هما المعيار لتحديد ما هو حق أخلاقي، وما هو ليس كذلك؛ لأن الحقائق الأخلاقية تنبع من شخصيته. وفي حين أن الحقائق الأخلاقية لا ترقى للنظر إليها باعتبارها شخصية أو موضوعية، فإن المعتقدات يمكن اعتبارها كذلك. كما يمكن اعتبار المعتقدات الشخصية أيضًا كما يسميها البعض «قناعات شخصية». وفي رسالة رومية، عالج الرسول بولس الخلاف بين بعض أتباع المسيح من اليهود بشأن الضوابط التي ينبغي أتباعها على الأكل، والأعياد التي يحفظونها، ويوم السبت. وقال بولس لهم «لا يزدر من يأكل بمن لا يأكل، ولا يدن من لا يأكل من يأكل؛ لأن الله قبله» (رومية ١٤: ٣)، كما قال لهم بشأن يوم العبادة: «واحد يعتبر يوما دون يوم، وآخر يعتبر كل يوم، فليتيقن كل واحد في عقله» (رومية ٥:١٤).

كان بولس الرسول حريصًا على توضيح أنه توجد أمور خارج القانون الأخلاقي العالمي لله، تتطلب قرارًا شخصيًّا، وتكون بين الإنسان وربه فقط. اعرف بعض الأشخاص الذين يشعرون برغبة شديدة في إكرام يوم الرب، حتى إنهم يمتنعون عن شراء أي منتجات في يوم الأحد. ويشعر آخرون أن من الصواب أن يدخل أبناؤهم المدارس المسيحية، ومن الخطأ إلحاقهم بالمدارس الحكومية. وكثيرون منهم لا يدين أولئك الذين يفعلون عكس ذلك، لكنهم يشعرون بأنها قناعات أو معتقدات شخصية يجب اتباعها. وأوضح الرسول بولس هذه النقطة عندما أشار إلى الشريعة اليهودية فيما يتعلق بالطعام الطاهر والنجس. يقول بولس: «إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجسا بذاته، إلا من يحسب شيئًا نجسا، فله هو نجس» (رومية ١٤: ١٤) . إن النقطة الأساسية التي يحرص عليها بولس هي أنه عندما تكون لدى شخص ما قناعة شخصية بأمور لا تعالجها الشريعة الأخلاقية بوضوح، عليه أن لا يدين الآخرين على مخالفة معتقدهم الخاص. وتحدث هذه الأنواع من القناعات الشخصية بين الله والشخص نفسه، ولا ينبغي فرضها على الآخرين. وينبغي الوصول للقناعة الشخصية بعد دراسة الكتاب المقدس بعناية كبيرة، وأخذ المشورة الحكيمة من مؤمنين ناضجين آخرين. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى