انبثاق الروح القدس
البدايات والأسس الخاصة بموضوع انبثاق الروح القدس في التقليد اللاهوتى الغربي:
جذور طرح هذا الموضوع للحوار والمناقشة تعود إلى الخلط بين التعليم عن الله وبين التعليم عن العمل التدبيرى لله في الكون. هذا الخلط هو أحد السمات التي سيطرت على التعليم اللاهوتي الغربي السابق على أغسطينوس وهذا الاتجاه ظهر بين الآباء اللاتين، وهم بصدد مواجهة الهرطقات المختلفة التي ظهرت في القرنين الثانى والثالث. إذ نادوا بتعليم عن الله (أي العلاقة الأزلية بين أقانيم الثالوث)، في إطار تعليمهم عن العمل التدبيرى للثالوث القدوس في الكون. وهنا ينبغى الاشارة إلى أن هذا الاتجاه، قد توقف بشكل تام ورسمى في الشرق، بعد مجمع نيقية سنة ۳۲۵، بواسطة القديس أثناسيوس والآباء الكبادوك. أما في الغرب فقد استمر لفترات أطول، لأن الهرطقات ضد عقيدة الثالوث التي ظهرت في الغرب في القرن الرابع، لم تتعرض للأمور الفلسفية واللاهوتية التي عرفها الشرق، فالهراطقة في الغرب اكتفوا فقط بأن يركزوا اهتمامهم على التشكيك في ألوهية الابن والروح القدس. هذا التشكيك دفع الآباء اللاتين إلى التأكيد على وحدة الجوهر بين الأقانيم الثلاثة، من خلال العمل التدبيرى للثالوث القدوس في الكون. وعلى الرغم من أن الآباء اللاتين الكبار مثل إيلاريون أسقف بواتييه (٣١٥ – ٣٦٧) وأمبروسيوس أسقف ميلان (۳۹۷-۳۳۹)، كانوا من أشد المؤيدين لقانون إيمان نيقية، وعقيدة الثالوث بحسب تعليم القديس أثناسيوس والآباء الكبادوك، إلا أنهم استمروا في تقديم التعليم عن الله في تداخل أو خلط مع التعليم عن التدبير الإلهى في الكون، دون أن يميزوا بين الانبثاق الأزلي للروح القدس من الآب، وإرساليته التدبيرية إلى العالم. وقد استند موقفهم هذا على الترجمات اللاتينية القديمة للعهد الجديد، وأيضًا على الفولجاتا (Volgata) التي للقديس إيرونيموس (٣٤٥ – ٤٢٠):
إن فعل ينبثق كما جاء في (يو ١٥: ٢٦) يتطابق في المعنى مع فعل يخرج كما جاء في (يو ٤٢:٨), وهذان الفعلان في اللاتينية، ينحدران من فعل يأتي، هذا يعنى أن فعل أقبل أو أتى لم يُستخدم في التقليد اللاهوتى اللاتيني لكى يُعبر فقط عن الانبثاق الأزلى للروح القدس، ولكن عن مجيء الابن أيضًا. فالقديس إيلاريون أسقف بواتييه، علي سبيل المثال وهو يتكلم عن أقنوم الروح القدس، يشير إلى بعض نصوص الكتاب المقدس، بخصوص مجىء الروح القدس، يقول [ إن إلهنا لم يتركنا في حيرة لأنه قال : ” متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم. كل ما للآب هو لي. لهذا قلت إنه يأخذ مما لى ويخبركم ” (يو ١٢:١٦-١٥). بالتالي فإن الروح يُرسل من الابن وينبثق من الآب. ويتساءل هل . “يأخذ من الابن” – كما جاء بالآية ” يأخذ مما لي ويخبركم (يو ١٤:١٦) له نفس معني “ينبثق من “الآب” ثم يجيب قائلاً أن عبارتي ( يأخذ من الابن وينبثق من الآب له معني واحد) “. في هذه الحالة فإن إيلاريون يقدم تعليمًا عن الله في تداخل مع التعليم عن التدبير. النتيجة هي عدم التمييز بين الانبثاق الأزلي للروح من الآب والارسال التدبيرى للروح القدس إلى العالم، والذي صار من الآب والابن أو من الآب عن طريق الابن.
وفي نفس الاطار يقدم ماريوس فيكتورينوس والمسمى بالأفريقى تعاليمه عن مجىء الروح القدس، مشيرًا إلى (يو ٧:١٦) ” أنه خيرًا لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى. ولكن إن ذهبت أرسله لكم” يقول : [ هنا يوجد شخصان الواحد يأتى من الآخر، الروح يأتى من الابن والابن يأتى من الآب. ثم يشير إلى (يو ١٤:١٦-١٥) “ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم. كل ما للآب هو لي. لهذا قلت إنه يأخذ مما لى ويخبركم ” يُعلق على هذه الآية قائلاً [في البداية توجد الحياة ومن الحياة يأتى الفهم والادراك الحياة هي المسيح، والإدراك هو الروح. إذن الروح يأخذ من المسيح، والمسيح من الآب، وعليه فالروح يأخذ من الآب عن طريق المسيح ]. هذه الاشارات تثبت أن ماريوس فيكتورينوس، يخلط بين التعليم عن الله وبين التعليم عن التدبير الإلهى. ويستخدم نصوص كتابية تشير فقط إلى العمل التدبيرى للروح القدس، دون أى تمييز بين وجوده الأزلي وبين إرساليته التدبيرية إلى العالم.
وبنفس الطريقة يُعلّم أمبروسيوس أسقف میلان (۳۳۹-۳۹۷). فعلی الرغم من كونه التلميذ المعروف للقديس ديديموس الضرير والمترجم لكتاباته من اليونانية إلى اللاتينية وأيضًا تتلمذ على تعاليم القديس باسيليوس الكبير، إلا أنه كان يتكلم عن العمل التدبيرى للروح القدس في العالم ويُشدد على أن الروح القدس لا ينفصل عن الآب ،والابن، لأنه تحديدا ينبثق من الآب والابن . وهنا لا يشير أمبروسيوس إلى الانبثاق الأزلى، بل إلى الإرسالية الزمنية إلى العالم. ولنتوقف قليلا عند استخدامه للفعل الكتابي ( ينبثق) ، فهذا الفعل سواء عند الآباء الكبادوك أو عند ديديموس الضرير، يُعبّر فقط عن الانبثاق الأزلى للروح القدس من الآب. لكن فعل لا يعنى شيئًا بالنسبة لأمبروسيوس أكثر من كونه متطابق في المعني مع فعل ” آتى “. هكذا نجد أن أمبروسيوس قد واصل لاهوت الآباء الغربيين اللاتين، حيث قدم تعليمًا عن الله في إطار التدبير، دون أن يُميز بين الانبثاق الأزلى وبين الإرسالية التدبيرية إلى العالم.
لقد أعلن دستور الإيمان النيقاوى القسطنطيني أن انبثاق الروح القدس هو من الآب فقط، دون أن يذكر أنه منبثق من الابن وذلك استنادًا على نص إنجيل معلمنا القديس يوحنا الذي يقول : ” متى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لى ” وأيضًا يقول: ” وأما المعزى الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمى فهو يعلمكم كل شئ ويذكركم بكل ما قلته لكم . وقد اعترفت الكنيستان الشرقية والغربية بهذا الإيمان من البداية. وكان مجمع أفسس سنة ٤٣١ قد أصدر قرارًا بالحرم على كل إنسان يعترف بإيمان آخر لا يتطابق مع إيمان مجمع نيقية.
بدأت المشكلة المتعلقة بإنبثاق الروح القدس من الآب والابن في الغرب من القرن السادس، فالصيغة اللاتينية ( Fillioque) تشير إلى انبثاق الروح القدس من الآب والابن معًا. كما جاء بمجمع طليطلة الذي انعقد سنة ٥۸۹م هذه الصيغة (أى انبثاق الروح القدس من الآب والابن) تؤكد على أن هذا التعليم هو مضاف لمجمع نيقية – القسطنطينية. وتشمل المادة الثالثة من قوانين هذا المجمع قرارا بحرمان كل من لا يعترف بانبثاق الروح القدس من الآب والابن.
وقد أمر الملك روكارد بإدخال هذه الصيغة على دستور الإيمان النيقاوى – القسطنطيني، وأقر بهذه الإضافة في مجمع طليطلة الرابع سنة ٦٣٣م ، على الرغم من أن القانون السابع الصادر في المجمع المسكونى الثالث سنة ٤٣١ أقر بأنه لا يُسمح لأى أحد أن يصيغ أو يكتب أو أن يكرز بإيمان آخر غير ذلك الإيمان الذي أقره الآباء القديسين الذين اجتمعوا بنيقية مُلهَمين بالروح القدس فيما وصلوا إليه.
ولذلك فقد عارض هذه الإضافة كل من الكونيوس، ويولينوس أسقف أكويليا، كما أن الأخير رفض هذه الصيغة في المجمع الاقليمى المنعقد سنة ٧٩١م. أما الامبراطور شارلمان فقد دافع عن هذه الصيغة ودعا في مجمع إنعقد سنة ٨٠٧م إلى حرم كل من ينادى بعكسها. على أن البابا لاون الثالث أمر بأن يُحفر نص دستور الإيمان النيقاوى – القسطنطينى باليونانية واللاتينية بدون إضافة ” الابن ” على لوحتين من الفضة تم وضعهما في احتفال عظيم على الباب الكبير المصنوع من البرونز عند مدخل كاتدرائية روما، وذلك احتجاجًا منه على الإضافة. غير أن الصيغة الجديدة كانت قد عمت فرنسا واسبانيا وإيطاليا وألمانيا وفي النهاية استسلمت روما للأمر الواقع.
وفي عام ١٠١٤م جاء الامبراطور هنرى الثاني إلى روما لكي يُتوج على يد البابا بنديكتوس الثامن، ففرض الطقس الجرماني في القداس، وللمرة الأولى ذكر دستور الإيمان مضافًا إليه كلمة ” الابن أي “نعم نؤمن بالروح القدس المنبثق من الآب والابن”، وليس من الآب فقط كما جاء بمجمع نيقية.
بعد ذلك في سنة ١٠٥٤م قام الكاردينال همبر الموفد البابوى إلى القسطنطينية، بتعديل الصيغة بوضع عبارة الابن وذلك في وثيقة وضعها على المذبح في كنيسة أجيا صوفيا (الحكمة المقدسة).
وقد تبنّى التعليم اللاهوتي البروتستانتى وخاصةً اللوثرى صيغة انبثاق الروح القدس من الآب والابن. ولم يستطع التعليم اللاهوتي الغربي بشكل عام أن يخرج من مأزق التعليم الخاص بانبثاق الروح القدس من الآب والابن وهذا يرجع إلى أن هذا الموضوع يمثل لهم بناءً عقيديًا، وليس فقط مجرد اضافة شكلية.
التعليم اللاهوتي الأرثوذكسى منذ البداية وفي ظل ظروف تاريخية معقدة وصعبة خاصة بالصراع السياسي بين الغرب والشرق تناول موضوع انبثاق الروح القدس وشرحه في إطار عقيدة الثالوث القدوس فالتعليم اللاهوتي الأرثوذكسى ينظر إلى الثالوث القدوس في أزليته وأيضًا في إطار عمله التدبيرى في الكون وفي أحداث التاريخ . فالعلاقة بين أقانيم الثالوث ذو الجوهر الواحد هي علاقة شركة. المشكلة التي أثيرت حول انبثاق الروح القدس من الآب والابن جاءت لتحدث تغييرا في التعليم العقيدى الخاص بالثالوث القدوس التعليم اللاهوتي الأرثوذكسى لا يعتبر أن هذه الوحدة هى فقط في الجوهر المشترك بين أقانيم الثالوث، بل أيضًا في أن أساس هذه الوحدة هو أقنوم الله الآب كمبدأ للأقنومين الآخرين، وعندما يتوافق هذان الأمران أى وحدة الجوهر، وأن الآب هو مبدأ الأقنومين الآخرين، عندئذ نستطيع أن نتحدث عن الثالوث الواحد.
وحدة الثالوث تمثل خبرة حية معاشة في تاريخ الكنيسة ، فعلى مثال الشركة بين أقانيم الثالوث وهى شركة محبة، هكذا تحيا الكنيسة. فمسيرة الكنيسة هى مسيرة محبة قائمة على الإخلاء. وعقيدة انبثاق الروح القدس من الآب والابن تجعل كما لو كان هناك منافسة بين الآب والابن على السيادة، وليست علاقة شركة و محبة[1]. فالكنيسة الشرقية من خلال التفسير الثالوثى للظهورات الإلهية في الكون والتاريخ، من خلال التمييز بين الجوهر الإلهى والعمل الإلهي لم تستطع أن تقبل عقيدة الـ (Fillioque) أى انبثاق الروح القدس من الآب والابن بينما نجد أن التعليم اللاهوتي المدرسى يُطابق بين الجوهر والعمل، مع أنه يقبل في نفس الوقت حقيقة أن الله يتواصل مع الكون من خلال الظهورات الإلهية. لكنه يُطابق بين انبثاق الروح القدس الأزلي من الآب وبين ارسال الروح القدس بالإرادة المشتركة للأقانيم الثلاثة . القديس كيرلس الأسكندري يُقدم تعليم مختلف عن هذا النهج الغربي، مُعبرًا عن جوهر التعليم الأرثوذكسي الشرقي في عبارة موجزة فيقول : [إن الروح ينبثق من الله الآب كما من ينبوع، إلا أن الابن هو الذي يرسله إلى الخليقة]. ولذلك عندما يتحدث الآباء عن العلة أو عن المبدأ فهم يذكرون الآب فقط. فالقديس غريغوريوس النيسى يرى ان أقنوم الآب وحده هو المبدأ في الثالوث. وبناء على ذلك فإن مفهوم العلة أو المبدأ لا ينطبق أبدا على الابن. ويقول القديس غريغوريوس النزينزي : [ إن كل ما للآب هو للابن ما عدا خاصية أن يكون مصدرًا، وكل ما للابن فهو للروح القدس ما عدا خاصية البنوة]
ويرى القديس غريغوريوس النيسي أن كل عمل في الله مصدره الآب ويتحقق في الابن ويكتمل ويُعلن بالروح القدس لأن [الآب هو مصدر القوة، وقوة الآب هو الابن، وروح القوة هو الروح القدس.
- Βλ.Ν. Ματσουκα Δογματική και Συμβολική θεολογια θεσλονικη 1992 P.137