الله والإنسان
بين لطف الله وتأديبه: كيف نرى صبر المحبوب؟
عندما نتأمل في تعامل الله معنا، نجد الكثيرَ مما يدعو إلى الدهشة. وأحدُ أبرز هذه الأمور هو لطفُ الله وطولُ أناتِه. فَرَغْمَ خطايانا الكثيرة، ورَغْمَ ضعفاتنا وسقطاتنا المتكررة، يظلُّ “المحبوب” دائمًا في عوننا، داعيًا إيانا للنهوض والبدء من جديد. لا يهمُّ كم مرةٍ سقطنا، ولا كم مرةٍ عاندنا، ولا كم مرةٍ بعدنا، فإن صبرَ “المحبوب” لا حدودَ له.
قصة الخروج أفضل مثال: غلظة الرقبة مقابل طولُ أناتِ المحبوب
كان الشعب العظيمُ الرحالةُ في طريقه إلى أرض الموعِد… كَمْ جَرَّب، وكَمْ ذاقَ المُرَّ والحَنظَل. كَمْ نأى بنفسه عن الإيمان، وكَمْ تَردَّدَ وكَمْ فَشِل. رغم أنه الشعب الذي رأى ولمسَ وتحقَّقَ من الأدلة القاطعة على رعاية الله وحفظه له. فهو الذي رأى البحر ينشق أمامه، والذي أكل المن النازل من السماء، ورغم ذلك كان كثير التزمر والشكوى.
هو إنسان. لكن الإنسانَ هو دائمًا الإنسانُ، مُستعدٌّ للإنكار، سريعُ النسيان. فمنذ أن اعترضوا واستَثْقَلوا الطريق، طوال تلك المدةِ كانت بركاتُ اللهِ تَتجدَّدُ عليهم في كل صباح، وأيضًا شكاواهم وارتدادُهم يَتعمَّقُ في قلوبهم كلما أتاهم المساء وأَوغَلوا في ليلة البَهيم…
إنها ظلمةُ العقلِ والقلبِ معًا. لقد كانوا أطفالًا لا أكثر، وربما أقل: بينما يَصرُخون صُراخَ الخوف مُستنجدين بالرب، يَصرُخون بعد قليل صُراخَ الاحتجاج والإنكار. وبينما يَهتِفون بدُفوفٍ وكُلِّ آلات الموسيقى مُرَنِّمين لأنَّهُ “هُوَ الَّذِي أَنْقَذَ إِسْرَائِيلَ وَأَغْرَقَ أَعْدَاءَهُمْ فِي الْبَحْرِ”، يَهتِفون للعجل الذهبي – صَنْعة أيديهم – لأنَّه هو الذي أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ وَحَرَّرَهُمْ مِنْ عُبُودِيَّتِهَا!!
لَقَدْ كانوا حقًّا فيما هو دُونَ الأطفالِ تفكيرًا وعَقيدةً. لذلك رأينا من إلهنا العظيم تلك المعاملةَ العجيبةَ التي يَستحقها هذا الشعبُ الأعجبُ: معاملةً تكون تارةً شِدَّةً في التأديب، وأُخرى لُطْفًا في التعليم، فالسيد الرب وحده هو العارف متى يكون اللين ومتى تكون القسوه عند معاملة بني ادم. وقد كنتُ أتأمل في شيءٍ من العَجَبِ: صَبْرُ الربِّ وطولُ أناتِه على هذا الشعب، الذي لم يكن مُستحقًّا أكثر من سَحْقِهِ وطَرْحِهِ مرةً أُخرى في أعماق البحر الأحمر. لكني عُدْتُ فَتَعَجَّبْتُ بالأكثرِ، من غَبَاوَتي وجَهلي وإنكاري…
وأنا أيضاً مثال: مازال لدي فرصة أخرى
إن كان ذلك هو استحقاقُ إسرائيلَ في مجلسٍ قضائيّ، فما هو استحقاقي أنا واستحقاقُ قارئي، واستحقاقُ كافة القبائل والشعوب والأمم؟! حينئذٍ عُدْتُ أُباركُ الربَّ الصَّبورَ جدًّا والطَّويلَ الأناةِ جدًّا، والمُحْتَمِلَ جدًّا. لأني في حياتي ذاتها، وحياة أخي القارئ معي، وحياة كافة البشر في جيلنا والأجيال السابقة لنا والأجيال اللاحقة أيضًا، في كل هذا، رأيتُ الدليلَ، أعظمَ دليلٍ على هذا الصبر العجيب، والأناة العجيبة، والاحتمال العجيب، الذي لم يُعْلَنْ لإسرائيلَ منه إلا عَيِّنَةٌ. لأن تَمَرُّدَ إسرائيلَ وإنكارَه وارتدادَه، لم يكن إلا عَيِّنَةً صغيرةً ضعيفةً من تَمَرُّدٍ وأفكارٍ وارتدادِ الناس في هذه الأجيال المتعاقبة… فلْنُبَارِكِ الربَّ، القديمَ الأيَّامِ في الصبر.
وأنت أيها الإنسان، ساكنُ البَرِّيَّةِ (أرض هذا العالم) والساعي إلى كنعان (لقاء المحبوب في ملكوت السموات)، أين أنت من إلهك ومِن معرفته؟ لستُ أَظُنُّ أن الربَّ قد عاملك معاملةً تَقِلُّ في كرمها وسخائها عن معاملته لإسرائيلَ ابنه البكر. ولعلنا نعرف بالتفصيل كيف أَخْرَجَ الربُّ إسرائيلَ بيدٍ قويةٍ وذراعٍ رفيعةٍ من أرض مصر، فَاذْكُرْ إذاً أيضًا أن الرب قد استعمل نفس اليد ونفس الذراع، والوسائط والضربات العشر، استعملها لِيَفُكَّ أَسْرَكَ وقيدَك، وفعلاً حَرَّرَك. ولكنك بعدما تحررت رجعتَ بنفسك، أو بعد أن تَعِبَ الربُّ معك في كل الضربات التسع، فإنك عند العاشرة، حُبًّا منك في الخطية وتَوغُّلًا فيها، لم تشأ أن تَضَعَ الدمَ على القائمتين والعتبة العليا، بل وضعتَهُ على العَتَبَةِ السُّفْلَى وَدَسَسْتَهُ بِقَدَمِكَ.
وما يُقال عن هذه الضربات يُقال عن بقيَّة المعجزات. وإنك لَتَجِدُ تشابُهًا عجيبًا ومُخْجِلًا أيضًا بين الإنسان في كل جيل وبين إسرائيل في ذلك الحين. فهذه المعاملات السَّخِيَّةُ التي استعملناها في حَيِّزِ الحاجة، ثم أَلْقَيْنَاهَا جانبًا ونسيناها، ألم يكن الأَوْجَبَ أن نَتَمَسَّكَ بها لِتَبْقَى آثارُها خالدةً محفورةً في حياتنا، لكي نَذْكُرَ في كل حين، ولكي نُجَدِّدَ قوةً في كل حين؟!
إن البرية، مع كونها تُجَدِّدُ الحربَ لنا في كل يوم، فنحن أيضًا ببركاتها وقوتها كل يوم نُجَدِّدُ العزمَ والقوةَ كالنُّسُور… وهذا الاختبار الجديد، أو هذا النصر العجيب، أو هذا السلام العميق، كلُّ هذا، هل كان غايةً، أم هو درجةٌ في السلم العالي، خُطوةٌ سابقةٌ للخطوة التالية؟ وهذه الدرجة الثانية لا يمكننا الوصولُ إليها ما لم نَتَثَبَّتْ أولاً في الدرجة الأولى. فتَمَسَّكْ بما عندك، إلى أن يأتيك الربُّ بعونٍ جديد، وإعلانٍ جديد، وإنارةٍ جديدة.
ومع أننا سريعًا ما نَنْسَى، وسريعًا ما نُهْمِلُ فَنَفْشَلُ، ومَن يَدْرِ فَرُبَّما نَسْقُطُ، شَأْنُنَا شَأْنُ إسرائيل، أو شَأْنُ إسرائيلَ شَأْنُنَا، إلا أن الربَّ أيضًا يأبى أن يحكم بالإعدام على شعب إسرائيل، لأنه بارك هذا الشعب، وأَفْرَزَهُ له شعبًا. ولأن منه سيأتي المسيح، ولأن موسى الرجل الحبيب وقف بين الله وبين الشعب، يُؤَيِّدُهُ إبراهيم وسائر قديسي العهد القديم، فأَبَى الربُّ أن يَطْرَحَ إسرائيلَ إلى الفناء من أجل كل هذه الأسباب ومن أجل أسباب أخرى لا نَدْرِيهَا… والربُّ أيضًا يَمتَنِعُ عن الحكم بالإعدام علينا لأنه بارَكَنَا في ابنه، ولأننا إخوةٌ للبكر ربنا يسوع المسيح، ولأنه كل يوم من أيام السنة يَشْفَعُ فينا بذبيحته المُرْتَفِعَةِ عنا على المذبح في كل الكنائس، ولأن جمْهَرَةً ورُبُوَاتٍ من الملائكة والقديسين وُقُوفٌ حول العرش يَرْفَعُونَ صلواتٍ وتضرعاتٍ من أجلنا.
لذلك نستطيع الجزم بأن معاملات الرب مع البشر في كل الأجيال والدُّهور كانت على أساس محبته اللاَّنهائية، وعواطفه الثابتة، وحنانه الإلهي نحو جميع بني البشر على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وآجالهم ودياناتهم. فعلى الجميع ومن أجلهم، تَشْرَقُ شمسُه، وتُمْطِرُ سَماؤُه، وتَفِيضُ أنهارُه، وتُثْمِرُ حُقُولُه.
وها نحن نتقدَّم – بعد صلوات واعترافات وتناول – فَنُمْسِكُ بدليل عظيم ورائع على غِنَى الله في لطفه ومحبته ورعايته لهذا الإنسان غير المستحق شيئًا من هذا كله. ثم نَتَفَرَّسُ فيه ونتأمل، ثم ننظر بعين سابحة في دمعها وقلب مُتعجِّب وشاكر:
يَشاءُ الربُّ العظيم في المجد، والممجد في السماء، الربُّ الذي لا يدانيه ظلمة ولا يخالطه شر، القدوس. الربُّ الذي ساءه أكثر من مرة جحودُ الإنسان وإنكاره، وهذه أصداء هتافات إسرائيل وصلواته للعجل الذهبي ما زالت تتردد في الجو، لأن آثار الجريمة لم تُمحَ بعد، فهذه الخطايا مازالت تتكرر حتى يومنا هذا بشكل أو بأخر. يَشاءُ الربُّ رغم تلك الخطايا البعيدة وهذه القريبة، أن يُسَاكِنَ هذا الشعب الخاطئ: في وسطه يَسْكُن، ومثله يَسْكُن في خيمة..!!