وظائف المسيح الثلاث 

وظائف المسيح له المجد، كما وردت في النصوص الكتابية والآبائية هي: 

١- الملك     ۲ – رئيس الكهنة    ٣ – النبي 

وهذا يعني أن الإشارة إلى هذه الوظائف كما وردت بتلك النصوص، تهدف إلى التشديد على أن المسيح هو : مصدر القوة، مصدر الشفاء مصدر التعليم المسيح له المجد ليس فقط هو الكلمة الذي كان يُستعلن للآباء قديما من خلال الظهورات الإلهية قبل التجسد، بل هو أيضا ذاك الذي يجمع ويوحد في شخصه المبارك كل تفاصيل تاريخ شعب الله حيث يسود على هذا التاريخ بهذه الوظائف الثلاث (الملوكية، الكهنوتية ، النبوية). 

ورغم أن هذه الوظائف الثلاث لا تجتمع غالبًا في شخص واحد، وإذا فرض واجتمعت فإنها لا تُوجد في توافق وانسجام، لأن كل سلطة عادةً ما تقاوم السلطة الأخرى. وتاريخ الشعب قديما يكشف عن المواجهات الساخنة والحادة التي كانت تحدث بين الأنبياء وبين الملوك غير الأتقياء. ونحن نعرف الكلمات النارية التي كان يوجهها الأنبياء إلى الملوك والكهنة غير المستقيمي الرأي والسلوك. فالأنبياء كانوا يمثلون الجزء النقي والمشرق في تاريخ هذا الشعب. أما في شخص المسيح فإن هذه الوظائف الثلاث توحدت بشكل كامل وتام، وتجلت في بناء جسد الكنيسة الحي. فالكنيسة هي الجسد الحي لأنها مبينة من ” حجارة حية ” ( ١بط ۲: ٥ ) . ولا يمكن أن تفهم الكنيسة بهذا المعنى إلا من خلال القوة والقدرة الملوكية والكهنوتية والنبوية. القدرة الملوكية هي تلك التي تحقق وتتمم عمل الخلق، والقدرة الكهنوتية تلك التي تجعل البشر يتواصلون مع الله ويدخلون في شركة معه، حتي يصلون إلى مرحلة القداسة والكمال. وهذا يعنى أن مسئوليتهم هذه الكائنات هي تقديم ذواتهم ذبيحة على مذبح الحب الإلهي من أجل تحقيق هذا الكمال. أما القدرة النبوية فهي تتجلى في قوة الكلمة كتعليم ينشر الرأي المستقيم ويحافظ على استمراره وتجعل البشر يدركون أن وجودهم واستمرارهم يعتمد أساسا على نعمة الله ومحبته للبشر. المسيح له المجد هو الذي أسس هذا البناء الحي (الكنيسة)، وسحق القوات الشيطانية، وأباد قوة الموت وأبطل سلطانه، وقام ظافرًا من بين الأموات هذا الانتصار هو انتصار ملوكي وبداية لتجلى عمل الكنيسة ودورها من خلال الأسرار وهو ليس غريبا أو مختلفا عن عمل الكلمة والتعليم، الذي يُصحح طبيعة الخطاة ويقودهم إلى النقاوة والتجديد. 

المسيح هو الوسيط الوحيد ورئيس الكهنة الذي يوحد الكون مع الله، مقدمًا ذاته ذبيحة حية من أجل حياة العالم. ولأن المسيح يحمل هذه الوظائف الثلاث، فكل مرة يعمل فيها عملاً كملك فإن خاصية النبي والكاهن لا تغيب عن هذا العمل. هكذا فكل عمل للمسيح هو عمل الملك والكاهن والنبي معًا. وهذا يعني أن عمل المسيح لا يمكن أن يتجزأ ، فلا يظهر مرَّة كملك ومرَّة ككاهن ومرة كنبي، أي أن كل كلمة وكل عمل هو نتيجة للقوة وللشفاء والتعليم معًا ، فلا تأتي الأعمال التي تُظهر القوة منفصلة عن أعمال الشفاء والتعليم. 

المسيح يملك ويشفي ويعلم، فعندما يشفي فهو لا يكون المسيح المعطي الشفاء فقط، بل يكون أيضًا هو الملك والكاهن والنبي معا، وعندما يُعلّم فلا يكون هو فقط المعلم أو النبي، بل أيضا الملك والكاهن في نفس الوقت هذه الوظائف الثلاث لا تنفصل عن بعضها البعض. وكما يقول مكسيموس المعترف: [كان ينبغي أن يكون المسيح حكيما وبارا وقويًا ، حتى أنه كحكيم يكون له قدرة خاصة على الشفاء، وبصفته بار يستطيع أن يهب الخلاص للجميع، وكقوي وكلي القدرة أن يحقق هذا الشفاء ويتممه]. ويري يوسابيوس القيصري الذي يربط تاريخ شعب الله بتاريخ الكنيسة كوحدة عضوية، أن الوظائف الثلاث تكتمل في شخص المسيح فهو وحده الملك (ضابط الكل)، وهو رئيس الكهنة الأعظم، وهو النبي أيضا. ولا يوجد أحد من الممسوحين ملوكاً أو كهنة أو أنبياء، امتلك هذه القدرة الكاملة التي للمسيح. يوسابيوس القيصري كمؤرخ يقول إن كل الأحداث التي مر بها الشعب قديما هي مراحل إنتهت إلى تأسيس الكنيسة. وفي المرحلة الجديدة، حيث المسيح هو رأس الكنيسة، فإن هذه الوظائف الثلاث الملوكية – الكهنوتية – النبوية) تتوافق وتنسجم فيما بينها بشكل يختلف عما كانت عليه قديما. على سبيل المثال تعرض الرسالة إلى العبرانيين تحليلاً تفصيليًا لعمل كهنوت المسيح، وهذا الكهنوت كما تشير الرسالة، ألغي الكهنوت اليهودي، هذا ما سبق وتنبأ به تاريخ العهد القديم. لأن ملكي صادق ملك ساليم، كاهن الله العلي، هو نموذج للمسيح نفسه. والنموذج لا يُفهم إلاّ من خلال المقابل الأصلي. 

ملكي صادق عندما بارك إبراهيم يكون قد بارك أيضا الكهنة اللاويين الذين سيخرجون من صلبه إن لاوى أيضا الآخذ الأعشار قد عشر بإبراهيم لأنه كان بعد في صلب أبيه حين استقبله ملكي صادق (عب ۷: ۹-۱۰). والرسول بولس يؤكد هنا على أن ملكي صادق هو أعظم من الكهنة اليهود وكهنوته أسمي بكثير من الكهنوت اليهودي. لأنه “بدون أي مشاجرة الأصغر يُبارك من الأكبر”(عب۷:٧). 

وملكي صادق بحسب القديس بولس هو ملك البر وملك السلام وهاتان الصفتان هما من صفات المسيح (ملك البر وملك السلام) ولا يمكن أن يشترك معه فيهما آخر. وقد صمت الوحي عند الحديث عن نسب ملكي صادق، فلم يذكر كيفية مولده ولا زمن ومكان مولده. فكلمة بلا نسب الواردة بالآية تُترجم هكذا باليونانية αγεnεαλόγητο وهي تشير إلى أن هذا الأمر ليس له نظيرا عند كل البشر إلا شخص ابن الله ، ولذلك يؤكد الرسول بولس أنه مُشبّه بابن الله. كذلك لم يشر الوحي إلى كيفية وزمن انتهاء كهنوت ملكي صادق. لأنه يقول هذا يبقى كاهنًا إلى الأبد ” وهذا الأمر يطابق كهنوت المسيح، الذي دخل إلى السموات بذبيحة نفسه، ليشفع في الخطاة، ويبقى كهنوته إلى الأبد. وعندما يشير نص الآية إلى أن إبراهيم أعطى عُشرًا من كل شئ، نجد أن ترجمة هذا الجزء في النص اليوناني الأصلي هو   ακροθιnιωn ومعناها أفضل غنائمه. الأمر الذي يشير إلى تقدير إبراهيم الكامل لشخص ملكي صادق. ومع أن إبراهيم هو الذي نال المواعيد من الله وهو رئيس الآباء، إلا أنه يُبارك من ملكي صادق. هذا لأن ملكي صادق يحمل كهنوتًا باقيًا إلى الأبد، وهو بذلك أسمى وأعلى من الكهنوت اللاوي، لأن الكهنوت اللاوي زمني وينتهي بموت اللاويين ” وهنا أناس مائتون يأخذون عُشرًا ، وأما هناك فالمشهود له بأنه حي” (عب ٧ :٨). فاللاويون يمنعهم الموت من البقاء على الدوام، أما ملكي صادق فيبقي حيًا إلى الأبد، وفي هذا إشارة واضحة لكهنوت المسيح الذي يبقى إلى الأبد، ولذلك يقول ” لو كان بالكهنوت اللاوي كمال إذ الشعب أخذ الناموس عليه ماذا كانت الحاجة بعد إلى أن يقوم كاهن آخر على رتبة ملكي صادق ولا يُقال على رتبة هارون ” (عب۱۱:۷). إن كلمة “كهنوت آخر” تعد ترجمة غير دقيقة للتعبير اليوناني وهي تعنى كاهنًا مختلفا، وليس كاهنًا آخرًا. لأن تعبير كاهن آخر يفيد أنه على نفس المستوى الذي لهارون، أما “كاهن مختلف فتعنى كاهنًا جديدًا على طقس آخر مختلف. هذا الكاهن الجديدة سيسود على كل الشعب، حتى على الملك نفسه. وهي نبوءة تشير إلى أن المسيا الآتي هو كاهن وملك حقيقي. الإشارة الأخرى هي كلمة “كمال” “فلو كان بالكهنوت اللاوي كمال”، كلمة “كمال” في اللغة اليونانية تعني بلوغ الهدف أو تحقيق القصد النهائي، والذي هو غفران الخطايا، التبني، الكمال، ووراثة ملكوت الله. هذا كله لا يمكن تحقيقه إلا في شخص المسيح القادر على منح كل هذه العطايا، ويشير مزمور ۱۱۰ إلى قصد الله في إقامة كهنوت مختلف قادر أن يخلص ويبقى إلى الأبد قائلاً: ” أقسم الرب ولم يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق (مز٤:١١٠). 

هذا هو “الكلمة” الذي استُعلن في العهد القديم قبل التجسد، والذي تجسد في ملء الزمان ليتمم المصالحة بين الله والكون، رئيس الكهنة الأعظم الذي قدم ذاته ذبيحة حب من أجل حياة العالم كله، ومنح الإنسان الحياة والخلود وهو في نفس الوقت ملك الملوك والنبي القادر أن يعلم الإنسانية أمورًا فائقة. فتاريخ شعب إسرائيل هو انعكاس للحقيقة المطلقة التي تجلّت في ظهور الملك الحقيقي ورئيس الكهنة الأعظم والنبي الآتي. وفي ضوء كل هذا يصبح لملوك وكهنة وأنبياء إسرائيل معنى في الإشارة إلى شخص المسيح الذي حمل هذه الوظائف الثلاث في توافق وانسجام كامل. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى