الفخار وأهميته حتى العصر القبطي
صناعة الفخار أقدم الصناعات اتصالاً بتاريخ المدنية الإنسانية على الاطلاق، لانها لازمت الإنسان في جميع أطوار حياته منذ الخليقة. كما أن الفخار هو المصدر الأساسى الذى يمدنا بفكرة صحيحة عن خطوات التقدم البشرى وقفزاته في مستهل حياته. والمصريون هم أول من ابتدع صناعة الخزف أو الفخار منذ فجر التاريخ ووصلوا به إلى درجة مرموقة فى الدقة والإتقان. وكان هناك كثير من الدوافع التي تحتم عليهم الأهتمام والعناية بتلك الصناعة منذ القدم لأن الأوانى الفخارية كانت الوسيلة الجوهرية اللازمة لطهى مأكولاتهم وحفظ السوائل على اختلاف أنواعها ووضع الحبوب في الجرار الكبيرة لصيانتها من التلف كما كانوا أحيانا يشكلون منه حتى التوابيت اللازمة لحفظ جثث موتاهم – أما في صناعته فكانوا يستعملون أنواعاً مختلفة من الطفل والطين أو الطمى النيلى فى عمله . ونظرا لأن مصر أغنى أقطار الدنيا بالمواد اللازمة في صنع الفخار أو الخزف فقد انتشرت صناعته انتشارا كبيرا وتنوعت أشكاله في جميع أنحاء البلدان المصرية منذ أقدم العصور التاريخية.
ولم يكن يفطن علماء الآثار إلى أهمية الفخار حتى عام ١٨٩٠ للميلاد حتى شرعوا فى العناية بدراسة أنواعه المختلفة وأشكاله المتعددة وميزة كل منها كما عنوا أيضا برسم كل نوع من أنواع الفخار التى كانت تظهر في حفائرهم فكان ذلك من العوامل الهامة التي ساعدت على معرفة تاريخ الأماكن التي وجدت فيها الآثار وأول جهة عثر فيها على الفخار فى مصر كانت في منطقة «مارمدة» من أعمال بلدة «بني سلامة» حيث ظهرت بها مجموعات مختلفة من عصر ما قبل التاريخ، وامتازت أنواعها باختلاف أشكالها وتعددها مع خشونة سطوحها ، كما ظهر في مناطق أخرى فى الصعيد فى بلدتى البدارى وتاسا وغيرهما وامتاز فخارها بنعومة سطوحه الحمراء وسواد رقابه مع الدقة البراقة البالغة، كما لوحظ على سطوح كثير من فخار عصر ما قبل التاريخ رسوم بدائية باللونين الأحمر والبنى تمثل بعض السفن أو الحيوان كالوعول والغزلان أو الزراف والنعام وغيرها.
ثم ظهر أن كل عصر من العصور امتاز بانواع وأشكال خاصة من الخزف فكانت مهمة فحول رجال الآثار والعلماء منهم ترتيب تلك الأشكال المختلفة وتبويبها حسب أزمانها وجهاتها على وجه التقريب. بل امكن للخبراء منهم أن يصلوا إلى معرفة العصر الذي تنتمى إليه مجموعات الفخار، بل وأمكنهم أيضا في غالب الأحيان تحديد الأسرة التي صنعت فيها، فجاء عملهم هذا فتحا جديدا في تاريخ علم الآثار اذأنهم وضعوا أسساً وقواعد علمية قيمة للدارسين من طلاب الآثار والباحثين يستنيرون بهديها في معرفة عصور أو أزمان ما يصادفهم من مجموعات الفخار المتنوعة أو مما يعثرون عليه في حفائرهم.
ومن طريف ما سجله لنا تاريخ الفراعنة منظراً رائعا على أحد جدران مقبرة أحد الأمراء في بلدة سقاره يمثل كيفية صناعة الفخار بطريقة غاية في الوضوح والسهولة وتوضح صور الخزافين وهم يمارسون عمل الأوانى المختلفة الأشكال طريقة تنظيمها ثم وضعها داخل أفران خاصة لأحراقها وذلك في الأسرة الخامسة، كما سجل أحد المناظر أيضا العجلة التى كانت تستخدم في تشكيل الأوانى وكان الخزاف نفسه يديرها بيده. وهى معروفة لديهم منذ أقدم العصور كما يزعمون أن عليها صاغ خالق الكون باكورة البشر « خنوم » معبود الفنتين في بدء الخليفة.
وقد كانت الأوانى الفخارية والأوعية البسيطة خاصة تشكل في عهد الدولتين القديمة والمتوسطه بالأيدى كما استخدمت العجلة أيضا، وظهرت من مجموعات ذلك العصر أنواع عديدة من أشكال الجرار والقدور والصحاف والصحون والأطباق المختلفة الأحجام ، وقد لوحظ أن القدور المحروقة كانت توضع داخل الأفران منذ فجر التاريخ حتى عهد الدولة القديمة بحيث تكون فوهاتها في النار مما أدى إلى اسودادها ، كما أن معظم الأوانى الكبيرة والصغيرة كانت خالية من القواعد التي تستقر عليها بل كانت تضيق فى أجزائها السفلى مما يدل أنها كانت تثبت إما في أرضية المنازل على غرار ما كان يتبع في جرار الخزين بمدينة « تل العمارنة » وأما نوضع في قواعد على شكل حلقة أو حامل خشي . ومن ميزة الأوعية على اختلاف أشكالها في عهد الدولتين أيضا البساطة بصفة عامة وخلوها غالبا من وجود المقابض كما امتازت زخارفها كذلك يرسومها المحفورة وصورها الملونة.
ومنذ بدء عصر الدولة الحديثة أى من الأسرة الثامنه عشرة ظهرت الزخارف على الأوانى المصنوعة من الصلصال وكانت تزين غالبا بأكاليل الزهر بألوان زاهية كما كانت تحلى أحيانا بصور لبعض الحيوان أو الطير كالثيران أو الخيل والبط وغيرها. هذا وقد انتشرت صناعة تزجيج الفخار وهى التى تسمى بالقاشانى المصرى، وكان التلوين فيها غالبا باللونين الأزرق أو الأخضر، وكانت معروفة أيضا منذ فجر التاريخ حتى أواخر عصر الأسرات المصرية.
أما في العصر اليونانى الرومانى فقد ظهرت فيه أنواع خاصة من الأوانى الخزفية اشتهرت بدقة الصناعة ورتبها الرائعة ومنها أشكال الكوؤس والدوارق والسلاطين الراقية والتي زينت سطوحها الخارجية بأشكال عديدة من الرسوم ذات المناظر الأسطورية العديدة الألوان الأرجوانية أو السوداء وكذلك مناظر وتماثيل فخارية دقيقة متنوعة وقد شكلت باتقان بالغ على هيئة آلهة الجمال. أو آلهة الحب وغيرها من المناظر الأسطورية العديدة ومزينة بالألوان المختلفة. وانتشرت صناعة المسارج الخزفية الأنيقة التي زينت سطوحها بصورة بارزة تمثل أشكالا آدمية وآلهة وأساطير ونقوش أخرى زخرفية دقيقة الصنع ، كما أنفرد العصر المذكور أيضا بصناعة نوع من البراني الجميلة الأشكال كان يرسم على سطوحها أحيانا مناظر آدمية أو فرسان بالألوان وكان استعمالها قاصراً على حفظ الرماد المختلف من حريق أجساد الموتى. ويحتفظ المتحف اليونانى الرومانى بالأسكندرية بمجموعة متنوعة من تلك الأوانى الفريدة.
أما الفخار الذى ازدهر فى العصر القبطى فما زال حتى الآن في عهد الدراسة وبالرغم من أن أنواعاً عديدة منه اختصت بعلامات ورموز تميزها عن الفخار المصنوع في العصور الأخرى إلا أن كثيرا ما نصادف بين مجموعاته أشكالا تشترك في في نوع الخزف المنسوب إلى العصر اليونانى الرومانى بل منها ما يشابه ما كان يصنع العصور المصرية القديمة. على أن هذا أمر طبيعى على خزافى العصر القبطى أن يقلدوا ما كان يصنعه أجدادهم من قبل من أشكال الفخار بالرغم من ابتكارهم أنواعا رائعة منه تثير الإعجاب. وقد ترعرعت صناعة الفخار ونما شأنها في العصر القبطى حتى القرن الثالث عشر للميلاد وكثر استعمالها وزادت منتجاتها إلى درجة أنه روى أن الباعة في ذلك الوقت كانوا يسلمون ما يبيعونه من السلع إلى المشترين في أوان خزفية بدون مقابل ، وترجع كثرتها ورخصها بطبيعة الحال إلى زيادة انتاجها الهائل مع سهولة الحصول على المواد التي تصنع منها ووفرتها.
أما أشكال الأوانى الفخارية على اختلاف أنواعها وأحجامها فقد امتازت بدقة الصناعة وجودة صقلها ونعومة سطوحها وزهاء ألوانها الحمراء أحيانا مع جمال الرسوم والنقوش التي تزينها ، ومن تلك الرسوم ما يمثل رموزا أو مناظر دينية والبعض زين بأشكال الحيوان الخرافى منه أو المتوحش أو المستأنس أو بأنواع الطيور المختلفة كالبط والحمام أو البجع أو الطاوؤس أو بمناظر الأسماك أو بأفرع الكرم أو الزيتون أو رسوم هندسية أو صلبان أو بأشكال آدمية قد تمثل بعض القديسين أو الرهبان. ومن بين الأوانى التى زخرت في العصر المذكور مجموعة قيمة من المسارج الصغيرة نقش على معظمها رموز ونصوص قبطية بازرة ، وعدد كبير من القارورات الصغيرة الجميلة الأشكال والتي كانت تستخدم فى حفظ أنواع العطور والدهون والطيوب وغير ذلك من أنواع السوائل الأخرى ، وكذلك مجاميع الأنابيب الصغيرة المستديرة التي تعرف باسم أوانى القديس “مينا” وقد حليت بصورة بارزة له تمثله وهو قائم بين جملين وحوله أحيانا كتابة بالأحرف القبطية وأحيانا اسماء لبعض أشخاص ربما ترمز غالبا إلى صانع الآنية أو توقيعه . ومما هو جدير بالذكر أن كثيرا من قطع الخزف قد استخدمت في العصر المذكور فى تدوين النصوص القبطية عليها والآيات أو الترانيم وأحيانا في تدوين بعض التعاويذ ثم كوسيلة لتحرير الرسائل عليها بين رهبان الأديرة وغيرهم وفى كتابة الأيصالات كما يتعلمون عليها طريقة تحسين وأتقان الأحرف القبطية عند البدء في تعليم الكتابة . هذا وقد عثر في الأدبرة القديمة على عدة قطع من الفخار وعليها الآثار التى تؤيد الأغراض المذكورة وترجع غالبا إلى ما بين القرن الخامس والثامن الميلادى.
أما في العصر الاسلامى فحق لمصر أن تتبوأ المكان الأول فى الإنتاج الرائع الذي غمر البلاد من أنواع الخزف الخلاب الفاخر وما حوى من الزخارف والنقوش الفنية الدقيقة والأشكال المختلفة التى زخرت بها عاصمة الدولة وقتئذ ، والدليل على ذلك مجموعات القطع الهائلة من الفخار المهشم الذى لا حصر لها وخصوصا ما عثر منها فى حفائر مدينة الفسطاط وكلها آيات بينات تكشف لنا عن مكنونات تلك العصور الزاهرة فى تاريخ صناعة الخزف وكيف انتعشت وتطورت وارتقت خصوصا في زمن الطولونيين والفاطميين والمماليك ، وناهيك عما ذكره بعض الرحالة عن روعة الأوانى الخزفية والكوؤس والصحاف البديعة وما امتازت به مـ لمعان وبريق معدنى يخلب اللب ويأخذ بمجامع القلوب. وقد أيد ذلك الرحالة الفارسی “ناصری خسرو” إذ أظهر دهشته وسروره البالغ مما رأه من عظم وبهاء تلك الأنواع الجميلة اللامعة من الخزف والقاشانى المصرى ووفرتها ، كما أن الرسوم العديدة التى تزينها وموضوعاتها التعبيرية من مناظر آدمية تمثل بعض الفتيات الراقصات أو الحفلات الموسيقية المرحة والشراب أو أشكال الحيوان والطير في حركات وأوضاع طبيعيه وكأن دبيب الحياة يكاد يدب بين أعضائها، وكان انتشارها بصفة خاصة فى العصر الفاطمى تعد كل هذه بلا شك أكبر مفخرة فنية الصناعة الخزف فى العصور المذكورة – ومن بين القطع الخزفية مما زينت ببعض الرنوك أو برسم كؤوس أو صلبان أو سيوف أو اسماك وعلى البعض الآخر منها بعض كتابات كوفية أو عربية ومغطاه بطلاء براق . ومن خصائص مجموعات قطع الخزف التي أنتشرت في العصر المملوكى ندورة الرسوم الآدمية أو الحيوانية عليها كما كثرت الزخارف الهندسية والنباتية والأزهار فيها وغلبت عليها الألوان البنية والخضراء. ومن طريف ما شوهد أيضا على كثير من قطع الخزف توقيع بعض الصناع أو اسماء بعض أصحاب المعامل التي صنعت بها تلك الأوانى . ويرجع تاريخ تلك المجموعات الخزفية المتنوعة غالبا إلى ما بين القرن الحادى عشر والخامس عشر الميلادي.