فلسفة العامة
“خُلِقَ الإنسانُ للتفكير، وهذه قِمَّةُ كرامته؛ فالواجبُ عليه والحالةُ هذه أن يُحَسِّنَ التفكير.”
التفكير قيمة إنسانية عُليا
من الموضات الحديثة اليوم اقتناء “أوتوجراف”، وهو سجل أنيقٌ يحصل فيه الإنسان على كتابات من هذا وذاك، أو من هذه وتلك، من معارفه وأقاربائه ومدرسيه، إلخ.
عند طلبت كلمة مني إحداهن “أوتوجراف”، قرأت بعضاً من الجمل المكتوبة به، وكان منها هذه الكلمات الآتية – وهي الوحيدة التي أعجبتني: “تطلبين مني كلمة في هذا الأوتوجراف، ومعظم ما فيه صور ومناظر طبيعية ورسم طيور وزهور، وكلمات هي للزينة والزخرف، ثم جمل فارغة. وأنا لا أجيد هذا، وكل ما يهمني هو حقائق الحياة وجوهرها، لا زخرفها الذي يغش الناس ويخدعهم ويبعدهم عن الحقيقة فيتبعونه”. لذا، أكتب لك الكلمة الآتية:
كان في الأجيال الماضية بعض من قِصار النظر وصغار الأحلام، أعداء العقل والفكر، تركوا وراءهم تراثًا ذهنيًّا سَقِيمًا، يقوم على مجموعة من الأمثال المُعَطِّلَة للعقل، المُمِيتةِ للأرواح والهِمَم، يتوارثها جيلٌ عن جيل دون أن تموت، دلالةً على ضعف الرؤية وقلة التفكير. وبحكم ضحالة هذا التراث و الضرر الذي يلحق بمن يتبعه، نشأ الورثة في حالٍ يُرت له. ولذلك ظل أولئك في مُؤخَّرة الناس، فضلًا عن البؤس والتعس الذي يعيشون فيه، وكل هذا كان طوعًا واختيارًا.
تراث لا يبني: الأمثال المُعطِّلة التي تدعو إلى التواكل والكسل
من ذلك التراث السقيم و الأمثال المُعَطِّلَة للعقل المُذِلَّة للنفس التي لا تتوافق مع التفكير السليم لكنها تدعو الناس إلى التواكل و الكسل وعدم المحاولة. قولهم:
- «القلم وحده والولد وسعده، لا عن أبوه ولا عن جده».
- «اجرِي جري الوحوش غير رزقك ما تحوش».
- «أَصْرِفْ ما في الجيب يأتيك ما في الغيب».
- «اديني عمر وارميني في البحر»
- «إذا دخلت بلد تعبد الثور حش وارمي له»
- «المكتوب على الجبين تراه العين»
- «اعمل خدك مداس لما تاخد صنعة الناس»،
تُراث يبني: الأمثال المُحفِّزة التي تدعو إلى العمل ورفعة النفس
وكأن بعض المفكرين ممن جاءوا بعد أولئك – أو في عصرهم – رأوا ما في ذلك من ضرر وأذى للمجتمع لا يصح السكوت عليه، ولتجنب الضرر الواقع من تطيبق الأمثال السابق ذكرها، تركوا لنا مجموعة مفيدة من الأمثال، فقالوا:
- «خُذ من التل يختل».
- «على قد حصيرتك مد رجليك».
- «صَبري على نفسي ولا صبر الجزار علي».
- «حمارتك العرجاء تغنيك عن سؤال اللئيم».
- «فوت على عدوك جوعان ولا تفوتش عليه عريان».
- «لا حسنة إلا بعد كُفْوِ البيت».
- «إذا كان البيت محتاج للزيت حرم على الجامع».
- «اسعَ يا عبدي وأنا أعينك».
- «إذا قعدت على البحر اعمل صرَّاف».
- «اعطي عيشك للخباز ولو أخذ نصه».
- «اللي ما يقيس قبل ما يريس لا خير في القياس بعد الغَرَّة».
- «كفّ عمال ولا خزائن مال».
- «من أمنك لا تخونه وإن كنت خائنًا»
وغير ذلك مما يدعو إلى العمل وإعمال الفكرة ورفعة النفس.
كن كالنحلة: ألتقط الرحيق فقط
ونصيحتي لخيرك ألا تجعل مثلاً من الأمثال المُعَطِّلَة للفكر المُتَجافِيَة مع العقل أن يعلق بذهنك. وإياك والأخذ بها أو حتى ترديد أحدها. لأن هناك بعض الأمثال مُضرة للإنسان وتشل تفكيره، تجعله بلا هدف ولا قيمة. فكن كالنحلة التي تجمع الرحيق من كل زهرة، تعرف ما هو مفيد وما هو ضار.
لِلخاصة فلسفتهم التي تقوم على العمل والتفكير فيما يفيد، فكيف لا تكون للعامة فلسفتهم هم أيضًا؟ وكل غير مُفكر هو عامي، وإن حمل شهادات دراسية، كان عاميًّا خطرًا. إلا أن منهم من يرجع فلسفته إلى التدين المطلق في غير وعي، ويرد كل الأمور إلى الله، والله بريء من ذلك التفكير.
نرى في المجموعة اأولى من الأمثلة تواكلًا واستخفافًا بالعقل، وتهاونًا في الكرامة والقيم الأخلاقية. ولا نعرف كيف يكون الإنسان إنسانًا بغير القيم الأخلاقية الرئيسية في حياة الأمم، فضلًا عما فيها من افتراء على الله كلي قدرته. ولا نعرف ماذا يبقى للإنسان بعد أن يكون عاطل العقل ذليل النفس؟ هل يمكن أن يكون أكثر من حيوان يتكلم!؟ وهل هو يمتاز عن الحيوان الأخرس!!
خطورة التواكل والجهل
أمثلة منافية للعقل وكل دين.. وكم من بيوت عامرة خربت، وكم من أناس تعسوا من جراء العمل بها. وما من شك أن كل من يؤمن بهذه السخافات هو في قاصر لا يصح أن يعهد إليه بعمل.
ومن المحزن أن الأمثلة المُعَطِّلَة للعقل هي السائدة، أما الأمثلة النافعة فالعامل بها قليل، لا للجهل فقط، بل لميل طبيعة الإنسان عندنا إلى الكسل والتواكل. ولا يمكن أن تجد رجلاً عاقلاً مفكرًا يوافق على الأخذ بهذه الأمثلة المريضة؛ لمجافاتها للعقل والكرامة الإنسانية والدين أيضًا، وكل ما يتجافى مع العقل والدين مُنكر.
والأمثلة الصالحة غير سائدة لأن التفكير عادة لا يوجد إلا عند الذين يحترمون عقولهم، ونسبة أولئك إلى الآخرين قليلة، ومرد ذلك تهاون المسؤولين في مأموريتهم؛ فهم يظلمون أنفسهم والآخرين. ولو لم يكونوا كذلك، لعملوا ما يرضي الحق.
ما يبنيه المفكرون المخلصون في زمان طويل يهدمه أو يشوهه المُعَطِّل في قليل من الزمن، بحكم ضعف تفكير الأغلبية واستغلال هذا الضعف من ناحية المتاجرين بعقول الناس. يقول المختبرون: “اهرب من الأجرب”، وكان يحق لهم أن يقولوا أيضًا: “اهرب من الجاهل”؛ الأجرب قد يؤذي جسد السليم وهذا يعود ويشفى بمساعدة حكمة المفكر، أما الشخص الذي يردد على مسامعنا الأمثال المريضة، فيؤذينا في عقولنا وتفكيرنا ونفوسنا، فنفقد ذواتنا ولا نعود شيئًا. فالهرب من هذا قبل الهرب من الأجرب.
يقولون: «حظ»، و«بخت»، و«مكتوب»، و«شيء لا بد أن يكون»، هذه كلها ألفاظ يُعْنَى بها الله ، وكل الأمثال المُعَطِّلَة هي في حكم الظلم، فكيف تنسبها إلى الله وهو عدل ورحمة وبر؟! إذن فأولئك الذين يأخذون بهذه الأمثلة لا يعرفون الله على حقيقته السامية، ويمكن أن أقول إنهم لا يدركون حقاً نعمة الله.
لو أن حكم العقل في الدين غير موجود لقلت: «معذورين»، ولكن العقل موجود، والإنسان مطالب به ويسير به وجوبًا. وفي ذلك يقول القديس بولس: “لا تكونوا أولادًا في أذهانكم، بل كونوا أولادًا في الشر، وأما في العقل فكونوا كاملين” (١ كورنثوس ١٤: ٢٠). ولا بد في الكتاب المقدس من كثير من الآيات التي تحث على استخدام العقل ووجوب التفكير. فمن واجب المرشدين ورجال الدين في المقدمة محاربة هذه الأمثلة؛ لتجافيها مع العقل ومخالفتها للدين أيضًا.
يقول المثل المُعطل: «اجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش»، ولكن المثل المُفكر يقول: “اسعى يا عبدي وأنا أسعى معك، وإن قعدت مين ينفعك”.
يقول عديمي الخبرة: «اديني عمر وارميني في البحر»، و«اتجرى جري الوحوش غير رزقك ما تحوش»، فأي إنسان يسلم بهذا الكلام الذي لا يتوافق مع أي عقل؟! فمحاربة هذا الكلام الذي يهدم القيم الأساسية واجب على الجميع، انقاذًا للناس من شره. أما الافتراء على الله، فإن الله لا يضيره أن يفترى عليه الجهلاء والأغبياء، وحق على المرشدين والقادة إرشاد الناس إلى حقيقة الدين من ناحية هذه الاعتقادات؛ لِنُبَرْهِنَ على حبنا لله وتقديسنا لاسمه. وترك الأغبياء في غبائهم لا شك هو مسؤولية أو دينونة. إني لا أدعو إلى بدعة ولا إلى ما ينايء الدين، بل إلى ما يخدم الدين ويخدم الناس، فهل هم فاعلون؟ قد أكون مخطئًا في نظري، وليس هذا ببعيد. فيا حبذا لو تطوع مفكر وأرشدني إلى الصواب فأشكره، لأنه يكون قد أتى خيرًا.”
مصادر ومراجع
- الكتاب المقدس.
- أحمد تيمور: “الأمثال الشعبية”.
- عبد الحميد يونس: “الأمثال العامية”.