البابا بطرس الرابع

 البطريرك الـ ٣٤ 
(٥٦٧ – ٥٦٩م) 

المعاناة في رسامة البابا الجديد: 

ونحن الآن ما زلنا في عهد الإمبراطور البيزنطي جوستنيان ومركزه القسطنطينية، وكان الأقباط تحت ولاية زويلوس الذي هو في نفس الوقت البطريرك الدخيل المسمَّى “الملكي” (أي المعيَّن من قبل الملك في بيزنطة). وكان الإمبراطور جوستنيان قد وضع أيام البابا الراحل ثيئودوسيوس منشورات بحرم بعض مشاهير المصريين والفلسطينيين، وأرسل لبطريركه الدخيل زويلوس في مصر أن يوقع على هذه المنشورات، فرَضِيَ في بادئ الأمر، ولكنه تراجع وامتنع، فنفاه وعيّن غيره رجلاً اسمه أبوليناريوس الذي أتى من القسطنطينية إلى الإسكندرية بلباس قائد جيش ومعه قوة عسكرية لتوطيد رئاسته فلما قدم إلى الإسكندرية ودخل الكنيسة نزع ثياب الجند ولبس ثياب البطاركة فهم الناس ،برجمه فانصرف وجميع جنده. ثم عاد وضرب الناقوس في الإسكندرية يوم الأحد، فاجتمع كل الناس للصلاة حتى لم يتخلف أحد، فصعد إلى المنبر وصاح فيهم: “يا أهل الإسكندرية، إن لم تتركوا أقوال ديوسقوروس فإني أخاف عليكم لئلا يُرسل القيصر مَنْ يقتلكم ويستبيح أموالكم ونساءكم”. فهمُّوا برجمه وهو على المنبر، فأشار إلى الجند فأعملوا السيوف فيهم، فقتل من الناس عدد كثير، وفرَّ منهم عدد وافر إلى أديرة وادي النطرون فنهب الملكيون (التابعون للبطريرك الملكي) كنائس المؤمنين، ودُعي ذلك اليوم “المذبحة”. وأمر القيصر عميله أبوليناريوس أن يجتهد في مقاومة الأرثوذكسيين حتى لا يظهر أحد من أساقفتهم بمدينة الإسكندرية. ومن ذلك الوقت انتقل كرسي الأرثوذكسيين إلى وادي هبيب أي برية القديس أنبا مقار

ولما تنيَّح البابا المعترف ثيئودوسيوس، أظهر هذا البطريرك/الوالي الملكي أبوليناريوس فرحه لظنه أن الجو قد خلا أمامه ليُرضي الكل برئاسته على الكنيسة القبطية وأقام وليمة للكهنة وأهل مدينة الإسكندرية، وتوهم أنهم سيوافقونه، وعلى الأخص أن الآباء الأساقفة لم يكن أحد منهم يستطيع الظهور بالإسكندرية – كما أسلفنا – لكن الشعب القبطي بالتضامن مع كهنته كانوا أكثر صلابة وأمانة لإيمانهم من ولائم وأموال الإمبراطور وولاته.

لكن أبوليناريوس هذا لم تدم فرحته، لأن الإمبراطور استبدله بوال جديد اسمه “اريستوماخوس” خطب ودَّ المصريين، وتأثر بأحد أراخنة الإسكندرية الأتقياء واسمه دوروثيئوس، فكان يُقدِّم لأهل الإسكندرية المعونة الخفية، ولشيوخ الرهبان في وادي هبيب (أو برية مقاريوس) الدعم المادي والأدبي. فأوعز إلى المسئولين منهم بأن يقصدوا إلى أحد الأديرة المتاخمة للإسكندرية بدعوى إقامة الصلاة وهناك يقومون بإجراءات رسامة من ينتخبونه أسقفاً على الكرسي المرقسي. فخرجوا إلى دير الزجاج (بالقرب من الإسكندرية) وأحضروا ثلاثة أساقفة، واتفق جميعهم: الأراخنة ومقدَّمو الشعب والأساقفة على اختيار راهب بهذا الدير يُدعى بطرس. فوضع هؤلاء الأساقفة اليد عليه ورسموه باسم بطرس، ليكون الخليفة الرابع والثلاثين لمار مرقس الرسول وكان ذلك في شهر مسرى عام ۲۸۳ للشهداء / ٥٦٧ للميلاد، في عهد جوستنيان الثاني (وهذا بحسب تقويم ذلك الزمان). 

وتعزى الشعب بالبطريرك الجديد، وتقوّى إيمانهم، ولكنهم لم يكونوا يقدرون على الدخول إلى مدينة الإسكندرية علانية خوفاً من أن يعلم بذلك القيصر. وهكذا لبث البطريرك مقيماً بمكان يبعد عن الإسكندرية مقدار ٩ أميال في بيعة على اسم القديس يوسف البار، وكانوا يحملون إليه جميع ما يحتاج إليه. ولكن لم يسلم البابا الجديد من حسد الحاسدين، إذ شعر أبوليناريوس الذي كان ما يزال بالإسكندرية بالأمر، فغضب جداً وكتب للقيصر يُعْلِمه بذلك، ولكن قبل وصول كتابه إلى الإمبراطور بالقسطنطينية ضربه الرب بمرض عضال قضى على حياته. 

خصال وصفات البابا بطرس الرابع: 

أما البابا بطرس فكان بهي الطلعة جميل الصفات مُحبّاً للمتعلمين. فبحث عن كاتب له (بمثابة سكرتير) يكون مُلِمّاً بعلوم الكنيسة، فأرشدوه إلى راهب مُلازم ديره لمدة ١٦ سنة يُدعى دميان يسكن في دير طابور، فمضى إليه البابا البطريرك وتحدَّث معه، وطلب من رئيسه أن يشترك  معه هذا الراهب في حمل آلام الكنيسة ورجاه أن يذهب معه ليُقيم في الدير الذي يسكنه البابا. 

وبالرغم من تمسك الراهب بوحدته وسكونه اللتين تعود عليهما هذه السنين الكثيرة، إلا أنه أطاع البابا ومضى معه إلى حيث يُقيم. وقيل عن هذا الراهب إنه كان من أرباب الأقلام، أي مؤلّفاً وكاتباً. وكان هناك في هذه المنطقة أديرة كثيرة العدد يسكنها جمع غفير من الرهبان وبجوارها ثلاثون ضيعة تُسمَّى سكاطينا” أي مساكن سكانها أرثوذكسيون. وكانت الأديرة والإسكاطينا هذه تحت إدارة ورئاسة البابا بطرس. وسنجد بعد ذلك هذا الراهب دميان مُرشحاً للكرسي البطريركي بعد نياحة البابا بطرس الرابع. 

صلات الكنيسة القبطية الإسكندرانية بالكنيسة الأنطاكية:

أما بالنسبة لشعب أنطاكية فلم يكن اضطهاد البيزنطيين وعملائهم له أهْوَن من الاضطهاد الواقع على شعب الإسكندرية وسائر مصر. فبعد نياحة البطريرك القديس ساويرس الأنطاكي (الذي نُفي من أنطاكية وعاش لاجئاً متنقلاً بين أديرة مصر)، كان الكرسي الإنطاكي شاغرًا، وإذ سمعوا أن الأقباط قاموا بسيامة بابا لهم تشجعوا هم أيضًا، وقلّدوا المصريين، إذ لما ضاقت بهم السبل أخذوا راهب ناسك مملوء حكمة يسمى ثيؤفانيوس إلى دير هناك يُعرف باسم دير أمونيوس، ورسموه هناك. ذلك لأن الموالين لمجمع خلقيدونية هناك كانوا نظير رفقائهم في الإسكندرية يُضايقون الأساقفة مستقيمي الإيمان. وكان يعيش في دير خارج مدينة إنطاكية كمطرودٍ من أجل الإيمان. وتلاقى البطريركان معًا على صعيد الألم خلال الرسائل المتبادلة بينهما، وكانت هذه الرسائل سبب تعزية للشعبين.

تغير الأحوال: تغيير الوالي المُحِب بآخر قاس: 

ولم يبقَ الحال على نفس المنوال، إذ أمر الإمبراطور بنقل الوالي المحِب أريستوماخوس وعين والياً قاسياً محله، يقف للبابا بالمرصاد فلم يُمكّنه من دخول مقر كرسيه. على أن اضطرار البابا إلى البقاء بعيداً عن مقر رئاسته لم يؤلمه، إذ كان قلبه مُفعماً غبطة وهدوءاً وصفاء مع الله، وهذه سمة سكان البراري، فكان في إمكانه أن يتنقل بين أديرة وادي هبيب ويستمتع بصحبة وعبادة رهبانها وتسبيحهم الدائمين الله . 

فأوجدوا له فرصة للخلوة والتأمل مما جعله يكتب الكثير من الرسائل التي كان يبعث بها إلى شعبه وإلى إخوته الأساقفة الشرقيين الذين كانت روابط المحبة والاشتراك في نفس الآلام متوثقة بينه وبينهم. 

رحلات وأعمال رعوية في لمحة من الزمن الهادئ: 

لما مات أبوليناريوس البطريرك الدخيل، استطاع البابا بطرس الرابع أن يخرج من عزلته ومن ثم قام برحلة رعوية زار خلالها المدن والقرى المتناثرة في أرجاء وادينا الرحيب. فتعزّت قلوب المؤمنين برؤيته حراً طليقاً. 

وكان من بين ثمار هذه الزيارة الرعوية رسامة أسقف على الكرسي الشاغر في جزيرة فيلا (في أعالي النيل). وقد اشترك هذا الأسقف في تقوية السور الكبير الذي كان قائماً لحماية الجزيرة من طغيان النهر، وذلك تعاوناً منه مع والي المنطقة. 

حَبريَّة قصيرة الزمن 

على أن هذا البابا المتفاني في محبة شعبه والذي امتاز بالتقوى والعلم معاً لم يعش بعد رسامته طويلاً، فلم تدم سنو حبريته غير سنتين، انضم بعدها إلى بيعة الأبكار. وكان ذلك في الخامس والعشرين من بؤونة سنة ٢٨٥ للشهداء / ٥٦٩ للميلاد بتقويم ذلك الزمان. ومن أيام هذا البابا صارت قاعدة لزمن طويل أن يُرسم البطاركة ببرية القديس مقاريوس بوادي هبيب. صلاته تكون معنا، آمين 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى