أنبا دانيال قمص شيهيت 

لقد لمع اسم: أنبا دانيال إيغومينُس (قمص) شيهيت في كل منطقة وادي النطرون أو إسقيط مقاريوس منذ أوائل القرن السادس. وقد كانت قداسة هذا الأب الروحي وحكمته وعمق بصيرته الروحية الباطنية في تدبير نفوس الرهبان، سبباً في ازدياد النشاط الرهباني في هذه المنطقة التي كان الإسكندرية سبباً في جعلها سهلة المنال من الولاة والحُكّام البيزنطيين الذين حكموا من مصر، والذين آذاهم تأثير الرهبان على مجريات النزاع العقائدي الذي نتج عن مجمع خلقيدونية المشئوم عام ٤٥١م؛ إذ كان الأقباط يتطلعون إلى موقف رهبان البرية من المنشور المسمى “طومس لاون” ويتشجَّعون به في إعلان تمسكهم بعقيدة مجمع أفسس المسكوني الثالث.

وقد ترهب هذا الأب القديس في مستهل القرن السادس وهو في سن الخامسة عشرة (أي أنه وُلد عام ٤٨٥م. وصار إيغومانساً (أي مُدبِّراً) على التجمعات الرهبانية في برية شيهيت عام ٥٣٥م أو ما قبلها. 

وقد كان لحكمته وموهبة البصيرة الروحية الباطنية لديه الأثر في ازدهار الرهبنة وكثرة القادمين إلى البرية للترهب ، وشيوع أخبار رهبان وراهبات ذوي سِيَر متميزة ملفتة للنظر مثل ترهب أنسطاسيا كريمة الأصل التي من أنطاكية وتزييها بزي الرجال وإقامتها في مغارة كحبيسة لمدة ۲۸ عاماً، لا تأكل سوى الخبز ولا تشرب سوى الماء، وعاشت حتى نياحتها عام ٥٧٦م( وتُعيد الكنيسة لتذكار نياحتها يوم ٢٦ طوبة). 

كما أقبل إليه كثيرون يطلبون صلاته ومشورته في حياتهم المدنية العلمانية مثل قصته مع أولوجيوس قاطع الأحجار. 

وفي علاقته بأديرة الراهبات التي انتشرت في ذلك العصر داخل الصحاري والبراري، نقرأ عن حادثة تُبيّن مدى دقة رؤيته الروحية الباطنية لراهبة كانت أخواتها الراهبات يستهزئن بها ويُلقبنها “الهبيلة” (وهي لم تكن هبيلة ولا تصنعت الهَبَل[1]) بل كانت قديسة حقاً بسلوكها المسيحي الإنجيلي، لكن أعين الراهبات غير المختونة بنعمة الروح القدس لم ترى حقيقتها الباطنية أنها قديسة. وهذا الدير كان ضمن أديرة القديس باخوميوس في إسنا (وتذكر سيرة القديس باخوميوس شيئاً عن قصة راهبة في دير الراهبات هناك تشبه تماماً هذه القصة). فإذا جمعنا القصتين معاً لعرفنا سمات سيرة هذه الراهبة أنها كانت مثال الوداعة والطاعة والبذل المستميت لأخواتها، بطريقة جعلتهن يستهنَّ بها ويعتبرنها كأنها شبه منبوذة، وهي احتملت هذا التشهير بما ليس فيها، حتى أن رئيسة الدير كادت أن تطردها بسبب وشايات الراهبات ضدها. 

وتذكر القصة الموازية – كما وردت في سيرة القديس باخوميوس – طرفاً طرفاً من الأخلاق غير الرهبانية لهؤلاء الراهبات ما لا داعي لذكره هنا. وقد وصلت هذه الراهبة في نفسيتها المتذلّلة بسبب معاملة أخواتها لها إلى حد أنها لم تجد في نفسها الاستحقاق ولا الأهلية أن تشترك معهن في استقبال الأنبا دانيال حين توجه إلى هذا الدير بناءً على إلهام روحي سماوي ليكشف وينقذ هذه المسكينة. فلما لم يستطع الأب دانيال أن يقنع برؤية كل الراهبات اللواتي استقبلنه، إذ لم يجد ببصيرته الروحية النفاذة ولا في أية واحدة منهن ضالته المنشودة – التى أتى بموجب رؤيا – من أجل أن ينقذها من براثن هؤلاء الراهبات لذلك سأل رئيسة الدير عما إذا كان هناك من لم تحضر لاستقباله فأنكرت لكنها بناءً على إلحاحه ردَّت عليه قائلة: “تقصد الهبيلة”! وما إن ردت بهذه الإجابة غير المنضبطة رهبانياً، أجاب بالإيجاب قائلاً: “إنها ليست هبيلة بل هي أمي وأُمُّكم”. وفي منتصف الليل توجه إلى صومعتها مع تلميذه (الذي سرد لنا بمنتهى الدقة القصة في كتاب: بستان الرهبان)، وتطلّع الأب دانيال خفيةً من الطاقة الخارجية إلى ما يجري داخلها، فانكشف عن عينيه ما لا يُرى، ورأى الدرجة العالية التي لصلاة هذه الراهبة، إذ سمح الله أن يُظهر نوراً شديداً على وجهها ويديها المرتفعتين بالصلاة لتراها الأعين الجسدية له ولتلميذه ولرئيسة الدير والراهبات. 

وحالما اكتشفت الراهبة أن سرَّ حياتها (أي علو ووثوق شركتها مع الله) قد انكشف، هربت في الحال ولم يصبح عليها الصباح في الدير بعد أن خافت من انقلاب مهانة الأخوات لها إلى تمجيد والاتهام الباطل إلى تبرئة وتعظيم (وهو الأمر الذي يكرهه القديسون جداً كُرْهَهُم للموت)، اختفت في غَوْر الصحراء ولم يعرف أحد مصيرها حتى اليوم ويا ليت يكف الذين يسردون سيرة هذه القديسة بأن يُلقبوها بـ “الهبيلة”، ويمتنعوا عن تصويرها في أفلامهم بما لم يرد في سيرتها أنها “هبيلة”، وهو الاسم الذي أطلقه عليها هؤلاء الراهبات غير المتأسسات في الحياة الروحية المسيحية. 

ولعل هذه التجربة الروحية العالية مع راهبات هذا الدير كانت سبباً في توبتهن وتجديد حياتهن ليصرن مرة أخرى خائفات عابدات الرب. وهذا كان أحد أفضال الأب القديس دانيال قمص شيهيت على دير في براري الصعيد! 

وقد أسهم القديس دانيال مع رفقائه الرهبان في برية شيهيت في الشهادة للإيمان الأرثوذكسي بالعذابات التي تحملها في مواجهة مندوب الملك جوستنيان؛ بل شجع الرهبان بصفته إيغومانس البرية على الثبات، فما كان من الوالي والجنود المرافقين إلا أن أشبعوه ضرباً حتى قارب الموت، ولما استرد عافيته قام هو وبعض الرهبان بالهجرة من البرية إلى مكان آمن ثم عاد إلى شيهيت بعد موت الإمبراطور جوستنيان سنة ٥٦٥م، ورجع إلى قلايته حيث أكمل جهاده في بث النشاط في الحياة الرهبانية إلى أن تنيح عن ٨٥ عاماً في اليوم الثامن من بشنس عام ٥٧٠م، وهو يقول: “يا ربي يسوع المسيح حبيب روحي اقبل نفسي بين يديك”. ويُذكر اسم القديس أنبا دانيال في مجمع القديسين في كل قداس وفي الأبصلمودية المقدسة، وكذلك في لحن بينشتي في تذكار أعياد القديسين النساك بعد المجمع في القداس الإلهي. 

صلاته تكون معنا، آمين.

 

  1. سواء في علم الطب الروحاني أو في علم التحليل النفسي يُعتبر الفيصل في تقرير ما إذا كانت النفس التي يُقال عنها إنها تتصنع الجنون أو “الهبل“ هي نفس سويَّة أو غير سوية هو نوع سلوك هذه النفس وحياتها هل هو سلوك روحي أم هو ادعاء وتزييف، ففي حالة هذه القديسة نجد أنها كانت تؤثر الآخرين على نفسها فكانت تخدم الراهبات بكل جوارحها، وكانت محبتها للجميع مُفرطة جداً. وقد ظهر دليل سوية نفسها عندما هربت بعد اكتشاف القديس أنيا دانيال سر حياتها وشركتها الوثيقة مع الله وهي تصلي في قلايتها، أي أنها لم تكن تهدف من وراء محبتها استدرار عطف أو مجد الناس. وتُسمى حالة هذه القديسة في نظر التحليل النفسي Altruism أي إيثار الآخرين على نفسها، وليس الهَبَل بأي حال. وهكذا خسرت هؤلاء الراهبات تلك اللؤلؤة الطاهرة باستهتارهنَّ ومزاحهنَّ الممنوعين في حياة الرهبنة ومن المؤسف أن الذين تداولوا في العصر الحديث قصة هذه الراهبة سواء بالكتابة أو الأفلام قد أساءوا لهذه القديسة بهذا الافتراء الذي لم يرد في سيرة القديسة، فقد أقحم الفيلم مناظر سيئة لم ترد في سيرتها: أنها كانت في المائدة تأكل وحدها فسمعت صوت شخص قادم إلى المائدة فألقت الطعام على الأرض وأخذت تدوس عليه بقدميها ليقول المتفرّج عنها إنها مجنونة! وهذا منظر مدسوس من منتج الفيلم وهو منظر كاذب لم يرد في سيرتها وفيه إساءة لأخلاقها وبإهانة نعمة الله بقدميها وربما قصد المنتج ذلك انحيازاً لأولئك الراهبات غير الملتزمات برهبنتهن بإلصاق هذه الصفة غير المسيحية في هذه القديسة وهي لم تفعل هذا! 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى