الرهبنة القبطية

نشأتها

رغم حدَّة المداولات وعُنف الحوارات وشِدَّة المناقشات حول لاهوت الآب والابن والروح القدس، والتي بلغت حدَّ المطاردة والاضطهاد حتى الموت، إلا أن الله لم يكفَّ عن العمل لإخصاب الكنيسة بواحدةٍ من ثماره العُظمى – ربما الختامية – وهي الرهبنة، حتى تستكمل هيكلها التنظيمي. وكما عمل الروح القدس في مدينة الإسكندرية ليبدأ في مدرستها اللاهوتية “اللاهوت المسيحي المنهجي”، هكذا أيضاً اختار صعيد مصر ليبدأ فيه الرهبنة المسيحية.

الأمر الذي يثير تعجبنا أن الذي صارع وجاهد لأجل لاهوت الابن المساوي للآب في الجوهر، وهو القديس أثناسيوس الرسولي، هو بعينه الذي قدَّم للعالم المسيحي سنة ٣٥٧م سيرة حياة مؤسس الرهبنة وأبي الرهبان “القديس أنطونيوس”، حتى يطبع في الذهن الروحي للكنيسة أن اللاهوت المستقيم هو ثمرة النسك القويم.

تُدلنا الأبحاث على أن الرهبنة التوحدية أو الانفرادية ظهرت في مصر باعتزال الأنبا أنطونيوس في الصحراء الشرقية، ولو أن هناك من يعزي إلى الأنبا بولا السبق في تأسيس ذلك النوع من الرهبنة. وهناك أيضاً من ينادون بأن الرهبنة التوحدية بدأت منذ حكم الإمبراطور أنطونينوس عام ۱۳۸م، حين قام أحد المسيحيين باجتذاب سبعين مسيحياً ليتبعوه إلى صحراء وادي النطرون.

وفي الحقيقة، ليس من شك في أن هُروع الجماعات المُنَظِّم إلى الصحارى المصرية بدأ بعد فترة وجيزة من انتشار المسيحية. وإننا إذا تذكرنا كيف وجدت الديانة المسيحية في تلك العقيدة الجديدة حقلاً خصيباً في البلاد المصرية، نَمَت فيه بذارها واتسع انتشارها. وإذا علمنا كيف وقفت تلك الديانة في وجه عبادة الإمبراطور، تلك الوقفة التي أدت إلى الاضطهادات المعروفة، إذا علمنا كل ذلك، استطعنا أن نفهم لماذا أخذ المسيحيون في الهروب من وجه المضطهدين إلى الصحارى والقفار الآمنة منذ زمن مبكر.

ولكن، بالرغم من هذه النظريات وتلك الحقائق، تدل الدلائل على أن الرهبنة الأولى إنما بدأت تأخذ وضعها الثابت على يدي الأنبا أنطونيوس، أبِي الرهبان.

نظرة مجملة لحركة الروح القدس عبر القرون الثلاثة الأولى

علينا أن نرتفع بالنظر العقلي لاستجماع الصورة العامة للمسيحية، لكي تعطينا الخلفية الصحيحة لهذا التطور الختامي للكنيسة. فالرهبنة ليست طفرة فجائية باغتت العالم، بل هي الخطوة الأخيرة للتدابير الإلهية التي خططها الله لأجل ملكوت السموات في حلوله على الأرض ليملأ المسكونة. هي: “… آخر مرحلة من مراحل الشهادة للإيمان المسيحي الحار الملتهب، الذي استقر في الكنيسة بفعل الروح القدس… هي صورة حية للشهادة للإيمان المسيحي، تمثل – أو تعيد إلى الذهن – بدء الانفعال للإيمان حينما حل الروح القدس يوم الخمسين، حينما ترك كل إنسان كل ماله وأهله وبيته وانضم للرسل – كوصية الرب أصلاً – وتمثل أيضاً، أو تعيد إلى الذهن، الانفعال الإيماني للاستشهاد… هي نموذج للحياة المسيحية الأصيلة حسب الوصية تماماً، ليست نموذجاً أعلى، وإنما نموذجاً صادقاً”.

ألوهية الله، ببساطة وعلى المستوى العملي، تعني بالنسبة للإنسان العادي: ملكوت ومملكة؛ ملكوت يملك عليه الله، ومملكة رعاياها هم بنو البشر. ففي القرن الأول المسيحي استعلن هذا الملكوت في التلاميذ والرسل بالاستجابة السريعة لدعوة المسيح، التي نطق بها القديس بطرس الرسول: «هَأَنَذَا قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ» (مت ۱۹: ۲۷). وكان هذا أول إعلان من إنسان يحيا على الأرض، يُعلن انعتاقه من عبودية اللحم والدم والأسرة والتراب والممتلكات، لكي يصير تابعاً لله.

ربما ظهرت في العهد القديم دعوات فردية وانطلاقات محدودة لشخصيات فريدة نادرة، مثل ملكي صادق وإبراهيم أبي الآباء. لكن العالم والمسكونة بأسرها كانت تحت عبودية الخطية، وبالتالي مستعبدة لرئيس هذا العالم وسلطان الظلمة.

ما قاله القديس بطرس باسم التلاميذ للمسيح، بدأ تحقيقه بصورة إعجازية بعد حلول الروح القدس، ليرسم في القلوب صورة هذا الملكوت، وهذه الاستجابة الواعية في ترك كل شيء والتبعية للرب، والانتباه للمشيئة الإلهية والسير بمقتضاها بملء الفكر والقلب والقدرة والقوة. وهكذا تكونت في كنيسة القرن الأول النواة البدائية لملكوت الله، ووُلدت الكنيسة حاملة صورة هذا الملكوت. ولا ننسى أنه دخل ضمناً في تأسيسها نظام العذارى المتبتلات والأرامل المكرسات.

النور الذي أضاء في الظلمة

مَعلومٌ بحسب تعليم الإنجيل والعهد الجديد أن الخطية تدخل الإنسان من خلال العقل (في المفهوم اليوناني)، ويقابله “القلب” في المفهوم الشرقي اليهودي: «إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين» (٢ كورنثوس ٤:٣). لذلك كانت إنارةُ هذه الظلمة في الإنسان المقبل إلى المسيحية تتم في المعمودية بواسطة الروح القدس: «اللهُ الَّذِي قَالَ: «أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ»، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (٢ كورنثوس ٤:٦). فمنذ عصر الرسل كانت المعمودية تُدعى “استنارة”. وتكونت الكنيسة من أعضاء باعوا الأملاك والمقتنيات: “وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ» (أعمال ٤:٣٢، ٤٥:٢).

وعلى الجانب الآخر، كانت الهرطقات عبارة عن محاولات من قِبَلِ رئيس سلطان الظلمة أن يحتفظ لنفسه بجحور يختبئ فيها ليُوجّه منها ضرباته ضد الكنيسة المستنيرة بالروح. فكان عمل الآباء في القرون التالية هو كشف هذه الجحور وتعريتها للنور، حتى تهرب منها الذئاب والشياطين.

والخطوة الأخيرة هي: الخروج من العالم، بمعنى الخروج من مملكة الظلمة وطرح نير رئيس هذا العالم. فالمعمودية هي: “موت عن العالم والخطية بالدفن مع المسيح؛ والخروج من ماء المعمودية هو القيامة للحياة الأبدية: «أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ» (رومية ٦: ٣-٤). وهذا الموضوع بالنسبة للمؤمنين لم يكن مجازاً ولا رمزاً لشيء، بل حقيقة واقعة يحياها المعمد بصدق.

حتى أن الذين كانوا يتقدمون للاستشهاد في القرنين الثالث والرابع من التاريخ الكنسي، كانوا في الحقيقة يفرحون بتكميل معموديتهم وتحقيقها على مستوى الواقع المحسوس والملموس. لذلك اعتبر آباء الكنيسة أن الجرأة في مواجهة الموت حباً في الله، هي علامة لا تحتاج لبرهان على وجود روح القيامة الكامنة في الساعين إلى الاستشهاد.

روح القيامة هي معجزة المسيحية الأولى: «إِنْ كَانَ الْمَوْتَى لاَ يَقُومُونَ، فَلاَ يَكُونُ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ!» (١ كورنثوس ١٥: ١٦-١٧). «إني بِافْتِخَارِكُمُ الَّذِي لِي فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا، أَمُوتُ كُلَّ يَوْمٍ» (١ كورنثوس ١٥: ٣١). فَالِاسْتِشْهَادُ صَارَ إِنْجِيلًا مَقْرُوءًا فِي صَمِيمِ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ، كَفِعْلٍ إِلَهِيٍّ بَشَرِيٍّ فَوْقَ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ مُتَّحِدٌ بِهَا.

عصر السلام ومرسوم قسطنطين

بحلول عصر السلام واعتناق الدولة الرومانية للمسيحية، صارت الكنيسة موضع ترحاب في الدولة. فبدأت تحس بالراحة والاسترخاء في كنف السلطة الحاكمة. ولم تَعُدِمِ الكنيسة من تقدَّم من رجالها لينضم إلى الحاشية الملكية والبلاط الإمبراطوري؛ فانبهروا بالإكرام المقدم لهم من الحكام والولاة.

وكان رد الفعل التلقائي هو محاولة بعض رجال الكنيسة أن يُضفوا على الدولة والحضارة الرومانية المعاصرة – بعد قبولها الديانة المسيحية – أبهة أورشليم السمائية، ويلبسوها بهاء صهيون الإسخاتولوجي (الأخروي)، بعد فيضان التنعّم والرفاهية. وهكذا هدأت الأعصاب المتوترة والمشدودة نحو الكمال المسيحي.

تحت مظلة هذه الظروف الجديدة، يمكننا إدراك معنى “الهروب من العالم” الذي يقصده القديس يوحنا الإنجيلي: «لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ… لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ… وَالْعَالَمُ كُلُّهُ قَدْ وُضِعَ فِي الشِّرِّيرِ» (١ يوحنا ٢: ١٥-١٦، ١٩).

كانت هذه هي نقطة الانطلاق الصحيحة التي وضعها الروح القدس في قلب ابن كنيسة مصر، القديس أنطونيوس، حيث قدَّم نفسه كل يوم شهيداً إزاء ضميره، محارباً في معارك الإيمان الخفية، إذ كان يمارس النسك بغيرة فائقة.

الوحدة (أي الاعتزال عن العالم)، والنسك (عدم التلذذ بالمآكل والمشارب)، ومطالعة الكتب المقدسة (بمعنى الهذيذ بالصلاة والتسبيح بالمزامير)، هي علامات تضمن للسالك في طريق الرهبنة بلوغ الكمال المسيحي. وكلها أمور ليست غريبة عن طبيعتنا، بل مغروسة في خلقتنا الأولى قبل السقوط، واستعدناها مضاعفة بعد المعمودية:

«… إذا أدت النفس وظيفتها الروحية في حالة طبيعية، نشأت الفضيلة (أي الكمال المسيحي)، لأن تقويم النفس يتضمن جعل العقل (أو القلب بالمفهوم الشرقي) في حالته الطبيعية كما خُلق… فإننا إن لبثنا كما خُلقنا، صرنا في حالة الفضيلة… وكما أننا قبلنا النفس وديعة (أي أمانة)، فلنحفظها للرب لكي يُدرك أن عمله هو باقٍ بعينه كما خلقه».

قد توجد نماذج تتشابه مع الرهبنة المسيحية، سواء في الهند أو التبت (في أواسط آسيا) أو الصين؛ بل وربما بين السكان الأصليين في الأمريكتين (الهنود الحمر). لكن الملفت للنظر أنها كانت غائبة تماماً عن شعوب وحضارات منطقة البحر الأبيض المتوسط. وحاول بعض النقاد والدارسين إيجاد صلة بين الرهبنة والأسينيين من سكان يهود فلسطين، والثيرابيوطا في مستعمراتهم حول بحيرة مريوط جنوب الإسكندرية؛ لكن هذه وتلك كانت حركات محدودة للغاية، منعدمة الانتشار والشعبية التي ميزت الحركة الرهبانية المصرية التي ظهرت في صعيد مصر.

وفي وقت وجيز للغاية، امتدت الرهبنة إلى أقاليم ومدن كاملة. كما يذكر المؤرخ روفينوس أن أسقف مدينة أكسير نخوس (البهنسا) كان يقول إن عشرة آلاف راهب كانوا تحت رعايته. ومن مصر انتشرت الرهبنة بسرعة مذهلة إلى أقطار العالم المتمدن في القرنين الخامس والسادس.

مراحل تطور الرهبنة المسيحية

وقد اكتنفت الرهبنة المسيحية في تطورها ثلاث مراحل رئيسية:

  1. المرحلة الأولى: الرهبنة الأنطونية (التوحد)

    • تنادى بالعزلة الفردية التامة والتقشف والزهد في الحياة الدنيا، وتُنسب إلى الأنبا أنطونيوس.

  2. المرحلة الثانية: حياة الجماعات 

    •  تتمثل في خروج الرهبان من عزلتهم المطلقة، وتقارب أفرادهم من بعضهم. وطبيعي أن يكون الدافع إلى ذلك ما تكشَّف للرهبان من مخاطر جسيمة تعرِّض حياة الفرد من بينهم في عزلته إلى الدمار. فلم يكن بد من تقرُّب كل واحد إلى أخٍ آخر له كي يشد أزره في المرض وفي مواجهة الأخطار في صحارٍ يجوب خلالها الحيوانات الضارية، كما تبعد المسافات الشاسعة بين القليل من ينابيع الماء في أكنافها. وهكذا تجمع الرهبان حول صومعة شيخ من شيوخهم عُرِف بينهم بالتقوى ورجاحة العقل، فجعلوا منه قائداً ورائداً روحياً ومعلماً دينياً لهم. ومع ذلك، ظل الرهبان قابعين في صوامعهم الفردية، بين الأخ وأخيه مسافة تضمن له عزلته في الصلاة والتعبد والتأمل في ذات الله العليا..

  3. المرحلة الثالثة: الرهبنة الباخومية (حياة الشركة)

    • تعد مرحلة الانتقال الطبيعية المؤدية إلى ما عُرِف باسم «الرهبنة الباخومية» أو «حياة الشركة»، والتي وُضع فيها الطابع الديني والاجتماعي في وقت واحد داخل دير يخضع فيه الرهبان لقانون وَضَعَه محكم الحلقات (القديس باخوميوس).

المراجع والمصادر:

  • “تاريخ الكنيسة القبطية” – الراهب يعقوب المقاري
  • “حياة الأنبا أنطونيوس” للقديس أثناسيوس الرسولي.
  • “تاريخ الرهبان” للقديس يوحنا كاسيان .
  • بستان الرهبان.
  • “الرهبنة القبطية: تاريخها وروائعها” – للأنبا إيسيذوروس.
  • “تاريخ الرهبنة في مصر” – د. عزت زكي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى