رهبنة الشركة “الكينونيا“

في الإطار الكنسي العام

مِنْ نِعم الله على الكنيسة، أن سيرة مؤسس ” رهبنة الشركة” أو “الكينونيا ما زالت محفوظة، ولا زال العالم ينهل منها حتى الآن. هذا الحدث العظيم – تأسيس رهبنة الشركة – تم في صعيد مصر، وبطله شاب قبطي من أسرة وثنية، انضم إلى المسيحية في سن العشرين، لا يعرف اليونانية ولا اللاتينية؛ أي أنه عاش بعيداً عن مصادر الثقافة العالمية وعلى هامش الحياة الدينية في الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف.

ورغم ذلك، امتدت الكينونيا بسرعة أدهشت كل من يتابع الأحداث الكبرى للتاريخ الكنسي حتى بلغ عدد أديرة الشركة تسعة أديرة للرهبان واثنان للراهبات، تضم آلافاً من الجنسين. وبعد نياحة مؤسسها، وعند كتابة سيرته، كان عدد الأديرة قد تعدى اثني عشر ديراً للرجال جمعت عدداً ضخماً. وبنوع من التلقائية الفائقة لمنطق الأحداث، تبعتها أديرة متفرقة في فلسطين وسوريا وكبادوكية وبنطس، ثم في إيطاليا وبلاد الغال وأسبانيا !!

نظرة عامة على الرهبنات المعاصرة لرهبنة الشركة:

ظاهرة “الكينونيا” لم تكن فريدة من نوعها في ذلك الزمان فالمعروف تاريخياً أن القديس باسيليوس أسس أديرة تشابهها في آسيا الصغرى والقديس أغسطينوس أيضاً في شمال أفريقيا، والقديس مارتن بالمثل في بلاد الغال فما الذي جعل نظام الكينونيا الذي أسسه القديس باخوميوس يتصدر أحداث القرن الرابع الميلادي وما بعده؟ هل هو ذلك الكم الهائل الذي كانت تضمه أديرة الشركة في مصر؛ بينما لم يتجاوز عدد الرهبان المائة في أي دير من الأديرة الأخرى المشابهة والمعاصرة في بلدان العالم الأخرى؟ أبداً! بل إن مؤسسي هذه الأديرة تركوا لنا تراثاً أدبياً معروفاً بروحانيته وعمقه يمكن للقارئ أن يستمتع بروحانيته السامية مثل كتابات القديس باسيليوس شرقاً، والقديس أغسطينوس غرباً، وذلك بالمقارنة مع بساطة المجموع الأدبي الباخومي الذي خلفه لنا تلاميذ القديس باخوميوس مؤسس رهبنة الشركة.

لكن، الذي يميز تراث رهبنة الشركة الباخومية عن كل المصنفات الأدبية الأخرى، هو التكريم الفائق الذي نلمحه في كل صفحة من صفحاتها تجاه مؤسسها، والذي تحسمه هذه العبارة: “أبونا الصديق أنبا باخوميوس رجل الله”، التي تتردد كثيراً في كتابات تادرس وأورسيزيوس وسيرة حياة القديس باخوميوس لكاتبها القبطي المجهول الاسم. فهي تعكس إحساساً تلقائياً من كل الجماعة تجاه هذا القديس الذي عايشوه، وبنفس الدرجة والقوة لديهم جميعاً.

قداسة أنبا باخوميوس من وجهة نظر تلاميذه:

صورة القداسة التي تعكسها صفحات سيرة القديس باخوميوس ليست مصطنعة، ولا هي طفرة شعبية أشعلها تلميذاه تادرس وأورسيزيوس وسجلها الكاتب المجهول؛ لكنها الأحداث التي أعقبت نياحة مؤسس رهبنة الشركة التذمر الطموح وراء الرئاسات والكرامات، الاستغراق في الهموم الإدارية والمادية التي كانت كلها مجتمعة بمثابة المحل الذي فجر ما كان مضمراً في قلوب تلاميذه وكاتب سيرته. فالإحساس بخطورة التفكك، ورفض الخضوع والطاعة، ورذل القوانين والقواعد، والدعوة إلى الانفصالية؛ كلها عوامل احتكت مع صورة القداسة والتقوى الكامنتين في القلوب، فأثارت الضمائر بخطورة هدم ما تعب فيه وعانى وتألم من أجله مؤسس الكينونيا “أبونا الصديق أنبا باخوميوس رجل الله”.

هذا التكريم الفائق لم تعرفه الرهبنات الأخرى تجاه مؤسسيها، فلم يُذكر في أية رهبنة أخرى أن مؤسسها “رجل الله ملهم من الله …”، أو مثل هذه العبارات التكريمية المماثلة. والسبب في ذلك أن القديس باخوميوس قد تخصص لخدمة هذه الكينونيا. هذه القناعة الداخلية لدى تلاميذه تسامت إلى “إيمان” بأن أنبا باخوم هو رجل الله، فكان هذا الاجتهاد والسعي للحفاظ على القواعد والأنظمة التي وضعها رجل الله لأنها “بإلهام من الله !! وهذا فيه كل الكفاية، ولولا ذلك ما كانت هناك معاناة ولا صعوبات ولا محن عقب نياحة مؤسسها، ولا كانت سيرته قد رأت النور.

القديس باخوميوس كأب وسط أبنائه:

كانت الجماعة التي تتلمذت للمؤسس متيقنة تماماً أنها مدينة له بكل شيء بعد الله. ومن هنا يحق لتلميذه تادرس أن يقول إن ما قدمته حياة “الكينونيا للعالم الرهباني قد استمدته بالكلية من القديس باخوميوس من هذا الوعي العميق نشأ إحساس بالوفاء والإخلاص، فاشتهرت الأديرة الباخومية بالرباط الأبوي البنوي الذي تتمركز حوله كل رغم ضخامة أعدادها الأعمال والمسئوليات. فالأبوة تشع على كل مَن فوَّضهم الرئيس العام في كل دير وعلى كل جماعة وبيت. هذه الأبوة بمفهومها الروحي والإنساني العالي في دفئها وحرارتها، لم تأخذ هذا الدور الأساسي في الرهبنة من قبل على الإطلاق.

ولكي يُعطي القارئ هذه الأبوة تقييمها الصحيح، نقارنها مع نسكيات القديس باسيليوس، أقرب الرهبنات المعاصرة للكينونيا الباخومية. فنسكيات القديس باسيليوس تستند في مبادئها على الكتاب المقدس، لذلك تتواتر فيها الشواهد من الأسفار الإلهية. ومع ذلك لم يرد فيها أبداً أنها ملهمة من الله ، كما قال تلاميذ القديس باخوميوس عن أقواله وتعاليمه وقواعده. وليس لهم ما يعضدهم سوى أن واضعها أو قائلها هو : “رجل الله أنبا باخوميوس الصديق”.

ولكن، لا نفهم من هذا أن هذه التعاليم منافية للكتاب المقدس، أو أن ليس لها سند كتابي؛ بل إن تلاميذه وكاتب سيرته لم يعتنوا في كل مرة أن يلتمسوا أو يفتشوا في الكتاب المقدس عن سند يؤازر هذا المبدأ أو القانون يكفي أن يعرف الجميع أن أنبا باخوم رجل الله هو الذي قال، وهو الذي عمل. فالأمر بالتالي، لا يحتاج لأي برهان يُلزم التمسك به.

“الكينونيا” وكنيسة الرسل:

رأينا “رد الفعل” الذي انطلق من مشاعر تلاميذ القديس باخوميوس في إطلاق اللقب التكريمي على القديس الأب… أبونا أنبا باخوم رجل الله، وذلك بسبب أبوته المقتدرة بين مجتمعات أديرة الشركة التي جعلت من هذه الأديرة عائلة واحدة أكثر منها مجتمعات متفرقة أو أفراداً متبايني الأهوية والطباع.

 فهل هناك “نموذج” أو “نمط” معين، اجتهد القديس في إقامته وسن له القوانين والمبادئ لدوام استمراره وديناميكية عمله في أديرة الشركة؟

بلا ريب، فإن القديس باخوميوس كان يعمل بإلهام من الله، كما تكشف لنا سيرته، لأجل إنشاء شركة شبيهة بما جاء ذكره في سفر أعمال الرسل: وكانوا يواظبون على تعليم الرسل، والشركة (الكينونيا)… وجميع الذين آمنوا كانوا معاً، وكان عندهم كل شيء مشتركاً … وكان الجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة. ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركاً (أع ٤٢:٢ – ٤٤ ، ٣٢:٤). هذه هي الأيديولوجية التي يود كاتب سيرته أن نلمحها من خلال تسجيله فالجماعات الرهبانية الباخومية كانت تؤمن أنها تعيش كنيسة الرسل بعد ثلاثة قرون من الزمان، وعلى يد رجل الله. فتعاليم القديس باخوميوس، إذن، ميراث مقدس وقوانينه وتدقيقاته التي تبدو أمام القارئ الساذج أنها تافهة عديمة الروح، إنما هي موضوعة بطريقة عملية تحقق إنكار الذات والانتماء لكنيسة الرسل. وبالتالي، فهي تبلور المشيئة الإلهية المنقولة بإلهام بواسطة “رجل الله، وهدفها أن تحفظ للجماعات الرهبانية القلب الواحد والفكر الواحد.

التعليم في رهبنة الشركة:

من الآية التي تحمل حياة الكنيسة الأولى في (أع ٤٢:٢)، نرى أن “التعليم” يلازم “الشركة“. وهكذا أراد القديس باخوميوس أن يكون “التعليم” هو الوسيلة التي تنصهر فيها الجماعات اليكون لها الفكر الواحد والقلب الواحد. ولأنهم مثل المؤمنين الجدد في كنيسة أورشليم الأولى، فقد كان القديس باخوميوس يوحدهم بقوة “كلمة الله ، فكان التعليم وظيفة أساسية يمارسها بصفة متواترة، وكذلك تلاميذه من بعده وبرهاناً على ذلك ما رواه تادرس – أقرب تلاميذ القديس باخوميوس إلى قلبه – أن ما اجتذبه من بلدته لا توبوليس – إسنا – إلى طبانيسي، لم تكن أيديولوجية الكينونيا، ولا شهرة وفضائل مؤسسها؛ بل كانت إحدى الشروحات التي اعتاد القديس باخوميوس تقديمها في الاجتماعات المسائية، وكانت بالتحديد عن فصل من رسالة العبرانيين يتحدث عن المسيح الذي صار إنساناً، وكيف أن المؤمنين هم قدس أقداس العهد الجديد. ولأن الموضوع كان جديداً وشيّقاً بالنسبة لتادرس، لذلك ترك بلدته للالتحاق بالدروس التي كان يلقيها هذا المفسر “رجل الله”.

وبعدما عينه القديس باخوميوس على دير طبانيسي، كان تادرس يمشي مساء كل يوم إلى دير فابو ليستمع إلى تعاليم المؤسس، ثم يستعيدها ثانيةً على إخوته رهبان دير طبانيسي. ولم يكن في ذلك يتملق الرئيس العام، ولا استعمل الضغط الأدبي على رهبان ديره؛ بل كان هذا واقع إيمانه وحياته من جراء النعمة التي تفيض من شفتي المعلم. أليس هذا هو ما اجتذبه فعلاً منذ أول يوم سمع فيه كلمات أبينا باخوم رجل الله ! وبعد نياحة معلّمه استمر تادرس على هذا المنوال، يستعيد على إخوته ما وعته ذاكرته من تعاليم القديس باخوميوس.

لأجل ذلك، كان على الرئيس العام للجماعات أن يُلقي كلمة روحية ثلاث مرات أسبوعياً: مرة يوم السبت، ومرتان يوم الأحد. كما كان المسئول عن كل جماعة أو بيت أو مهنة يتكلم مرتين كل أسبوع: الأربعاء والجمعة، وقد كان القديس أورسيزيوس يشغل هذه المهمة بعد نياحة القديس باخوميوس مستعيناً بما استوعبه من المعلم الأول، وكانت له نعمة في هذا المجال بشهادة تادرس التلميذ المقرب لأنبا باخوميوس وبعدما تنحى أورسيزيوس عن الرئاسة وتعين تادرس معاونه لرئاسة الأديرة الباخومية، استمر في هذه المهمة أيضاً.

ولا ننسى أن أديرة الكينونيا لم تكن منعزلة في الصحاري أو البراري كأديرة وادي النطرون؛ بل كانت داخل القرى أو على أطرافها، مما هياً للكثيرين من الوثنيين الانتظام في اجتماعات التعليم هذه، وبواسطتها انضموا للإيمان ونالوا المعمودية ليلة عيد القيامة، حسب طقس الكنيسة القديم.

يمكنك أيضاً قراءة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى