طلعته كلبنان، فتىً كالأرز
«طلعته كلبنان، فتىً كالأرز »
(5: 15)
هذه الآية تشير إلى طلعة المسيح، إلى قامة المسيح العظيمة التي تصل إلى ما فوق السماء.
وفي المقابل يقول المسيح للعروس:
«قامتك هذه شبيهة بالنخلة وثدياكِ بالعناقيد» (نش ۷: ۷)
وسنشرح اليوم الآيتين معاً.
«طلعته کلبنان»
طلعته تعني قامته وقد جاءت هذه الكلمة في الأصل العبري «مريهو» بمعنى مرآه أي رؤياه أي منظره، وبنفس المعنى جاءت ISO في الترجمة السبعينية.
فمنظر المسيح مرتفع كجبل لبنان هذا الجبل عندما تنظره من بعيد ترى أسفله على الأرض وقمته تخترق السحاب، وكأنها تصل إلى عنان السماء. هذا هو جبل لبنان في منظره الشاهق العلو.
هذه هي قامة المسيح التي لا حدود لعلوها، رجلاه على الأرض ورأسه في السماء.
فالمسيح “طلعته كلبنان”، وجسده صار لنا طريقا ومعبرا للسماء.
المسيح من بعد الصعود صار جسده يملأ السماء والأرض، كما نقرأ في الرسالة إلى أفسس: «صعد أيضًا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل» (أف ٤: ١٠).
واضح من هذه الآية – وخصوصا من كلمة «لكي» – أن غاية صعوده فوق جميع السموات كانت أن يتمكن من أن «يملأ الكل»، ليس فقط بلاهوته، لأن لاهوته كان يملأ الكل من قبل الصعود، بل ومن قبل التجسد أيضًا. ولكن الجديد الذي تم بالصعود هو أنه صار يملأ الكل بكيانه المتجسّد أيضًا. فقبل الصعود كان جسده على الأرض يُرى ككيان محدود، فإن وُجد في كفرناحوم لا يرونه في نفس الوقت في أورشليم. وكان لا بد أن «يصعد فوق جميع السموات» حتى يخرج من هذه المحدودية المكانية المنظورة ويمكنه أن «يملأ الكل»، كما هو الآن. فالآن يكون حاضرًا على المذبح في القاهرة مثلاً، ويُقدِّمه الكاهن لكل متناول قائلاً: «جسد حقيقي ليسوع المسيح ابن إلهنا. آمين»، وفي نفس الوقت يكون في أُستراليا ويُقدِّمه أيضا الكاهن هناك قائلاً: «جسد حقيقي …»، وفي نفس الوقت يكون جالسا بجسده الحقيقي في السماء عن يمين الآب وهكذا «صعد فوق جميع السموات لكي يملأ الكل»، لكي يملأ السماء والأرض. وهذا ما تُعبّر عنه آيتنا: «طلعته كلبنان»، بل وأعظم من لبنان بمقدار لانهائي!
يقول أيضًا في الرسالة إلى أفسس عن المسيح «وإياه جعل رأسًا فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده ملء الذي يملأ الكل في الكل» (أف ۱: ۲۳). فما هو الملء الذي يملأ الكل في الكل؟ إنه جسد المسيح، وهو في نفس الوقت «الكنيسة التي هي جسده». هذا هو سر جسد المسيح، وسرُّ الكنيسة، و«سرُّ المسيح» الذي برع القديس بولس في درايته (أف٣: ٤).
وأيضًا في الرسالة إلى أفسس: «إلى أن ننتهي جميعنا إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح» (أف ٤: ١٣). هنا يظهر لأول مرة تعبير «قامة ملء المسيح»، الذي «طلعته كلبنان»، الذي رجلاه على الأرض ورأسه في السماء، وهو نفسه معبرنا من نفسه مَعْبرنا من الأرض إلى السماء، كما قال: «أنا هو الطريق… ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي» (يو ١٤: ٦). وفي نفس هذه الآية يظهر أيضًا لأول مرّة تعبير «الإنسان الكامل»، الذي هو المسيح، الذي من جهة بشريته هو اكتمال الوجود البشري.
فالله منذ أن خلق البشرية في آدم يهدف عبر الدهور أن يُوصلها إلى كمالها في المسيح، فالبشرية مدعوة أن ترتقي إلى المسيح حتى تصل إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح»، الذي هو اكتمال الوجود البشري. هذه هي الغاية النهائية التي من أجلها خلق الله البشرية.
فالإنسان الكامل هو المسيح في بشريته، الذي «طلعته كلبنان»، ونحن «مدعوون أن ننمو إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح» (أف ٤: ١٥).
وربما يتساءل البعض كيف يمكننا أن نفهم أن جسد المسيح صار «يملأ الكل في الكل» (أف ۱: ۲۳)
في الحقيقة إن «سر المسيح»، كجميع الأسرار أيضًا، يظل دائما فائقًا لحدود الفهم البشري – ولهذا السبب دُعيت “أسرارًا” – ولكن هذا لا يعني أننا نجهلها، ولكن لنا أن نتحسّسها بقلوبنا ونستشعرها بالروح.
كيف نحس بقلوبنا أن جسد المسيح يملأ الكل؟
علينا ترديد الآية: «صعد أيضًا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل» داخل قلوبنا كثيرًا لنحس بأعماق المعاني التي فيها.
«أنا هو الطريق»
المسيح هو الطريق الذي يوصل البشرية إلى تحقيق وجودها السماوي الذي خلقت من أجله. المسيح قال عن نفسه: «أنا هو الطريق. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي» (يو ١٤: ٦). وبولس الرسول يُعلّق ويقول: «فإذ لنا، أيها الإخوة، ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع طريقًا كرَّسه لنا حديثا حيًا بالحجاب أي جسده» (عب۱۰: ۱۹-۲۰).
فجسد الرب هو طريقنا الصاعد إلى السماء ونحن عندما نتحد بجسد الرب بالإفخارستيا وبالإيمان، فإننا ندخل بواسطته إلى حضرة الآب. إذن فجسد الرب هو الطريق الذي يوصلنا إلى الآب.
وليس المسيح وحده الذي رجلاه على الأرض ورأسه في السماء؛ بل نحن أيضا مدعوون لأن تكون أرجلنا على الأرض ورأسنا في السماء: «فإن سيرتنا نحن هي في السموات في» (۳ :۲۰)، وهو «أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات» (أف ٢: ٦). لذلك يحق للمسيح أن يُجيب عروس النشيد قائلاً:
«قامتك هذه شبيهة بالنخلة» نش (۷: ۷)
فالكنيسة قامتها شبيهة بالنخلة هى مرتفعة من الأرض إلى السماء، بشبه عريسها الإلهي الذي «طلعته كلبنان».
في الرسالة إلى أفسس نجد الانتقال مباشرًا مما حدث للمسيح إلى ما آل إلينا: من القيامة والجلوس في السماوات التي حدثت للمسيح، إلى القيامة والجلوس السماويات التي آلت إلينا نحن أيضا في المسيح:
«لتعلموا… ما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين
حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح
إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات.
وأقامنا معه (نحن أيضا) وأجلسنا معه في السماويات» (أف ۱: ۱۸ – ۲: ٦)
هذه هي عظمة قدرته الفائقة نحونا أن القيامة والجلوس في السماء التي حدثت للمسيح تتحقق فينا أيضًا وتنتقل منه إلينا.
هذا هو الانتقال من معنى الآية الأولى طلعته كلبنان» إلى معنى الآية الثانية: قامتك شبيهة بالنخلة». فجسد المسيح من بعد قيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب، أصبح له القدرة أن يجذبنا إليه ويُصعدنا معه ويجلسنا معه في السماء.
نحن مدعوون أن نشترك مع المسيح في صعوده وفي مجده الأبدي: «وإله كل نعمة الذي دعانا إلى مجده الأبدي في المسيح يسوع…» (۱بط ٥: ۱۰)
ومن أقوى مواعيد المسيح في سفر الرؤيا:
من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي،
كما غلبتُ أنا أيضًا وجلست مع أبي في عرشه» (رؤ ۳: ۲۱).
هذا الجلوس على العرش يجب أن يؤخذ بالمعنى الروحي، وهو كناية عن الاشتراك مع المسيح في ملكه الأبدي: «إن كنا نصبر فسنملك أيضًا معه» (٢تي ٢: ١٢).
في نبوة دانيال النبي (الأصحاح السابع ينتقل النبي بسهولة من التنبؤ عن ملك المسيا إلى التنبؤ عن مُلك شعب قديسي العلي. ففي البداية يتنبأ البداية يتنبأ عن «ابن الإنسان» الذي رآه مع سحاب السماء، ويقول إنه «أُعطي سلطانًا ومجدًا وملكونًا لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي، ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض» ( دا ۷: ١٤)… ثم بعد ذلك يقول: «أما قدّيسو العلي فيأخذون المملكة ويمتلكون المملكة إلى الأبد وإلى أبد الآبدين… والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء تُعطى لشعب قديسي العلي. ملكوته ملكوت أبدي … » (دا ۷: ۱۸، ۲۷). وهكذا نرى التطابق العجيب بين ملكوت المسيا وملكوت شعب قديسي العلي، أي بين المسيح والكنيسة التي يُمثلها شعب قديسي العلي «الكنيسة التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل (أف ۱: ۲۳) هذه هي حقيقة العهد الجديد التي صرنا نعيشها من بعد صعود الرب.
إنجيل القديس مرقس في نهايته يُبرز هذه الحقيقة أن المسيح بعد صعوده صار يعمل بطريقة سرية مع تلاميذه: «ثم إن الرب بعدما كلّمهم ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله وأمَّا هم فخرجوا وكرزوا في كل مكان والرب يعمل معهم ويُثبت الكلام بالآيات التابعة» (مر ۱٦: ۱۹ – ۲۰). هذا يعني أن المسيح الآن وهو جالس عن يمين الآب ليس منفصلاً عنا ولكنه يعمل معنا دون أن نراه.
هي الحقيقة الأساسية التي نراها في سفر أعمال الرسل: حقيقة عمل الرب وتدخله المباشر في حياة الكنيسة، وكيف كان هو بنفسه يقود الكرازة بكل دقائقها ويظهر لشاول ثم يُوصل حنانيا بشاول، ويُوصل كرنيليوس ببطرس وبطرس بكرنيليوس، ويفتح أبوابًا جديدة للخدمة (۱٦: ۹) أو على العكس يمنع تضييع الجهد فيما لا ينفع (١٦: ٦-٧). ومن يقرأ هذا السفر يرى تدخلات الرب في حياة الكنيسة الأولى أكثر من هذه الأمثلة بكثير، حتى يمكن أن يُسمَّى هذا السفر «أعمال الرب بواسطة الرسل».
والرب نفسه لمَّح أن نتيجة صعوده ستكون بأن يعمل بواسطة المؤمنين به « أعمالاً أعظم» من تلك التي كان يعملها أثناء وجوده معنا على الأرض:
«من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا،
ويعمل أعظم منها، لأني ماض إلى أبي» (يو١٤: ١٢).
وفي هذا إشارة إلى أن قدرات المسيح فينا ستتضاعف بصعوده «وظهوره أمام وجه الله لأجلنا» (عب ٩: ٢٤) . ثم لئلاً نظنَّ أننا نحن من أنفسنا الذين سنعمل «أعمالاً أعظم» يُضيف قائلاً:
«ومهما سألتم باسمي فذلك أفعله…
إن سألتم شيئًا باسمي فإني أفعله» (يو١٤: ١٣-١٤).
إذن فهو الذي سيعمل «الأعمال الأعظم» بواسطتنا.
هذه هي الحقيقة التي نريد أن نعيشها الآن من بعد عيد الصعود: حقيقة الرب الجالس عن يمين الآب، الذي يضيء علينا ويبث فينا قدراته الفائقة. فجلوسه عن يمين الآب على عرش النعمة جعله مصدر إشعاع فائق لا نهائي لكل نعمة ولكل قدرة ولكل قوة فينا، نحن أعضاء جسمه.
لسنا بعد كيانًا منفصلاً عن المسيح، فقد أصبحنا كيانًا واحدًا. معه، هو الرأس ونحن الأعضاء، وقوته الفائقة أصبحت تمرُّ في أعضائه، وأصبحت ظاهرة في العالم بواسطة أعضائه.