مدرسة الإسكندرية
جهود البطالسة في سبيل العلم
بينما كان أباء الكنيسة المصرية منهمكين فى تثبيت المؤمنين على الإيمان القويم كان يعاونهم فى هذا العمل المجيد معلمو المدرسة الاسكندرية وعمداؤها. وكانت الاسكندرية مذاك تفاخر بتاريخ طويل وصلت خلاله إلى درجة من الحضارة منقطعة النظير، وكان صيتها كأعظم مركز للثقافة قد رسخ . وقد أسس مدرستها السابقة للعصر المسيحى بطليموس سوتير سنة ٣٢٣ ق.م . وكان شغوفاً بالعلم معجباً بالعلماء فدعا عدداً كبيراً منهم إلى عاصمته ورجا منهم أن يستوطنوها. على أن اعجابه كان منصبا على الفلسفة اليونانية فحسب.
فلما اعتلى بطليموس فيلادلفوس عرش مصر سنة ۲۸۸ ق. م. لم يقف اعجابه عند الفلاسفة اليونانيين بل امتد إلى العلماء من مختلف الجنسيات. غير أن الغرض الأساسي الذي ظل يهدف إليه كان بسط نفوذ الثقافة اليونانية. فدفعه هذا الغرض إلى استقدام سبعين من معلمى الناموس من العبرانيين ليقيموا فى الاسكندرية ويترجموا العهد القديم من لغتهم إلى اللغة اليونانية. وهكذا كان بطليموس فلادلفوس الأداة التي أوصلت للعالم الترجمة المعروفة باسم السبعينية لكونها وليدة الجهاد الذي قام به سبعون معلم.
ثم أل بعد ذلك إلى بطليموس ايفير جيتس فاتخذ وسيلة عجيبة لاعلاء شأن الاسكندرية من الناحية الثقافية – ذلك أنه فرض ضريبة أدبية على كل من يزور مدينته تتلخص في أن يقدم كتاباً أو أكثر هدية منه لمكتبتها كشرط للسماح له بدخول المدينة.
رسالة المدرسة
وقد تضمنت مدرسة الاسكندرية المكتبة والمتحف ومن الواضح لكل باحث في تاريخ هذه المدرسة أنها كانت مدرستين في مدرسة فكانت ذات صبغة علمية أدبية أولاً ثم غلبت عليها الصبغة الفلسفية اللاهوتية. وقد تم هذا التحويل قبل انبثاق نور المسيحية. لأن الناس في أنحاء العالم كانوا مذاك قد بدأوا يتعطشون إلى المسيا ( الفادى المنتظر ) الذي سينقذهم مما هم فيه من تخبط روحى.
الهدف الاستعمارى من وراء العلم
ولقد أدت غيرة البطالسة وجهودهم المستمرة في سبيل العلم والعلماء إلى أن تجمع فى الاسكندرية عدد كبير من الحكماء والفلاسفة من مختلفى الجنسيات جعلوا من هذه المدينة المصرية منارة ساطعة الضياء. ولقد زعم البطالسة أنهم يستطيعون – بعلمهم هذا – أن يصبغوا الفكر المصرى بصبغة يونانية. وقد اختط لهم الاسكندر الأكبر هذه الخطة مستهدفا صب البلاد التي افتتحها في قالب يونانى. ونظرة عابرة تدفع بالمتأمل في تاريخ تلك الحقبة إلى الظن بأن البطالسة قد نجحوا في الوصول إلى هدفهم. ذلك لأن المصريين ميالون ميلاً شديداً إلى كل أنواع الثقافات والفلسفات ، وفى استطاعتهم أن يستوعبوها ويستمتعوا بها ويأخذوا منها ما يشاءون. ولكنهم – فوق هذا كله – مصريون قبل كل شئ ، جذورهم متأصلة في أعماق التربة المصرية، وهم فخورون بماضيهم المجيد وتاريخهم الحافل، وحبهم لمصر يفوق حبهم للعلم والفلسفة أياً كانت. فكان من الطبيعي – والحالة هذه – أن يحدث صدام بين الحكام اليونان وبين الشعب المصرى. وفى الواقع كان القرن الثاني قبل الميلاد سلسلة من الثورات الوطنية والاستبداد الاستعماري، ولا يعرف عن هذه الاشتباكات العنيفة غير حقيقة مؤلمة هى ما اتصفت به من قسوة وعنف. ومع أن المصريين كانوا يخرجون منها مغلوبين إلا أنهم ظلوا على عنادهم – فهم لم يكونوا يملكون القوة المادية التي بها يقهرون مستعمريهم ولكنهم كانوا يملكون القوة الروحية التى هى حب مصر والتفانى فى سبيلها، ولقد أدرك الحكام أن روح مصر ثائرة عليهم فزعموا أنهم يستطيعون أن يخففوا من حدة هذه الثورة بتقديم المهدئ المسكن فى صورة العلم والفلسفة. وبهذا الدواء استطاعوا أن يهدءوا الخواطر فترة من الزمن زعموا خلالها أنهم نجحوا في الوصول إلى هدفهم. على أن هذا النجاح لم يكن إلا ظاهراً لأن عقل مصر استوعب هذا العلم وهذه الفلسفة ولكن قلبها ظل منصرفاً عنهما – ظل قلباً أميناً وفيا للبلاد التي رقد فيها أجداده والتى يأمل أن يتسلمها أبناؤه. وكمن هذا الوفاء فى اللاشعور المصرى فترة ولم يكن محتاجاً إلا إلى الزعيم المقدام لكي يستثيره من مكمنه، وحالما ظهر هذا الزعيم في القرن الميلادي الخامس في شخص الأنبا شنودة رئيس المتوحدين استجاب له الشعب بأسره وظهر للعالم كله وللحكام المستعمرين حدة الشعور القومى المصرى التي أذهلتهم إذ كانوا قد توهموا أنهم تمكنوا من خنقها بما وضعوا عليها من غطاء علمى فلسفى.
ولم تكن الفلسفة اليونانية بالمؤثر الوحيد الذي تغلغل في مصر – بل كانت هناك مؤثرات أخرى كالتصوف الهندى والفارسى. إلا أن أبعد هذه التعاليم انتشاراً كانت التعاليم العبرية . فقد كان جماعة اليهود المستوطنين فى الاسكندرية أعظم جماعة علماً وجاهاً لم يسبقها في ذلك غير النخبة الممتازة فى أورشليم. ومن أبرز اليهود الاسكندريين الفليسوف فيلون.
المدرسة التي افتتحها مارمرقس
وإلى هذه المدينة التي شاعت فيها الفلسفات اليونانية والتعاليم العبرية والروحيات الشرقية هبطت المسيحية، فوجدت فيها الأرض الخصبة الصالحة لنماء مبادئها لأن الروح المصرية ميالة بفطرتها إلى التصوف وإلى كل ما يتعلق بما وراء المادة ، فوجدت في الدين الجديد ( الذي هو دين المسيح) تحقيقا لما كانت تتطلع إليه في دينها القديم فاعتنقته بحرارة.
وحالما تعلم المصريون الدين المسيحى شعروا بالحاجة إلى نشره في ربوع الوادى وفكروا في انشاء مدرسة يمتد منها نوره إلى أقصى البلاد. وأدركوا أن عليهم مواجهة هؤلاء الرجال المتضلعين في العلوم والفلسفات والروحيات فلا بد من أن يكونوا هم بدورهم متضلعين في العلوم. ولكي يتضلعوا من العلوم يجب أن تكون لهم مدرسة . ولهذا أفتتح لهم القديس مرقس المدرسة اللاهوتية . ولقد قال أوسابيوس: “و اشتهرت كنيسة الاسكندرية من عهد قديم ، بدار تعليم للعلوم القدسية كان يتولى أمرها رجال عرفوا بقوة العارضة وتميزوا بالاجتهاد في الصلاح والحث على التقوى” صحيح أنه قامت في مختلف البلاد المسيحية مدارس تهدف إلى نشر التعليم المسيحى، ولكن مدرسة الاسكندرية كانت فريدة في بابها. فهذه المدارس جميعها اكتفت بالتعاليم الأولية، أما المدرسة الاسكندرية فلم تلبث أن أصبحت مركزاً لحياة فكرية عنيفة. فكان أساتذتها من أعظم العلماء وأبرزهم ممن تبحروا في الفلسفة والعلم والأدب والعلوم الروحية أما المستمعون الذين ملأوا قاعاتها فلم يكونوا بالموعوظين فحسب بل كانوا من رجال العلم والقانون والبلاغة والفلسفة. ومن ثم لم يكن ممكنا تقديم المسيحية لهؤلاء الرجال في صورة أولية بل تحتم تقديمها في صورة علم وحكمة وفلسفة . ومن البديهي أن غالبية المؤمنين كانوا من السذج البسطاء . ولكن العلماء الاسكندريين وضعت عليهم رسالة مثلى لم يؤتمن غيرهم عليها هي حمل الشعلة المسيحية أمام العلماء في العالم كله . وهؤلاء العلماء هم الذين وصلت إلينا حياتهم وتعاليمهم. وحين يستغرق الباحث في قراءة سير هؤلاء العلماء يحس بأنه قد انتقل من هذا العالم المرثى إلى عالم أسمى هو عالم الفكر والروح.
فليس بغريب أن أصبحت مدرسة الاسكندرية المنارة الوهاجة للمسيحية، وهى التى احتفظت بمستوى رفيع من الحكمة والتعمق الروحى. ومما يؤسف له أن هذه المدرسة الفريدة التي أسسها مرقس الرسول نفسه لم تعش سوى قرون ست استبد بها الأباطرة البيزنطيون بعد ذلك فأطفأوا سراجها الساطع. وهكذا كان الاستعمار وما اتسم به من استبداد سبباً في قطع الطريق على ركب الحضارة إذ ذاك كما هو شأنه حتى الآن. على أن شغف المصريين بالعلوم وتقديرهم لها جعلهم يشعلون سراجها من جديد في دير الأنبا مكارى الكبير ببرية شيهيت.
اثيناجوراس
ولقد كان أثيناجوراس فيلسوفاً وثنياً ذائع الصيت ، دخل الأريوس باغوس بأثينا صدفة “ليتكلم أو يسمع شيئًا جديد“، بينما كان الاضطهاد الذي شنه الامبراطور ها دريانوس ضد المسيحيين يحصد المئات منهم. وكان المجتمعون هناك يتحدثون عن “أولئك العنيدين”، الذين لم يثنهم الإضطهاد عن إيمانهم ودفعه الفضول إلى حضور اجتماعات هؤلاء القوم. ودخل بينما هم يحتفلون بعيد القيامة المجيدة، فهذا بهم. ولكن أحدهم استطاع أن يقنعه بقراءة رسائل بولس فطالعها : “ليرى ماذا يقول هذا المهذار” وعندما قرأ الفصل الخامس عشر من الرسالة الأولى إلى الكورنثيين أحس بالاشتمزاز وقامت في ذهنه كل الأدلة المقاومة لفكرة القيامة. ومن ثم قرر أن ينكب على دراسة المسيحية زعما منه أنه يستطيع التغلب عليها لتنحيتها عن الحياة بعد نقضه تعاليمها. فكان لزاماً عليه أن يمعن في دراستها. ولكنه كان – كلما أمعن في استشفاف تعاليمها – يحس بأنها المنهل الوحيد لارواء روحه العطشى. فتحول إليها بكل قلبه ، وأحبها فتسربت إلى أعماق نفسه، ووجد فيها الميناء الأمين بعد أن عصفت به الفلسفات القديمة. وهكذا أصبح من أكبر دعاتها، ومن ثم صار العميد الأول للمدرسة الاسكندرية. ولما كانت المسيحية قد ملأت عليه نفسه فقد أحس برغبة ملحة في أن يوصل إلى قلوب الآخرين ما شعر هو به من راحة وأمان. فكتب رسالة هى دفاع مجيد عنها ( Apologia ) ، وبفعل النعمة التي فاضت عليه وجه رسالته هذه إلى الامبراطورين ماركوس أوريليوس ولوسيوس كومودوس. وقد أجمع أولهما بين العرش والفلسفة. ولما كان أثينا جوراس يستهدف تثبيت دعامة المسيحية أمل أن يكتسب الامبراطورين إليها بهذا الدفاع. ومع أنه لم يظفر باكتسابهما إلا أن كلا الامبراطورين أحس بجاذبية وعطف نحو المسيحيين كما اقتنع بأن العدالة تقتضى معاملتهم على قدم المساواة مع غير المسيحيين.
ولم يكتف أثيناجوراس بدفاعه المجيد عن المسيحية ومعتنقيها بل كتب رسالة ضافية عن قيامة الأموات تناول فيها كل الاعتراضات التي تقوم في أذهان غير المؤمنين ضد هذه العقيدة، وأجاب عليها في ثقة ووضوح بأسلوب قوى رشيق، وبخاصة لأنه اختبر معنى هذه الاعتراضات بنفسه ورسالته هى أولى الرسائل التي كتبها المسيحيون لاثبات عقيدتهم. ومنها نرى أن القيود المكبلة للفكر الانساني قد تكسرت، فانطلق هذا الفكر المتحرر ليتكلم لا في صيغة الدفاع بل “كمن له سلطان”، وليحلق في عوالم جديدة ويقتحم ميادين واسعة لم يسبق إقتحامها . ولقد نجح أثينا جوراس في أن يربط الفلسفة إلى عجلة المسيا ويبين أن الاشارات الخفية التي بدرت من أفواه بعض الكهان القدامى عن انبثاق النور قد تحققت فكانت رسالته أشبه بانبثاق الفجر تدفق بعدها النور في الكتابات الوفيرة التي انتجها المفكرون المسيحيون من بعده.
ومن أبرز الذين تتلمذوا لأثيناجوراس واكليمنضس اللذين تعاقبا بعده على رئاسة المدرسة.
ثم انتقل أثيناجوراس إلى عالم الخلود، فتسلم يسطس رئاسة المدرسة ومن الشائع أن القديس مرقس هو الذي أشار باختياره لهذا المنصب الجليل وكان لهذا الاختيار أثر بعيد في النفوس دفع إلى انتخابه لرئاسة الكهنوت فيما بعد، فأصبح الخليفة السادس لكاروز الديار . فلما اعتلى السدة المرقسية أسند رياسة المدرسة إلى أو مانيوس الذي خلفه فى الرياسة الكهنوتية العليا أيضاً . وتلاه مريانوس في قيادة المدرسة أولاً ثم فى كرامة الكهنوت ثانيا. وأن تعاقب مديرى المدرسة على السدة المرقسية لأبلغ دليل على تقدير القبط للعلم والعلماء وأقوى برهان على ادراكهم لضرورة مواجهة فلاسفة الوثنيين بحجة العلم، وبخاصة لأن الصراع بين المسيحية وبين الفلسفات والعلوم الروحية القديمة كان على أشده في الاسكندرية.
بانتينوس
وفى القرن الثاني للميلاد تولى بانتينوس رئاسة المدرسة – وكانت المسيحية مذاك قد تأصلت في النفوس، ورسخت تعاليمها في القلوب وامتدت إلى مختلف بلاد القطر المصرى. وكان بانتينوس من الرواقيين قبل اعتناقه المسيحية كما كان متضلعاً في الفلسفات المختلفة . ولتعمقه في العلم والحكمة نال تقدير البابا الاسكندرى الذى كان الأنبا ديمتريوس إذ ذاك وبدأ تقدير البابا له بتعيينه أولاً لرئاسة المدرسة ثم انتدابه للذهاب إلى الهند ليبشر أهلها بإنجيل المسيح. واستجاب بانتينوس لهذا التقدير البابوى العظيم فأوصى تلميذه الممتاز اكليمنضس خيراً بالمدرسة ثم سافر لتأدية المهمة التي اختاره لها الأنبا ديمتريوس. وكم كان فرح بانتينوس عظيماً حين وصل إلى الهند ووجد أن أهلها قد آمنوا بالمسيح على يدى توما الرسول وزاد فرحه حين وجد لديهم نسخة من إنجيل متى بخط البشير نفسه. ولقد قضى بانتينوس فى تلك الربوع فترة من الزمن لا يعرف مداها بالضبط ثم عاد إلى بلاده المصرية حاملاً معه انجيل متى. وذهب لقوره فرف إلى الأنبا ديمتريوس الأخبار المفرحة التى رأها وسمعها في بلاد الهند. ثم عاود نشاطه الفكرى الروحى كمدير للمدرسة الاسكندرية . ولقد أثبت بانتينوس برجوعه المباشر إلى مصر أنه لم يكن يستهدف سوى نشر المسيحية ، فلم يحاول أن يفرض سلطة البابا الاسكندرى على الهنود بل لم يحاول أن يجعل منهم اتباعاً للكنيسة المصرية . وحين عاد وأعلم الأنبا ديمتريوس بما كان امتدحه هذا البابا الجليل على حكمة مسلكه. وفى هذا العمل دليل على أن المسئولين عن الكنيسة المصرية لم تغلب عليهم الروح الاستعمارية بل قد أقروا حق الشعوب في أن تختار لنفسها الطريق الذي يلائمها ويتفق وتقاليدها وميولها في عبادتها دون أن يبسطوا سلطانهم عليها أو يضعوا لها الشعائر التي يجب أن تسير بموجبها . وفى هذا المسلك المصرى الحكيم عبرة للغربيين الذين هبطوا بلادنا المصرية وغيرها من بلاد الشرق في القرن التاسع عشر. لأن هؤلاء الغربيين جاءوا بلادنا بحجة أنهم يبغون فتح المدارس والمستوصفات. ولكنهم تذرعوا بهذه المنشآت العامة لكي يجروا الوطنيين بعيداً عن كنيستهم المصرية الأصيلة ويخضعونهم لسلطانهم الخاص . ومثل هذا العمل ليس سوى استعمار فكرى يدعمون به الاستعمار السياسي.
ترجمة الانجيل إلى القبطية
وفى تلك الآونة أدرك المسئولون في الكنيسة أنهم في حاجة إلى نشر الانجيل بلغتهم القومية لأن الدين – لكي يتسرب إلى أعماق النفس – يجب أن يصل إليها باللسان المعروف لديها . ومن الشائع أن بانتينوس واكليمنضس تعاونا على ترجمة الانجيل إلى اللغة الأصلية فكتباه بالقبطية – أى بالصورة التي كانت قد تطورت إليها الهيروغليفية إذ ذاك. والقبطية هي اللغة المصرية التى كان يكتبها القدماء بالصور والرموز مكتوبة بالحروف اليونانية مضافا إليها سبعة حروف غير موجودة في الأصل اليوناني.
والسبب الذي دفع بقادة الفكر من المصريين إلى أن يستعملوا الحروف اليونانية هو أن اللغة اليونانية كانت لغة الثقافة إذ ذاك فكانت معروفة لدى المتعلمين منهم كما كانت شائعة الاستعمال في المدن المصرية الكبرى. وفوق هذا فقد كانت اللغة التي سمعوا بها بشرى الخلاص لأول مرة. واستعمال المصريين للحروف اليونانية – رغم ثورتهم على الحكم اليوناني – إن دل على شيء فإنما يدل على سعة أفقهم الفكرى وعلى إدراكهم تمام الادراك أن ليس للعلم وطن . ولم تكن هذه الميزات الفكرية جديدة على المصريين في حياتهم العامة : فقد حدث أن أخناتون ( الفرعون الذي أعلن إيمانه بالله الواحد) أراد أن يقيم بين الشعوب الخاضعة له صلات من التفاهم ، ورأى أن اللغة البابلية أسهل فى كتابتها من الهيروغليفية ، فأعلن أن اللغة الدولية هي اللغة البابلية . ولم يتمسك – في عنجهية غاشمة – بلغة بلاده المحبوبة. وفى هذا الصدد يقول دكتور جوردون المستشرق الأمريكي: ان مصر وصلت في القرن الرابع عشر قبل الميلاد إلى ما لم تصل إليه هيئة الأمم المتحدة في القرن العشرين بعد الميلاد، وتبدو هذه الحقيقية لمن يعلم أن مصر نجحت في أن تجعل للدول إذ ذاك لغة واحدة هي اللغة البابلية ولم يتمسك في عناد بلغتها الخاصة في حين أن الدول الكبرى فى هيئة الأمم عجزت عن الوصول إلى هذه الوحدة لاصرار كل منها على وجوب استعمال لغتها الخاصة.
وقد رأى المصريون – بعد ترجمة الانجيل – أن يترجموا أسفار العهد القديم إلى لغتهم أيضا. فكانوا أول شعب نهج هذا المنهج القويم لأنهم استطاعوا – بتقديمهم الانجيل ثم باقى الكتاب المقدس مترجماً إلى لغة مصر – استطاعوا أن يكسبوا العدد العديد من مواطنيهم إلى المسيحية لأن هذه النسخة القبطية للانجيل كانت سبباً في تغلغل الدين المسيحي في الحياة المصرية. فاعتنقه الشعب، وأمن به بكل ما في قلبه من حرارة واندفاع إذ وجد فيه تحقيقاً لروح التعاليم الدينية القديمة التي كان يتطلع نحوها. ومن يقرأ النقوش المنحوتة فوق مقبرة بيتوزيريس بالهيروغليفية يجد فيها صدى لبعض الآيات الواردة فى الكتاب المقدس. وانه لمن الأدلة على يقظة الروح المصرية أن أباءنا كانوا أول شعب ترجم الانجيل إلى لغتهم القومية . فكانت هذه الترجمة البادرة الأولى للنزعة الوطنية الحية الكامنة في أعماق النفوس القبطية.
اكليمنضس
ولما انتقل بانتينوس إلى دار الخلود خلفه اكليمنضس في رئاسة المدرسة . وكان اكليمنضس معلما بالفطرة ومما يؤثر عنه أنه كان يعتبر المسيحية أسمى فلسفة : فالفلسفات القديمة اشعاعات، بعضها ضئيل وبعضها قوى، أنارت السبيل أمام الانسانية المتعطشة للوصول إلى الله والمسيحية هي الشمس الساطعة التي مهدت إليها كل هذه الاشعاعات ، وكأن هذه التعاليم القديمة كانت الفجر الذى يسبق طلوع النهار، فهيأت القلوب لتقبل نور المسيحية. وعلى هذه النظرية كان اكليمنضس يخلب الباب سامعيه بأن يردد التعاليم الفلسفية السحيقة في القدم ويتدرج معهم في سرد التطور الروحى حتى يصل بهم إلى المسيحية فــيـصـفـون إليه وقد حلقت أرواحهم معه في الأجواء الروحية العليا.
ولقد جمع اكليمنخس فى شخصه كل الصفات المميزة للمعلم الموهوب من قريحة وقادة وغيرة مشتعلة وروح وثابة، وكان يؤمن بأن التعليم رسالة إلهية . ولهذا السبب فتح مدرسته لكل من شاء دخولها. فجاءه الرجال المتعلمون من طبقة الأشراف، والنساء المدللات المتأنقات، والفتيان الذين أفسدهم المال والجاه والفراغ، والفلاسفة، والقضاة، واللغويون.
كما جاءه الشباب الساعى إلى المعرفة فى جد واهتمام. وكان اكليمنضس إذا ما نظر إلى وجوه هذا الجمع الحاشد المتباين يرى خلف العيون المتطلعة إليه الروح المتعطشة إلى الله: هذه الروح التي نزل المسيح من علياء سمائه ليفتديها ويعيد الصلة بينها وبين خالقها.
وكان أحب لقب يطلقه اكليمنضس على الفادى الحبيب هو لقب «المعلم» وكان يقتفى أثار مخلصه فيعلم الوثنيين ويسير بهم في رفق وهوادة ويقنعهم بفساد معتقداتهم ورذائل عاداتهم. ثم لا يزال بهم حتى يبين لهم سمو الزواج المسيحى وعظم الواجبات الملقاة على عاتق الزوجين. وكان حديثه عذباً ولو أن عذوبته امتزجت بالصراحة القاسية. وبهذا المزيج العجيب من العذوبة والقسوة كان يصور لهم الصورة الرائعة التي هي الزواج المسيحى الحق فيستحوذ على انتباه سامعيه ويجعلهم يدركون معه مدى السمو ويرتفعون عما هم فيه من ضعة وفوضى خلقية، وبهذا التدرج لم ينجح في تحويل الاسكندريين الأثرياء إلى مسيحيين فقط بل استطاع أن يجعل منهم شهداء أيضاً.
الغنوسطية
وكانت القرون الثلاثة الأولى للمسيحية تعج عجيجا بسبب الغنوسطيين. وهؤلاء الغنوسطيون كانوا مسيحيين انحدروا إلى الزعم بأنهم وصلوا إلى تمام المعرفة بمهارتهم الشخصية لا عن طريق الوحي الإلهى. ومثل هذا الزعم الفائض بالعجرفة كان بدعة في نظر الكنيسة التي تعد الله جل اسمه مصدراً لكل حكمة وعلم. فانبرى الآباء لنقض هذه البدعة ومعهم اكليمنضس وأوريجانوس. وكان دفاعهم مبنياً على أن كلمة غنوسطية معناها المعرفة بالأسرار الروحية. فالغنوسطى الحقيقي هو الذي يطلب الله ويسعى إلى استلهامه ويحاول سبر غور التعاليم المعلنة منه في الأسفار الإلهية. وعلى ذلك تكون الغنوسطية الأرثوذكسية مؤسسة على الكتاب المقدس ومستندة إلى التقاليد ومتفقة وتعليم الكنيسة.
ومثل هذه الغنوسطية تفوق الإيمان البسيط لأنها إيمان قائم على البحث والادراك. وهكذا واجه الآباء الاسكندريون الغنوسطية المبتدعة بالغنوسطية الأرثوذكسية وتمكنوا من تثبيت قلوب المؤمنين على الإيمان القويم.
ولم يكتف اكليمنضس بإلقاء المحاضرات بل كتب عدة مؤلفات مستهدفاً تعليم البعيدين عنه. ولقد تغلغلت المبادئ التي أعلنتها هذه المؤلفات في أفكار معاصريه وخلفائه وأثرت فيهم أبعد الأثر. ومما يؤسف له أن معظم هذه المؤلفات قد ضاع فلم يصلنا منها إلا النزر اليسير.
ولقد كان اكليمنضس أول من استعمل السمكة كرمز للمسيحية لأن الكلمة اليونانية للسمكة هي “ايكثوس”، وكل حرف من حروفها هو بداية لاسم المسيح ورسالته كما يتبين من تركيبها وهو: أى – ايسوس (يسوع) ، ك – كريستوس (المسيح) ، ث – ثيئوس (الله) ، و – أوسيوس (الابن) ، س – سوتير (المخلص).
ميزات عصر اكليمنضس
وان اكليمنضس كان شخصية عجيبة في عصر عجيب: عصر استطاع الناس فيه أن يؤمنوا بالآب الشفوق رغم الاضطهادات المنصبة عليهم ، ورغم سخرية الفلاسفة وحقد الوثنيين . كما كان عصراً أوضح فيه الآباء صلة المسيحية بالحكمة القديمة فبينوا أن كل الفلسفات السابقة لم تكن سوى درجات توصل إلى المسيح.
واستمر اكليمنضس يعلم ويكتب إلى أن اندلعت نار الاضطهاد التي أشعلها سبتيموس ساويرس فأوقف كل جهود البنيان سنة ١٩٤م.
وحين اشتد هولها اضطر اكليمنضس إلى مغادرة وطنه والالتجاء إلى آسيا الصغرى تحقيقا لرغبة مريديه وأحبائه . ولكنه لم يلبث أن انتقل إلى دار الخلود بينما كان مواطنوه لا يزالون يقاسون الأهوال من الاضطهادات وكانت المدرسة الاسكندرية إذ ذاك في حكم المغلقة لأن النار والحديد كانت اللغة الوحيدة المتداولة . فبدا للبعض أن سلطان الظلمة سيقهر سلطان النور . ولكن الشهداء الذين واجهوا النار والحديد إنما واجهوها وهم موقنون بأن للحق لا للقوة الغلبة وأن النور لا بد ساحق الظلمة