السجود في الكنيسة

سجود العبادة لا يكون لغير الله. وهو طقس حتمي لكل عباد الله، «لأنه مكتوب أنا حي يقول الرب، إنه لي ستجثو كل ركبة، وكل لسان سيحمد الله» (رو ١١:١٤). وأيضاً : «لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب» (فيلبي ۱۱:۲). وفي صلاة الصلح في القداس الكيرلسي، وهي للقدّيس ساويرس الأنطاكي (٤٦٥ ٥٣٨م): “اللهم يا من تجثو له كل ركبة ما في السموات وما على الأرض وما تحت الأرض“. فهو سجود العبادة، عبادة الخضوع والانسكار وليس المذلة والخنوع

فالسجود الله هو تعبير عن الخضوع الكلي له، وتسليم الحياة كلها بين يديه، وترك المشيئة الذاتية لتحل محلها مشيئة الله في حياتنا. وكثيراً ما يستجيب الله لطلباتنا ونحن في حالة سجود وخشوع بين يديه. بل إن كل ما نطلبه من الله يُعطي لنا فقط في الصلاة ويشرح كتاب “الرتب الكهنوتية“ المنسوب لديونيسيوس الأريو باغي معنى السجود الكامل الله فيقول: 

[كل أصحاب الدرجات الكهنوتية أو المرشحين لها يلتزمون بالتقدم أولا نحو المذبح الإلهي، ثم السجود، لكي يعلنوا خضوعهم وتسليم حياتهم الله. فمنه سينالون تكريسهم]. 

وهناك سجود آخر من الإنسان للإنسان، وهو سجود التكريم والاحترام، ويكون دائماً من الصغير للكبير، سواء من جهة السن أو من جهة المقام والرفعة. كما سجد إبراهيم أب الآباء لملكي صادق، وكما سجد موسى لحميه، ومفيبوشت بن یوناثان بن شاول لداود، ونبوخذ نصر الملك لدانيال النبي … الخ. 

وفي العهد القديم كانت العبادة تتم إما في المجامع المحلية أو في الهيكل الرئيسي في أورشليم. وفي هذه المجامع كان لا يجوز السجود إذ يُكتفى بإحناء الرأس فقط أو الركوع في اتجاه مكان الهيكل. أما في الهيكل نفسه فكانت العبادة تحتم الركوع والسجود إلى الأرض بسبب حضور الرب في قدس الأقداس

وفي السطور القادمة نحصر حديثنا عن السجود Prostration لله في عبادتنا الكنسية ؛ معناه وطقسه وأنواعه، ووقته

في اللغة العربية هناك الفعل “سَجَدَ” والفعل “ركع”، وأحياناً يحدث خلط بين هذين الفعلين في الممارسة الفعلية في الصلوات، حتى أن ممارسة الركوع غالباً ما تتطور تلقائياً إلى سجود كامل إلى الأرض أي الركوع على الركبتين ثم إحناء الرأس لتلامس الجبهة تراب الأرض. وعلى ذلك فيُطلق عموماً كلمة سجود سواء على السجود الكامل إلى الأرض أو على الجثو على الركبتين. وهذا الخلط نجده أيضاً في اللغات الأوربيَّة، فكلمة Kneeling تعني “الركوع الجثو ـ السجود” إلا أن كلمة Genuflection تعني تحديداً “الركوع”، أما كلمة Prostration فتعني “السجود“. بل إن إحناء الرأس يُطلق عليه في الكنيسة اليونانية “السجود الصغير”. وهذا التداخل بين إحناء الرأس والركوع والسجود نجده في كتبنا الطقسية القبطية

فبعض الحواشي في الخولاجي المقدَّس الذي طبع سنة ١٩٠٢م تخلط بين إحناء الرأس والسجود، فقرب نهاية القداس حين يلتفت الكاهن إلى الغرب وهو حامل الصينية وبها جسد المسيح قائلاً: “القدسات للقديسين، مبارك الرب …“. تذكر حاشية في الخولاجي: “فيسجدون جميعهم من كبيرهم إلى صغيرهم، ويقولون: مبارك الآتي باسم الرب، والشماس أيضا يقول: “مبارك الآتي باسم الرب”. والمعني بالسجود هنا هو إحناء الرأس”، كما تمارس كل الكنائس حتى اليوم. 

– وهناك حاشية أخرى تخلط بين الممارستين وذلك عند السجود الأول في القداس الإلهي، بعد نداء الشماس: اسجدوا الله بخوف ورعدة تقول الحاشية: “يسجد جميع الشعب الله ويقولون وهم مطامنون رؤوسهم…”

ونداء الشماس أو رئيس الشمامسة اسجدوا باللغة العربية كما ورد في المخطوط القبطي العربي لتكريس الكنائس، والذي استعان به الأب هورنر Horner في مؤلفه عن “طقس تكريس الكنيسة الجديدة وطقس تكريس المذبح“ لا يحدّد المقصود بالنداء اسجدوا إن كان ركوعاً فقط أو سجوداً كاملا إلى الأرض. لأن المقابل القبطي للترجمة العربيَّة يشير إلى ركوع إلى الأرض وليس سجوداً كاملا، لأن نداء الشماس هو :  “كلينامين جونو”، أي “نحني الركب” ويذكر طقس تكريس الكنيسة أن الأسقف يجثو بركبتيه أمام الرب ويدعو الأرشيدياكون الشعب يجثون بركبهم أيضا

وأيضاً “السجودالذي يشير إليه كتاب اللقان والسجدة لا يعني السجود الكامل إلى الأرض، لأن منطوق نصوص الصلوات في صلاة السجدة – باستثناء مردات الشماس في هذه الصلوات – لا يرد به أي ذكر للسجود الكامل إلى الأرض. وإنما المقصود هو الركوع على الركبتين . فهذه الصلاة في الكنيسة اليونانية تُسمى أي “خدمة الركوع“. أي أن هذا الطقس يتمم والناس في حالة ركوع على الركبتين، وهو طقس مشترك بين جميع الكنائس الشرقية. وفي الكنيسة القبطية يأتي مرد الشمَّاس عند ابن كبر في هذه الصلوات :  “كلينومين جونوأي تحني الركب وهو نفس ما يردّده الكاهن في منطوق الصلوات الطقسية : إقبلنا إليك نحن الجاثين لك … اطلع يارب من علوك المقدس على شعبك المطامن الرأس … انظر إلى شعبك المنحنين لك بركبهم … اقبل طلباتهم لأن ركبهم منحنية لك”

 أنواع السجود 

يتضح مما سبق أن يلزم التفريق الكامل بين ثلاث ممارسات طقسية يمارسها الشعب طبقا لنداءات محددة للشماس النداءان الأولان منها باليونانية أما النداء الثالث فبالقبطية، وهذه الممارسات هي: 

أولاً: إحناء الرأس 

طبقاً لنداء الشماس : “احنوا رؤوسكم للرب”، وهو نداء يهيئ الشعب إما لقبول البركة أو لقبول الحل بغفران الخطايا. ويقول الكاهن في صلاة التحليل ” نسأل ونطلب من صلاحك يا محب البشر عن عبيدك آبائي وإخوتي وضعفي، هؤلاء المنحنين برؤوسهم أمام مجدك المقدس، ارزقنا رحمتك واقطع عنا كل رباطات خطايانا…”

 

ثانياً: الركوع 

طبقا لنداء الشماس ” نحني ركبنا“، أو “نحني الركب” وهو نداء لتهيئة الشعب للتوسل إلى الرب أو الطلبة إليه بتضرع وهو النداء الذي يتكرر في الصوم الأربعيني المقدَّس مرارا كثيرة في الصلوات الليتورجية. 

وعن الركوع يقول القديس جيروم (٣٤٢ – ٤٢٠م): 

[إنه تقليد كنسي أن نحني ركبنا أمام المسيح]

ويقول عنه القديس أمبروسيوس (۳۳۹ – ۳۹۷م)

[نحن نحني ركبنا لأن الركبة المنحنية أكثر من جميع حركات الجسد الأخرى تهيئ للإنسان السماح من الله وزوال نقمته وقبول نعمته]. 

وفي كتاب “الرتب الكهنوتية” لديونيسيوس الأريوباغي:

[بينما يركع الأساقفة والكهنة أثناء الرسامة على كلتا الركبتين، يركع الشماس أثناء الرسامة على ركبة واحدة]

ثالثاً : السجود 

طبقا لنداء الشماس بالقبطيَّة، وذلك عند استدعاء الروح القدس في القداس الإلهي اسجدوا الله بخوف ورعدة“. 

ويقول القديس باسيليوس الكبير (۳۳۰ – ۳۷۹م

[كل مرة نسجد فيها إلى الأرض نشير كيف أحدرتنا الخطية إلى الأرض، وحينما نقوم منتصبين نعترف بنعمة الله ورحمته التي رفعتنا من الأرض وجعلت لنا نصيبا في السماء]

وفي قول مشهور للشيخ الروحاني، وهو القديس يوحنا سابا: 

[محبة دوام السجود أمام الله في الصلاة دلالة على موت النفس عن العالم، وإدراكها سر الحياة الجديدة]

 الخلاصة 

إحناء الرأس يكون لقبول الحل والبركة، وإحناء الركب يكون للتوسل والابتهال إلى الله، والسجود الكامل إلى الأرض دلالة على التسليم المطلق لله والخضوع والتوبة إليه في خوف وانسحاق عظيمين.

ويفرق القديس أغسطينوس (٣٥٤ ٤٣٠م) بين الركوع والسجود الكامل إلى الأرض، حاسباً أن الركوع مع بسط اليدين هو الوضع المناسب للطلبة والتوسل، في حين يمكن أن يتحول الركوع نفسه إلى سجود كامل فيقول

[والذي يصلي ينبغي أن يقدم من أعضاء جسده ما يناسب التوسل، فعليه أن يركع، ثم إما أن يبسط يديه إلى أعلى، أو أن ينطرح على الأرض ]. 

متى يمتنع السجود في الكنيسة؟ 

السجود الله واجب في كل حين، وفي كل مكان، ولكن طقس الكنيسة يعلمنا أن امتناعنا عن السجود الله في أيام معينة بذاتها، أو في وقت محدد بعينه يرمي إلى غاية مهمة تود الكنيسة أن ترسخها في وجداننا بممارسة طقسية معينه . فمن التقليد القديم الذي وصل إلينا نعرف أن عادة السجود أثناء الصلوات في الكنيسة كانت ممنوعة دائماً يوم الأحد، لأنه يوم قيامة الرب من بين الأموات وكانت ممنوعة غالبا يوم السبت أيضا، إلا أن هذا اليوم الأخير – أي السبت – كان عدم السجود فيه مثار نقاش وجدال في بعض المناطق

فيذكر العلامة ترتليان (١٦٠ ۲۲٥م) أن الممارسات المختلفة بين الأماكن ليوم السبت – ومن بينها السجود فيه – كانت تسبب مشكلة كبرى للكنائس. أما يوم الأحد فكان التقليد مستقرا فيه أنه لا يجوز السجود أو الركوع في يوم الرب كيوم فرح وبهجة بقيامة الرب من بين الأموات. وأول تقليد وصل إلينا عن متى ينبغي السجود ومتى لا ينبغي جاءنا على يد القديس إيريناؤس (۱۳۰ ۲۰۰م) . فيقول عند سؤاله عن هذا الأمر أنه منحدر بالتسليم من الرسل: 

[وبما أنه واجب علينا ولائق أن نذكر على الدوام سقوطنا في الخطايا، وكذلك نعمة المسيح التي بواسطتها قمنا من سقطتنا لذلك فإن ركوعنا على ركبنا في اليوم السادس (الجمعة) هو إشارة إلى سقوطنا في الخطايا، أما عدم ركوعنا يوم الرب (الأحد) فهو إشارة إلى القيامة التي حصلنا عليها بنعمة المسيح التي خلصنا بواسطتها من خطايانا ومن الموت]. 

وفي ذلك يقول العلامة ترتليان (١٦٠-٢٢٥م):

[…. أما نحن فكما تسلمنا يجب علينا أن نبتعد في يوم القيامة وحده لا عن تلك العادة فحسب، بل عن كل تصرف أو عمل يمليه الخوف، مؤجلين أيضا أشغالنا لنلا نعطي إبليس مكانا . كذلك أيضا زمن العنصرة الذي نحتفل فيه بالبهجة عينها]. 

ولقد منعت الكنيسة القبطية السجود فيه منذ القديم، فالبابا بطرس الإسكندري الذي استشهد سنة ۳۱۱م يقول في قانونه الخامس عشر: 

إننا نحفظ يوم الرب كيوم فرح لأنه حينذاك قام مخلصنا . وتقليدنا هو أن لا نركع في ذلك اليوم” وهو ما أكده القانون العشرون لمجمع نيقية المسكوني الأول سنة ۳۲٥م. ويكتب يوحنا كاسيان في القرن الخامس في كتابه المعاهد (۱۸:۲) ”إنه عند المصريين من مساء السبت الذي يسبق الأحد إلى المساء التالي لا يركعون أبدا، ولا من عيد القيامة إلى البنتيقسطي . كما أنهم في تلك الأوقات لا يراعون قانوناً للصوم”

وهكذا استقر في تقليد الكنيسة أن الأوقات التي يُمنع السجود فيها إلى الأرض هي يوم الأحد، والخماسين المقدسة والأعياد السيدية، وبعد تناول القربان المقدس.

مراحل فتور التقليد القديم بعدم السجود يوم الرب 

مع توالي السنين بدأ التخلي عن عدم السجود في يوم الرب يفتر رويدا رويدا، فتصلنا إشارة واضحة في غضون القرن الثالث عشر أنه أصبح يُكتفى فيه بإحناء الرأس فقط دون السجود الكامل إلى الأرض. فيذكر ابن سباع في كتابه الجوهرة النفيسة في علوم الكنيسة أن الكاهن حين يبدأ في طلوع الهيكل للصلاة “يسجد أمام هيكل الله تعالى مرة واحدة إن كان غير يوم الأحد، وإن كان يوم أحد أو عيد سيدي فليس يكون سجود إلا خضوع انحناء ثلاث مرات …”

ثم تطور الأمر أكثر فتحول إحناء الرأس إلى ركوع إلى الأرض، وهو ما يشير إليه العالم الطقسي ابن كبر (+۱۳۲٤م) فيقول: يسجدون لله جميعاً في أيام السجود، أو يركعون في الأيام التي لا سجود فيها”. فهنا يتضح أن عادة إحناء الرأس ثم الركوع في أيام الأحاد والأعياد بدلاًمن السجود بدأت في الظهور في ذلك الوقت، أو نحوه

ومن ثم نجد أن دخول طقس السجود في صلوات يوم عيد العنصرة، والتي تسمت بصلوات السجدة ، كانت قد عرفت أيضاً في هذه الفترة، أو بعدها بقليل، لأن كتاب اللقان والسجدة المطبوع سنة ١٩٢١م أشار إلى أن عادة السجود أثناء صلوات السجدة بدأت في زمن الأب مكاريوس البطريرك الأنطاكي. وبالبحث والمقارنة وجدت أن هناك ثلاثة بطاركة للروم الأرثوذكس الأنطاكيين تسموا باسم مكاريوس، وربما كان البطريرك مكاريوس بن الزعيم الذي عاش في القرن السابع عشر هو المقصود بالإشارة التي وردت في كتاب اللقان والسجدة، لأنه في زمن الأول لم يكن طقس السجدة قد تشكل بعد. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى