مجمع خلقيدونية 

هو المجمع المنعقد سنة ٤٥١م والمسمي بالمجمع المسكوني الرابع، هو من المجامع التي لا تعترف بها كنيستنا القبطية الأرثوذكسية والكنائس الرسولية الأخرى مثل السريانية، والأرمنية، والأثيوبية. وقد رفضت هذه الكنائس قبول قرارات هذا المجمع بسبب ابتداعه تعليم غريب، يتناقض مع إيمان كنيستنا التي تعلّم بطبيعة واحدة لله الكلمة المتجسد”.

لقد أكد القديس كيرلس الأسكندرى على الطبيعة الواحدة للمسيح، وأنه واحد بالطبيعة والجوهر والفعل والمشيئة كما علم الآباء. يقول: [نحن لا نقول إن يسوع المسيح كان مجرد إنسان، ولا نعتقد بالله الكلمة بدون طبيعته الإنسانية، بل نقول إنه واحد من اثنين أي الإله المتجسد]. 

لقد أقر المجمع بصيغة ” الطبيعتين للمسيح بعد الاتحاد”، بل إنهم ذهبوا إلى اتهام الكنائس التي تؤمن ” بالطبيعة الواحدة للمسيح بعد الاتحاد” بأنها تتبني تعليم أوطاخي الذي علم بأن الطبيعة الجسدية للمسيح قد ابتلعت من الطبيعة الإلهية. بالرغم من أن تعاليم الكنيسة الخريستولوجية تؤكد على كمال الطبيعتين في المسيح (الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية). يقول القديس كيرلس: [ إن كان المسيح يُقال عنه إنه إله كامل، وإن كان يُعرف هو نفسه بأنه إنسان كامل، وإن كان من نفس الجوهر مع الآب حسب اللاهوت، إلا أنه بحسب الطبيعة البشرية هو من نفس الجوهر معنا، فأين يكون الكمال إن كانت طبيعة الإنسان لم تعد قائمة؟ وأين هي الوحدة في الجوهر معنا إن كان الجوهر، الذي هو طبيعتنا ، لم يعد قائما ؟ ]. 

ويشير القديس كيرلس الأسكندري إلى أن الطبيعة الإنسانية للمسيح ليست أقنوماً بذاته ، كما أنها ليست بلا أقنوم، لكنها توجد في أقنوم. بل إن استخدامه لعبارة “المتجسد” في قوله ” طبيعة واحدة لله الكلمة المتجسد” يعني بها كمال الطبيعة الإنسانية في أقنوم الكلمة”. 

إذن فالطبيعة الإنسانية في المسيح كما يُعلم القديس كيرلس الأسكندري ليست أقنوماً بذاته، لكنها توجد في أقنوم “الكلمة”، فالطبيعتان في المسيح (الإلهية الإنسانية) تتحدان جوهريًا وحقيقيًا، وليس بحسب الطاقة أو الإرادة، كما ينادي نسطور. ولهذا فإن الاتحاد بين الطبيعتين في المسيح هو اتحاد حقيقي. هذا الاتحاد يقود إلى عدة نتائج: 

١ – تبادل الخواص  فالمسيح بذاته هو الذي يفعل الأمور الإلهية والأمور الإنسانية، أي أن المسيح لا يعمل بشكل منفصل، مرة يفعل الأمور الإنسانية كإنسان، ومرة أخرى يفعل الإلهيات كإله، هو يفعل الأمور الإنسانية كإنسان وإله، وفي الأمور الإلهية كإله وإنسان. وهذا يعنى أن كل طبيعة الخواص تتبادل في هذا الاتحاد مع الطبيعة الأخرى (Η περιχώρηση των δυο φύσεων).

۲ – طبيعة المسيح، طبيعة بلا خطية، ليس بالمعنى الأخلاقي، أى أن الخلو من الخطية جاء كتقدم في طريق الفضيلة؛ بل كما يؤكد التعليم اللاهوتي الآبائي، أنه بلا فساد بحسب طبيعته الإنسانية، هكذا فإن عدم الخطية هو أمر كياني وطبيعي، فهو بطبيعته لا يخطئ، وتجدر الإشارة هنا بأن كلمات عدم الفساد، وعدم الخطية، والقداسة، هي كلمات تحمل نفس المعنى. 

٣ – إن السجود والعبادة هو للمسيح الواحد، فلا يوجد سجود بشكل منفصل للإنسان يسوع المولود بالجسد ، وسجود آخر للكلمة ابن الله الآب. هذا الفصل من شأنه أن يقود إلى الهرطقة النسطوريةفالسجود والعبادة للمسيح هو سجود للإله المتأنس. 

٤ – العذراء هي أم المسيح وأم الله بسبب هذا الاتحاد للطبيعتين. فالكلمة نفسه هو الذي يمسح الإنسانية بالروح وفي نفس الوقت ممسوح (أنظر مز ٧:٤٥). وهكذا فإن العذراء هي والدة الإله لأنها ولدت الكلمة المتجسد. فهي ليست حاملة إنسان أو نبي أخذ موهبة إلهية بحسب الطاقة أو بحسب النعمة. 

ناتي إلى السبب الذي دعى إلى إنعقاد هذا المجمع فهو وإن كان له جانب عقيدي، إلا أن هناك أسباب أخرى تتصل بالأمور السياسية قد فرضت نفسها على مجريات المجمع، وهذا أمر تكرر حدوثه في بعض المجامع. فقد دعت المصالح السياسية إلى التدخل في الأمور الكنسية من أجل السيطرة على الوضع الكنسي بغية ضمان دعم الكنيسة للنظام السياسي في ذلك الحين. وتاريخ المجامع يكشف عن الحضور السياسي الملحوظ في أروقة هذه المجامع. فبينما كان المجمع يُعقد لمناقشة أمور عقيدية، نجد أن هناك قوانين تصدر ليس لها أي علاقة بموضوع انعقاد المجمع، على سبيل المثال: كان سبيل المثال : كان مجمع القسطنطينية سنة ۳۸۱ منعقد لمناقشة هرطقة مقدونيوس التي كانت تُنادي برفض ألوهية الروح القدس، ومع ذلك فإن القانون السادس من هذا المجمع يقرر [ أن لأسقف القسطنطينية نفس الكرامة التي لأسقف روما لأن القسطنطينية هي روما الجديدة]، هكذا أيضًا القانون رقم ۲۸ لمجمع خلقيدونية يُقرر [بأن المدينة التي تحظى بمقر الإمبراطور والبرلمان تتمتع بنفس الحقوق التي لمدينة روما وتماثلها في الكرامة من جهة الأمور الكنسية أيضًا]، والقانون رقم ۱۷ من نفس المجمع يقول: [لو أن مدينة من المدن نودي بها أو سينادي بها كمقر للسلطة الملكية فإن النظام الكنسي بها سيتبع النظام السياسي]. بل أن الإمبراطور قسطنديوس أعلن أمام أساقفة مجمع ميلان سنة ٣٥٥ عندما عارضوه في قانونية محاكمة القديس أثناسيوس أن [إرادته هي القانون]. ليس هذا فقط بل أن قسطنطين الكبير الذي أعلن المسيحية كأحدي الديانات الرسمية في الإمبراطورية بمرسوم أصدره في ١٣ يونيو سنة ۳۱۳م، وأقر بموجبه عودة أماكن العبادة للمسيحيين دون أي التزامات تفرض عليهم، والذي دعا إلى عقد مجمع نيقية لمحاكمة آريوس، هو نفسه قد غير موقفه تجاه آريوس وحاول إجبار الكنيسة أن تقبله في شركتها مرة أخري. الأمر الذي أدى إلى الصدام مع القديس أثناسيوس بسبب رفضه لهذا المطلب.

 

وكما رأينا من خلال محتوى القوانين التي سبق الإشارة إليها، أن الحرص على الربط بين الوضع الكنسي والوضع السياسي كان شديدا، ضمانًا لاستمرار دعم الكنيسة، بعد أن أصبح للكنيسة مكانة كبيرة في نفوس المؤمنين، ولذلك إتجه السياسيون إلى هذا الربط غير المبرر بسبب إدراكهم لهذه الحقيقة. ولما كانت كنيسة الأسكندرية منذ المجمع المسكوني الأول وحتى المجمع المسكوني الثالث، قد تصدرت القيادة وكانت تقرر الإيمان المستقيم وتدين الهراطقة وأصبح لها وضعًا متميزا في هذا المجال، فإن هذا الوضع قد أثار قلق القيادة السياسية في العاصمة (القسطنطينية) وأثار حسد وغيرة أساقفتها أيضًا. وكان لموقف القديس كيرلس في مجمع أفسس سنة ٤٣١ وانتصاره على نسطور أسقف العاصمة، رغم دعم الإمبراطور لنسطور، ردود فعل غير مريحة لدي الإمبراطور نفسه. ومنذ ذلك الحين كانت هناك محاولات لتقليص دور كنيسة الأسكندرية، وبدأت المحاولات من لاون بابا روما لعقد مجمع من أجل إدانة البابا ديوسقوروس. إذ رأى أن بطريرك الأسكندرية هو صاحب الدور الأهم في تقرير الحقائق الإيمانية، وهو الذي يتصدر المجامع ويحارب الهرطقات ويقاوم الهراطقة. ولما كان البابا ديوسقوروس قد رفض صيغة الـ () أي الخطاب الذي كتبه لاون بسبب عدم موافقته لإيمان الكنيسة وإجماع الآباء، فقد رأى لاون ضرورة عقد مجمع للرد على البابا ديوسقوروس ومحاكمته. 

ولذلك انتهز الفرصة عند وفاة الإمبراطور ثيودسيوس الصغير الذي كان قد رفض من قبل محاولات لاون لعقد هذا المجمع، وسعى لعقد مجمع بهدف إضعاف سلطة بابا الأسكندرية بدعوى مناقشة أمور عقيدية تتطلب انعقاد هذا المجمع، وإن كان الدافع الحقيقي كما يشير المؤرخ الكنسي فلاديمير جيتي هو الحسد إذ يقول : [ إن لاون أسقف روما كان مدفوعاً في نضاله الديني برذيلة الحسد التي كان يحجبها بالغيرة الكاذبة على الدين ” . وكان لاون قد رفض قرارات مجمع أفسس الثاني سنة ٤٤٩ واضطر البابا ديوسقوروس إلى عقد مجمع بالأسكندرية انتهى إلى حرم لاون. 

وعندما انتقل الإمبراطور ثيودوسيوس إلى السماء سنة ٤٥٠ ، جرت اتصالات مكثفة ومحاولات عديدة، كان هدفها الأساسي إضعاف مكانة كنيسة الأسكندرية ومكانة رئيس أساقفتها. وكان الإمبراطور ثيودوسيوس الصغير يؤمن بعقيدة الطبيعة الواحدة للإله المتجسد، ولذلك كان سندًا للبابا ديوسقوروس الذي كان يجاهد لتثبيت هذه العقيدة في نفوس المؤمنين. هكذا وجد لاون في نياحة الإمبراطور فرصة سانحة لتحقيق أهدافه وتحجيم سلطة بابا الأسكندرية. 

فلما تولى مركيان ( زوج أخت الإمبراطور ثيودوسيوس الصغير) مقاليد الحكم وأصبح إمبراطور الشرق، عاود لاون مساعيه لعقد المجمع خاصة وأن الإمبراطورة بولخيريا زوجة مركيان كانت لديها رغبة ملحة في إضعاف سلطة البابا ديوسقوروس، بسبب موقفه الحازم والثابت تجاهها. فقد دعي مرة إلى القصر الإمبراطوري بدعوى من مركيان وبإيعاز من بعض الأساقفة المحرومين الذين كانوا ينادون بطبيعتين للمسيح بعد الاتحاد فلما حضر هناك حاول الإمبراطور التأثير عليه ليقبل بهذا التعليم فرفض وقال للإمبراطور [إن القيصر لا يلزمه البحث في هذه الأمور الدقيقة، بل ينبغي أن ينشغل بأمور مملكته وتدبيرها.. وخير له ألا يميل مع الهوى ولا يتبع غير الحق ]. فأجابته بوليكارية قائلة : [ كان في زمان والدتي أفذوكسية إنسان قوي الرأي (تقصد القديس يوحنا ذهبي الفم)، وأنت تعلم أنه لم يري خيرًا من جراء موقفه. وأري أن حالك سيكون مثله]. فأجاب البابا ديوسقوروس وقال : [ وأنتِ أيضًا تعرفين ما جرى لأمك نتيجة اضطهادها لهذا القديس، وكيف ابتلاها الله بمرض شديد ، لم تجد له دواءً ولا علاجًا، حتى مضت إلى قبره وبكت عليه وطلبت الغفران الله فشفيت…] فغضبت جدا من هذا الرد ، ولطمته بشدة فاقتلعت ضرسين من فمه بسبب شيخوخته وانهال عليه الحرس ورجال القصر بالضرب المبرح ونتفوا شعر لحيته ثم جمع البابا ديوسقوروس هذا وأرسله إلى شعبه في الأسكندرية مع رسالة قال فيها : [هذه ثمرة جهادي لأجل الإيمان]. 

وكانت سياسة بوليخريا تجاه الكنيسة يحكمها أمرأن أساسيان

١- الأمر الأول هو تأيدها لكنيسة روما في صراعها ضد كنيسة الأسكندرية، بغية الوصول إلى الرئاسة الكاملة للكنيسة. 

٢. الأمر الثاني أنها كانت ترغب أيضًا في مساواة الكرسي البطريركي للقسطنطنية بالكرسي البطريركي لروما، بعد أن أصبحت القسطنطنية هي المقر الإمبراطوري الجديد. 

وعقد مركيان مجمعا بالقسطنطينية دعا إليه كثيرًا من الأساقفة المحرومين وأرسل للبابا ديوسقوروس ليحضر فحضر. وحاول البعض هناك استمالته ليوافق على رسالة لاون التي تُقر بالطبيعتين في المسيح بعد الاتحاد إلا أنه شرع يشرح لهم خطأ هذه العقيدة وأورد لهم ما قاله القديس كيرلس الأسكندرى : [ إن اتحاد اللاهوت بالناسوت هو كاتحاد النار بالحديد، فإذا ضُرب الحديد بالمطرقة فإن الحديد هو الذي يتأثر، لكن النار لا يلحقها شئ]. وبعدما انتهى من شرحه اقتنع أغلب الأساقفة برأيه. أما مركيان فقد بحث مع زوجته ومع بعض الأساقفة المحرومين أمر البابا ديوسقوروس. واستقر الرأي على عقد مجمع بعيدا عن العاصمة القسطنطينية يكون موضوعه البحث في أمر الأساقفة المحرومين ورسالة لاون. فعُقد مجمع خلقيدونية خلقيدونية ٣٠٣ سنة ٤٥١ وحضر البابا ديوسقوروس الجلسة الأولى وأثبت فيها إقراره بالإيمان المستقيم. وفي الجلسة الثانية لم يتمكن من الحضور لأنهم كانوا قد وضعوا حراسة على مكان إقامته ليمنعوه من الحضور فتمكنوا بهذا من تمرير قرارتهم وإدانته في عدم حضوره بدعوى أنه رفض الحضور أمام المجمع، خاصة وأنه من الناحية الشكلية قد أرسلوا له ثلاث مرات ولم يحضر ، ووفقًا للقوانين الكنسية يكون مخالفًا لأوامر المجمع برفضه المشاركة في أعمال هذا المجمع. وهذا ما حدث فقد أصدروا حكما يقضى بعزله من كرسيه البطريركي وتجريدة من رتبته الأسقفية بعد أن نسبوا إليه أمورًا زائفة ومنها أنه قبل أوطاخي مرة أخرى في الشركة بعد عزله قانونيًا وقبل تبرئته بواسطة مجمع أفسس الثاني سنة ٤٤٩م وإنه لم يأذن بأن تُقرأ رسالة لاون إلى فلافيان سنة ٤٤٩م ، وأنه حرم لاون أسقف روما. وأنه بينما نال الأساقفة الآخرون – الذين إشتركوا في مجمع أفسس سنة ٤٤٩ – العفو من قبل الكرسي المقدس ( في روما)، واستمروا في شركته. بقى ديسقوروس على عصيانه. وكما يتضح من كل هذه الملابسات أن النية كانت متجهة لإدانة البابا ديوسقوروس، الأمر الذي إنتهي إليه هذا المجمع بالفعل. 

غير أنه من الثابت أن القديس ديوسقوروس لم يُحاكم لأسباب عقائدية، لأنهم لم يجدوا في تعليمه ما يستوجب إدانته بالهرطقة بل كان الحكم لأسباب قانونية، وأيضًا بسبب رفضه لقرارات هذا المجمع بل أن اللاهوتيين الكاثوليك لم يشيروا في كتاباتهم إلى أن الحكم على القديس ديوسقوروس كان لأسباب عقائدية، وإن كان لهم مبراراتهم في إدانته، وذلك بسبب الخلاف الذي أشرنا إليه بين القديس ديوسقوروس ولاون أسقف روما. ومع ذلك لم يذكر أحد أن الحكم عليه من قبل مجمع خلقيدونية كان لأسباب تتعلق بالعقيدة. ويضاف إلى ذلك أن الأب البروفيسور يوحنا رومانيدس قد أشار في دراسة خاصة له عن هذا الموضوع إلى أن ديوسقوروس لم يُحاكم في مجمع خلقيدونية كهرطوقي، بل بسبب عدم حضوره ورفضه لقرارات هذا المجمع 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى