الظهورات الإلهية في تاريخ شعب إسرائيل وتاريخ الكنيسة 

مصطلح الظهور الإلهى(H θeoφaυia) كان له ملمحا دنيويًا في العصور القديمة، فزيارة الإمبراطور إلى المناطق المختلفة للامبراطورية كانت تسمى (θeoφaυia) وفي بعض الحالات كانت تسمى (paroυσίa) أى حضور أو مجىء. 

هذا المصطلح كان يمثل أهمية خاصة في التعاليم اللاهوتية في الكنيسة الأولى والتى رفضت أن تُطلق لفظة (H θeoφaυia) على زيارة الإمبراطور. فقد كانت عبادة الإمبراطور سائدة في ذلك الوقت وكان هناك فكر سائد بأن الله يتجسد في شخص الإمبراطور، الأمر الذي رفضه الفكر اللاهوتى في ذلك الحين أيضا. وصارت ألقاب الإمبراطور تُعطى للمسيح وألقاب الإمبراطورية تُعطى للكنيسة. هذا العصر كان يتسم بالصراع بين الدولة والكنيسة، لكن عندما هدأت حدة هذا الصراع فيما بعد ، بدأ هذا المصطلح ( H θeoφaυia ) يفقد معناه الدنيوى وبدأ يأخذ بُعداً آخر بسبب ظهور الهرطقة الآريوسية وانحصر معناه في المجال اللاهوتى فقط. 

الظهورات الإلهية 

هى استعلان الله في الكون وفي أحداث التاريخ. هذا الإستعلان يؤكد على الاختلاف الجذرى بين الخالق والمخلوق، والتأكيد على هذا الاختلاف يقدم لنا هذه الحقيقة الثابته، وهي أن الكون كله يستمد وجوده من الله الخالق. 

هذه الظهورات الإلهية تُنشئ باستمرار علاقة بين الله الخالق مانح الحياة، وبين الإنسان المخلوق على صورته ومثاله، وذلك بطريقة معلنة ومتنامية، ولهذا فإن الإعلان يُفهم بشكل صحيح فقط من خلال الظهورات الإلهية المستمرة في الكون وفي أحداث التاريخ. وهكذا فإن التاريخ سواء في أحداثه المتفرقة أو في مجمله، هو تاريخ التدبير الإلهى. فالله غير المدرك بحسب الطبيعة، يُستعلن من خلال أفعاله في الكون، ومن خلال تلك الظهورات الإلهية وعليه فإن الإعلان لا يمكن أن يُفهم من خلال خطوط ثابتة ومحددة. إذ هو يتسم بالحيوية والحركة، فهذه الظهورات تمثل جسورًا تربط بين الله والكون. ومن أجل هذا فإن الإعلان الإلهى هو منحة للوجود وللتاريخ بكل ما يدور فيه من أحداث. 

ويستطيع المرء في ضوء ما سبق أن يفهم الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد كوحدة واحدة، ليس فقط كتجميع لنصوص مقدسة ولكن كتجسيد حى لتقليد تاريخى طويل، والذي ندعوه عادةً بالتقليد المقدَّس، هذا التقليد هو تاريخ التدبير الإلهى نفسه، والذي يتمثل في (الخلق – الفردوس – السقوط – النتائج المترتبة على السقوط . اختيار شعب الله – تنقلات الشعب . الخروج – الحروب ـ الأنبياء – الكهنة الملوك) كل شئ يأتى في ترتيب دقيق لمسيرة تاريخية حية، حيث يُستعلن الله الحى والمشارك في كل هذه الأحداث التاريخية. فنرى في استضافة ابراهيم للرجال الثلاثة استعلانًا لأقانيم الثالوث. وبعدما كلّم الله الآباء بالأنبياء، يُستعلن هو نفسه بظهوره في الجسد، في اتجاه جديد وحدث مصيرى وهام لكل البشر[1]. وتاريخ التدبير الإلهى عند يوسابيوس القيصرى يبدأ من أعمال ملاك المشورة العظمى “لأنه يولد لنا ولد وتعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفيه ويُدعى اسمه ملاك المشورة العظمى” (إش ٩ : ٥). هذا الملاك هو “الكلمة” ذاته قبل التجسد الذي يقود إسرائيل ويكتب هذا التاريخ. هذا “الكلمة رآه ابراهيم عند استضافة الرجال الثلاثة عند بلوطات ممرا وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار”. إن الظهورات الإلهية ليست إلا ظهورات للثالوث القدوس من خلال الكلمة قبل التجسد، فقد كان الثالوث القدوس حاضرًا في شكل سحاب وقت خروج الشعب من أرض مصر هذا هو ملاك المشورة العظمى. وهو أيضا يتكلم مع مختاريه من خلال علاقات متنوعة، فيُستعلن للبعض في صورة سحاب، وللبعض في أحلام، وللبعض الآخر في رؤى، بينما يتكلم مع موسى فما لفم ” فما  لفم أتكلم معه لا بألغاز

ومع كل هذا فإن رؤية موسى للمجد الإلهى كانت بحدود معينة، ولم تُرفع فيها مطلقا، الفروق الجذريّة بين الخالق والمخلوق. هذا التنوع وهذه الطرق الكثيرة للظهورات الإلهية والتحدث فما لفم، هذا كله يكشف لنا عن سيادة الله غير المحدودة على الكون وعن عمله في أحداث التاريخ، ويُشير في الوقت نفسه إلى المواهب المتنوعة التي يهبها الله لمختاريه لكى يكونوا مستحقين للتواصل معه. 

العهد القديم بحسب التفسير الآبائى يؤكد على أن الظهور الإلهى قد تم بطريقة فريدة في الكون وفي أحداث التاريخ، وأن كل ظهور إلهى في تاريخ إسرائيل، ليس إلا طريق متفرد لتواصل الله مع الإنسان، وذلك في كل مرَّة ينسى فيها الإنسان خالقه كما يقول الكتاب: “غرْتُ غيرة للرب إله الجنود لأن بنى إسرائيل قد تركوا عهدك ونقضوا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف وبقيت أنا وحدى” وهكذا صار الله غير المدرك وغير المعلن ظاهرًا بمجده وبطريقة واضحة. 

إذن فعملية الخلق، واختيار شعب إسرائيل، وإعطاء الناموس، وعمل الأنبياء، كل هذا يجب أن يُفهم أيضًا داخل هذا الإطار التاريخي، وفي كل مرحلة من مراحل هذه الظهورات الإلهية في الكون وفي احداث التاريخ، نجد أن الثالوث نفسه هو الذي يُعلن عن حضوره. لقد أكد الآباء في تعاليمهم اللاهوتية على وحدة العهدين القديم والجديد، والتاريخ الكنسي على إمتداده يؤكد على هذه الوحدة. فالمؤرخون الكنسيون لديهم وعى كامل بهذه الإعلانات الإلهية، فقد سجلوا كل مسيرة الإعلان الإلهي على نحو متصل، حيث إن الابن المتجسد هو أيضاً مركز التاريخ. فالحدث الرئيسي في هذا التاريخ هو ظهوره  في الجسد العهد القديم وفقا لهذه التعاليم الأرثوذكسية، يحمل في طياته أمرين أساسيين وهما : 

١ – وحدانية الله. 

٢ – وأن الإعلان عن الله الآب من خلال الظهورات الإلهية في العهد القديم، وعن سر الثالوث ، قد تم بالإبن. 

وهكذا يُمكننا هنا أن نتحدث عن عقيدة الثالوث كخبرة داخل إطار التقليد الكتابى ، وليس كأمر يتعلق بأى نظرية فلسفية عن الله وعندما يقتصر الحديث عن الله الواحد على نصوص العهد القديم، يكون هدف الظهورات الإلهية هو الإعلان عن قوة الثالوث وإرادته، تلك الإرادة الحيّة والمحيّية التي كانت تؤيد وتساند ليس فقط كل مَن أُعطى موهبة، بل وكل الشعب أيضًا، من خلال الهبات المعطاه لكل واحد. وهكذا نستطيع رؤية الله الواحد الذي لا يُقترب منه، وطبيعة الإعلان المباشر للإرادة الإلهية وقوتها المحيية التي كانت تؤيدهم. 

إن استمرار وتواصل هذه المسيرة التاريخية، بحسب التفسير اللاهوتي، قد بلغ غايته في تأنس كلمة الله. وهكذا داخل إطار المرحلة التاريخية الخاصة بشعب إسرائيل، تظهر مفاعيل الحضور التدبيرى للثالوث في الأحداث التاريخية لهذا الشعب. فكلمة الآب يبني وحدة هذا الشعب بروح الله، كما أنه يبني وحدة الكنيسة في مرحلة تاريخية تالية بتأنسه وبعمل الروح القدس في الكنيسة. 

ولهذا فقد رأت الجماعات المسيحية الأولى في ظهورات العهد القديم، ظهورًا للكلمة نفسه، إذ إنه الكلمة الذي عرفوه واختبروه متجسدًا في حياتهم وخبرتهم الخاصة من خلال التسليم الرسولى والشركة في العبادة. 

داخل هذا المشهد التاريخى الممتد من العهد القديم وحتى تجسد “الكلمة”، تأسست كنيسة العهد الجديد، لقد كان هناك فهما واحدًا ومشتركا من قبل آباء الكنيسة ومعلميها لهذه المسيرة التاريخية. حيث أن عددًا كبيرًا من اللاهوتيين في عصور مختلفة تبنّوا هذا الخط المشترك الذي يُشكل القاعدة الواحدة، ليس في تعاليمهم الله ذاته ( ثيولوجيا) بل في تعاليمهم عن عمله التدبيرى ( إيكونوميا) في أحداث التاريخ والكون من هؤلاء نذكر: القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد – ثاؤفيلوس الأنطاكي – القديس ايريناؤس – القديس هيبولتيوس – القديس كليمنضس الأسكندرى – العلامة أوريجينوس – القديس أثناسيوس الرسولي – يوسابيوس القيصرى – القديس باسيليوس الكبير – القديس غريغوريوس اللاهوتى – والقديس غريغوريوس النيسي. 

 

وهنا يجب التأكيد بشكل خاص على أن هذه الرؤية المشتركة وهذا الخط الواحد، لا يهدفان فقط إلى تفسير عقيدة الثالوث كحجر أساس للتعليم عن “المسيح” ( خريستولوجيا) والتعليم عن الكنيسة ( إكليسيولوجيا)، بل يهدفان أيضا إلى التأكيد على أن هذه الظهورات الإلهية لها واقع تاريخى حقيقى وملموس. وهذا يعنى أن هذا التاريخ هو تاريخ حي لأنه يؤرخ للتدبير الإلهي. 

إن حالة تنامى الكون وتطوّر التاريخ من خلال الأعمال الإلهية الظاهرة فيهما ، يُظهر لنا بشكل واضح أن هناك خطة للتدبير الإلهى. فلا توجد مرحلة سابقة فيها يُستعلن الله بشكل غير كامل ومرحلة أخرى لاحقة يُستعلن فيها بشكل كامل. بل أن الله نفسه حاضر منذ البداية في الكون وفي أحداث التاريخ. 

وهكذا فكل مرحلة سابقة تتوافق مع المرحلة اللاحقة عليها بشكل تام وكامل. فالعهد القديم كتاريخ لشعب الله يعطى مثالاً للعهد الجديد كتاريخ لشعب الله الجديد الذي يتمتع بكل هبات الثالوث القدوس في حياته. ويُصبح الظهور الإلهى في إطار الحديث عن الكنيسة وتاريخها المجيد، كنيسة الكلمة المتجسد هو الذي يُحدد معنى الحياة الحقيقية، بل وهو الذي يمثل محتوى تلك المعرفة الإلهية وهدف التاريخ كله، فنحن بصدد عملية تجلّى للكون وللحياة، وسط عالم خاضع للشر والشرير.  

إن علاقة الله بالعالم من خلال هذا الإعلان الإلهى تعتمد على اللقاء المباشر والشخصى بين الله والبشر الذي فيه تتجلى الحياة وتكتمل. فالإعلان الإلهى لا يفرض نظاما جامدًا أو طريقة حياة شكلية أو مجرَّد سلوكيات أخلاقية، لكنه يتطلب عمل حي وفي تنامي مستمر، وهكذا تفهم حقيقة الإعلان الإلهي. بل أيضا يمكن فهم المعنى الحقيقى للمصطلحات الفلسفية التي صاغ بها الآباء عقيدة الثالوث القدوس وعبّروا بها عن هذه الحقيقة كما هو واضح في نصوص وقرارات المجامع المسكونية. إذن فالله الواحد الذي عبّر عنه العهد القديم بحسب التعاليم الأرثوذكسية – هو إله واحد مثلث الأقانيم. وقد اتضح هذا بطريقة جلية في الظهورات الإلهية، تلك الظهورات التي أسست لحياة جديدة كليةً. وبالتالي في إطار هذه العلاقة المباشرة بين الله المعطي الحياة والكون المستقبل لهذه العطية، يمكن أن نفهم سر تأنس كلمة الله. 

لذلك فإن الظهورات الإلهية سواء في العهد القديم أو في العهد الجديد هى استمرار لمسيرة تاريخية ممتدة وخط تاريخي واحد له نفس الأساس الثالوثى. وكل مرحلة تاريخية لهذه الظهورات تتصل بالأخرى اتصالاً وثيقاً، والله ذاته هو الذي يؤسس هذه العلاقة في كل مرحلة من هذه المراحل التاريخية أي أن محور كل مرحلة من هذه المراحل هو “الكلمة” الذي إستعلن في العهد القديم وتجسد في العهد الجديد. وكل من أعطى موهبة خاصة استطاع رؤية المجد الإلهى، سواء كان ذلك في العهد القديم أو في العهد الجديد[2]. فالتاريخ إذن له جذور بعيدة حيث تبدأ بعمل الكلمة في العهد القديم، وحتي مرحلة التجسد الإلهى في ملء الزمان. 

وهكذا فإن النور الإلهى والحق الإلهي ينتشران في كل مراحل التاريخ، و”الله الكلمة” هو الذي يسود على الكون والتاريخ بأكمله. إن هذه السيادة تفرض اعتماد الطبيعة والتاريخ على الله الثالوث الذي يعطى كيانا لكل الكائنات. وهكذا فإن جسور التواصل مع العالمين اليونانى واليهودى، لم تتحقق من خلال إعلاء الفكر اليوناني لمكانة العقل، ولا بقيم الناموس التربوية حسب الفكر اليهودي، بل أن هذا التواصل قد حدث منذ البداية من خلال ظهورات الكلمة في العهد القديم، ثم من خلال تجسد الكلمة في ملء الزمان وتأسيس الكنيسة التي هى جسد المسيح. إذن فالكلمة هو مركز الأحداث الرئيسية لكل المراحل التاريخية 

  1. Βλ. Ευσεβίου, εἰς τόν Βίου Του μακαρίου κωνσταντίνου Τού Βασιλέυς, 3, 53 P.G. 20, 1116B
  2. بحسب إنجيل معلمنا القديس يوحنا، فإن إشعياء النبي قد رأى هذا المجد الإلهى إذ يقول: ” قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم قال إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه ” (يو ٤٠:١٢-٤١). 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى