القديس مقاريوس الكبير أب برية شيهيت
نشأة القديس مقاريوس:
يؤكد المؤرخ “رينيه باسيه” أن بلدة القديس مقاريوس الكبير هي “منف”، اعتماداً على اللقب الذي اشتهر به منذ البدء: “المصري”. وكان أبوه قديساً، يُدعى إبراهيم، كاهناً على كنيسة “منف”. وكانت أمه امرأة قديسة تُدعى سارة. وكانا عاقرين، وقد حدثت في زمانهما حوادث شغب ونهب وسلب اضطرتهما للهجرة إلى بلدة “ششوير ” أو “شبشير بالمنوفية. والمعروف أن مقاره ولد سنة ۳۰۰م، أي بعد نزوح الأسرة إلى “شبشير” بسنتين أو ثلاثة.
وتشير المخطوطة ۱۸ س بمكتبة دير أنبا مقار، أنَّ الطفل مقاره كان يتربى وينمو في مخافة الله على يد أبويه الصالحين. ولَمَّا شب عن الطوق، بدأ يذهب مع أبيه إلى المزارع. وقليلاً قليلاً بدأ يُساعد أباه في فلاحة الأرض، وكان أنَّ الله وسع رزقهما جداً من مواشي وأملاك. وبدت النعمة على الشاب مقاره، فكانوا يلقبونه بـ “الشاب الحكيم. ومن فرط حب كهنة القريه له أخذوه إلى أسقف الناحية بدون علم أبيه ورسموه “أناغنوستيس”.
زواج القديس مع بقائه بتولاً:
وكان أبواه يدبران له حسب نيتهم لكي يُزوّجوه ويرسموه كاهناً. وهكذا أيضاً بدأ الضغط من الكهنة، بالإضافة إلى أبويه، حتى رضخ لهم بدون نية منه. ولكنه حفظ بتوليته باتفاق مع الفتاة التي اختاروها له.
ولكي يكمل الكهنة نيتهم فيه أخذوه ورسموه شماساً (كخطوة لازمة قبل رسامته قساً). ولكي يبتعد مقاره عن الفتاة أطول مدة ممكنة، كان يذهب مع الجمالين الأجراء عند أبيه لجلب النطرون من جبل النطرون وهكذا أتقن خدمة الإبل والجمال، لذلك كان يُدعى “مقاره الجمال”.
ظهور الشاروبيم له على صورة إنسان مهيب منير:
في إحدى الأسفار ، وهو نازل مع الجمالين إلى وادي النطرون، وقد صار بالقرب من الجبل المطل على البحيرات (أسفل الجبل الذي فوق البحيرة)، وكان الكل نياماً من التعب ومقاره أيضاً نائم؛ إذ به يرى في نومه إنساناً نورانياً متشحاً باسطوانة كالبرق الساطع، وهذه الاسطوانة مُكللة بالجواهر (عيون الشاروبيم), وكلمه قائلاً : “انظر حولك وتأمل أعماق الجبل. فأجابه مقاره “إني، يا سيدي، لا أرى شيئاً سوى رأس البهلس (بحيرات النطرون)، والغابة (أعشاب البردي والنخيل المتكاثف بالقرب من الماء)، وعن يمينه البقعة (المستنقعات) والجبل المحيط. فقال له الرجل النوراني : ” إن الله يقول لك إني أُعطيك هذا الجبل ميراثاً لك ولأولادك، يتفرغون فيه للصلاة، ويخرج منك رؤوس ومُقدِّمون من هذه البرية. والآن انهض من نومك وتذكر جيداً جميع ما قلته لك، وإذا صرت كاملاً أعود فأظهر لك، وأكلمك بما يجب من فم الله”.
وكان هذا هو أول ظهور الشاروبيم للقديس مقاره الذي صار رفيقاً ومرشداً له طول أيام حياته حتى يوم نياحته.
وعندما رجع مقاره إلى بلده، وجد أن فتاته البتول مريضة بالحمى، التي اشتدت عليها حتى فارقت الحياة. فما كان من الشاب مقاره إلا أن تنبه لنفسه قائلاً: “يا مقاره، احرص الآن على اغتنام هذه الفرصة لنفسك لمداواتها، لأنك حتماً ستؤخذ مثل أختك التي سبقتك”.
وظل مقاره في البيت يخدم أباه الشيخ إلى أن أسلم روحه الطاهرة. وبموت أبيه، أبتدأ يُفرّق مقتنياته كلها التي ورثها عن أبيه. ولما بدأت أمه تُعنّفه على مسلكه، كان يحتملها بصبر، إلى أن تنيحت هي الأخرى بعد ستة أشهر من نياحة زوجها.
اعتزال القديس
انطلق مقاره بعيداً عن القرية وسكن وحده، كما فعل القديس أنطونيوس من قبل، وذلك حسب وصية راهب متوحّد كان يسكن في ظاهر القرية. هذا هو الاعتزال الأول الذي دام عشر سنوات، والذي قرب نهايته احتال عليه أهل القرية وما زالوا يتوسلون إليه حتى رسموه قساً. ويقول المؤرخ سوزومين: إنَّ القديس مقاره رُسِم قساً وهو في سن الأربعين سنة ٣٤٠م.
تجربة قاسية تعرض لها:
يقول القديس سيرابيون تلميذ القديس أنطونيوس، أن تجربة قاسية امتحن بها الرب القديس مقاره، ليزكي بها سيرته الطاهرة ويدفعه إلى داخل البرية، أتت عليه بعد رسامته قساً أثناء وجوده بالقرب من القرية. وهذه القصة كانت شائعة جداً بين الرهبان أثناء حياة القديس.
فقد حدث أن بتولاً في ذلك المكان سقطت في الخطيئة وحملت في بطنها. ولما أُشهرت، سُئِلَت عمن فعل معها هذا الفعل، فقالت: ” المتوحد”! ولما عَلِمَ أهل القرية، أخذوا القديس باستهزاء مريع إلى الضيعة، وشهروا به في كل شوارعها، وهم يصرخون: “إن هذا الراهب أفسد عفة ابنتنا البتول وفضحها، اخزوه. وضربوه ضرباً موجعاً، قَرُب بسببه إلى الموت. وكانوا يصرخون قائلين إنهم لن يسكتوا عن ذلك حتى يأتيهم بضامن يتكفل بالقيام بإطعام الفتاة وتربية ولدها، حتى ضمنه خادمه الذي كان يأخذ منه شغل يديه ويبيعه ليسد احتياجاته.
وكان القديس مقاره يكد ويتعب ليلاً ونهاراً مخاطباً نفسه : “كد، يا مقاره، ها قد صارت لك امرأة”. فلما حان وقت ولادة الفتاة مكثت أياماً كثيرة وهي مُعذِّبة وما استطاعت أن تلد، حتى اعترفت قائلة: “إن كل ما أصابني كان بسبب أني ظلمتُ المتوحّد، وهو بريء، لأنه ما فعل بي شيئاً قط. لكن فلان الشاب هو الذي فعل بي هذا. فجاء خادم القديس يخبره باعتراف الفتاة، وأن أهل القرية كلهم عازمون على الحضور إليه، وهم يريدون أن يتوبوا إليه ويسألوه الصفح والغفران. فلما سمع القديس هذا الكلام من خادمه أسرع هارباً إلى الإسقيط. وهذا هو السبب الذي لأجله جاء إلى جبل النطرون.
انطلاق القديس إلى جبل النطرون:
بقيادة الشاروبيم، سار مقاره وحيداً متجهاً إلى جبل النطرون يومين كاملين. ووصل إلى الموضع الذي يُدعى “بهلس”، وحفر في ذلك الجبل وعمل له مغارة وسكنها أياماً قليلة، ثم خرج يطوف البرية. وجاء إلى يمين ذلك الموضع وحفر سرداباً وسكن فيه. وبسبب القوم الذين كانوا يطرقون باب مغارته انتقل جنوباً نحو الصخرة صخرة شيهيت الأولى، وحفر مغارتين بينهما سرداب. وتجمع حوله التلاميذ الذين صاروا باكورة شيهيت المقدسة، وأول دير في الإسقيط.
زيارته للقديس العظيم أنبا أنطونيوس
بعد وصول القديس مقاره إلى برية شيهيت بثلاث سنوات قام بزيارته الأولى للقديس أنبا أنطويوس سنة ٣٤٣م، وفيها أصبح مقاره تلميذاً للأب الكبير أنبا أنطونيوس؛ إذ تسلم منه وصايا ورسوم خدمته وكل ما يليق بزي الرهبنة المقدس”.
وقد قام القديس مقاريوس بزيارة أخرى للأنبا أنطونيوس بعد زمان طويل من زيارته الأولى، وذلك بسبب ازدياد حروب العدو عليه، ولأخذ نصائح للرعاية وقيادة النفوس التي تكاثرت حوله، وللاستشارة بخصوص بناء كنيسة مستقلة عن نتريا تكون في وسط شيهيت. وقد سلم القديس أنطونيوس الأنبا مقاريوس في زيارته الثانية، عصاته العتيقة، تعبيراً عن تسلمه أمانة التدبير الرهباني من بعده.
القديس مقاريوس أب برية شيهيت :
لقد نزح بعض الآباء من نتريا والقلالي، وأقاموا في شيهيت بمجرد أن اشتهر اسم القديس مقاريوس، ومنهم: الأب أموي وهو الأب الروحي للأنبا يوحنا القصير وأنبا بيشوي؛ والأب إيسيذوروس وهو أصلاً من متوحدي نتريا وكاهن القلالي؛ والأب شيشوي الذي نزح بعد ذلك إلى جبل العربة وسكن في قلاية أنبا أنطونيوس بعد نياحته والقديس مقاريوس الإسكندري؛ وغيرهم من الآباء القديسين. كما كان القديس مقاريوس أباً روحياً للقدّيسين الروميين مكسيموس ودوماديوس.
زيارة القديس مقاريوس للقديس باخوميوس أب الشركة:
زار القديس أنبا مقار الأب باخوميوس وفيما هما يتفاوضان في أقوال الله، شاور الأب باخوميوس القديس مقاريوس قائلاً : “أيها الأب عندي ههنا إخوة سيرتهم على غير نظام، فتأديبهم جيد هو أم لا !”.
فأجابه الأب مقاريوس: “أدب واحْكُم حُكماً عادلاً في الذين تحت يدك، فأما على غير هؤلاء فلا؛ لأنه كُتِبَ : احكموا على الذين من داخل وأما الذين هم من خارج فالرب يحكم عليهم”.
نياحة القديس العظيم أنبا مقاريوس:
وكان كل الرهبان يحبونه ويخافونه كما يخافون الله، لأنه كان بينهم كقائد الجيش الذي يُقوّي ويُعزّي جنوده. وفي أحد الأيام أدخله تلميذه إلى مغارته، فاضطجع. وفي نحو الساعة السابعة ظهر شخصان قديسان مضيئان، وكل منهما يبتسم إلى الآخر. وتكلم أحدهما معه قائلاً: “أما تعرف هذا الآخر؟”. أما القديس أنبا مقار فسكت كعادته، فقال له هذا القديس: “إنه الأب باخوم أب رهبان دوناسة، وقد أرسلنا الرب إليك لندعوك، فاهتم الآن بما تريده، فإنك بعد تسعة أيام ستخلع عنك هذا الجسد، وتأتي لتسكن معنا، ثم غابا عنه.
وفي اليوم السابع والعشرين من شهر برمهات ظهر له الشاروبيم الذي كان معه منذ الابتداء، ومعه جمع كثير من الروحانيين، وقال له : أسرع وتعال، فإنَّ هؤلاء كلهم ينتظرونك. فصاح أنبا مقار بصوت خافت قائلاً : “يا سيدي يسوع المسيح حبيب نفسي اقبل روحي إليك”، ثم أسلم روحه الطاهرة”.
ورد في سيرة أنبا مقاريوس بقلم أنبا سيرابيون مخطوطة رقم ۱۸ س بمكتبة دير أنبا مقار، أن القديس تقدم في الأيام وشاخ جداً، حتى بلغ سنه تسعين سنة، وكان أولاده يحملونه ويجلسونه في حوش قلايته، وما كفَّ عن صراع الشياطين، وما كفت الشياطين عن الصراع معه، حتى في هذه السن. وإلى وفاته كان متحفّظاً جداً من المجد الباطل، كما أُمِرَ من الشاروبيم. ونقص أيضاً ضوء بصره من كثرة السهر والتعب وطول السنين حتى بدأ يرقد على الأرض من كثرة ضعفه.
يمكنك أيضاً قراءة
- الرهبنة القبطية
- رهبنة الشركة “الكينونيا“
- بين التوحد الأنطوني والكينونيا الباخومية
- القديس أنطونيوس
- القديس باخوميوس
- القديس آمون مؤسس رهبنة نتريا