البابا ياكوبوس (يعقوب)

 البطريرك الـ ٥٠ 
(۸۲۱-۸۱۰م) 

بدخول الكنيسة القبطية في القرن التاسع الميلادي، يكون قد مضى قرنان من الزمان على الوضع الجديد الذي أحاط بمصر وبالكنيسة وهو وضع الغزو العربي مع ما صاحبه من تداعيات وظروف جديدة مختلفة عن عصر الأباطرة البيزنطيين. 

وفي هذا القرن التاسع سنشهد من خلال تسجيلات المؤرخين عن مصر والكنيسة القبطية، تغيراً واضحاً ليس إلى أفضل بل إلى أسوأ، ذلك بسبب هام هو التخريب الخطير الذي حدث في الرهبنة القبطية في برية شيهيت الذي بدأ في نهاية حبرية البابا الراحل مرقس الثاني، والذي دفعه إلى أن يسأل الرب أن يُعرّفه نهايته؛ إذ أصابه حزن شديد جداً لما يعرفه أن سر تماسك الكنيسة وازدهار رسالتها يكمن في ذلك الذخر الذي تمثّله الرهبنة والرهبان بصلواتهم وتسابيحهم داخل برية شيهيت التي سماها البابا مرقس ”قدس القديسين. لأن مذبح صلوات الرهبان وتسابيحهم يمثل قُدس أقداس الكنيسة بسبب قوة شفاعتهم عن الكنيسة والوطن والعالم، نسبةً إلى ذبائح نفوسهم وأجسادهم التي يُقدِّمونها بلا فتور ليلاً ونهاراً أمام قدس أقداس العليّ في السماء. وهكذا ظلت الرهبنة هي مقياس ازدهار رسالة الكنيسة على مدى الأجيال، ارتفاعاً أو هبوطاً.

وقصة هذا الخراب تبدأ بسكنى فريق من العرب يُسمَّون ”المدالجة” بجوار دير أنبا مقار كانوا قد فرضوا جزية على الدير يتقاضونها كل سنة مقابل حماية الدير من أذى العرب الآخرين، وكذلك حراستهم للطريق المؤدي إليه وقد استخدموا ذلك في التطاول على الدير. 

وقد زاد على هذا الحصار غارة البربر بهجوم شديد على أديرة وادي النطرون في حبرية البابا مرقس الثاني سنة ۸۰۷م فهدموا مبانيها ونهبوا محتوياتها وأحرقوا كنائسها ومنشوبياتها (جمع كلمة منشوبية بالقبطية، وتعني مسكن لراهب أو راهبين يسكنان معاً) بالنار. وكان من أثر هذه الغارة المدمّرة استشهاد بعض الرهبان وهروب البعض الآخر إلى الصعيدين (الأعلى والأدنى). ولم يتبق في البرية إلا القليل من الرهبان ممن استطاع أن يتحصن وينجو. 

الراهب يعقوب تستدعيه العذراء من الصعيد:

فقد كان من بين رهبان دير أنبا مقار الذين نجوا من المذابح راهب تقي نشيط اسمه  يعقوب، اشتهر بجهاداته الصالحة. هذا كان قد انحدر إلى الصعيد الأعلى وعاش هناك فترة في دير مهجور إلى أن دَعَتْه العذراء في رؤيا للعودة إلى ديره وتعميره، وأخبرته أنه سيكون أباً لشعبٍ كثير. فقام للحال وأتى إلى ديره (دير القديس أنبا مقار) وهناك ظهر له القديس أنبا مقار نفسه وعزاه وفرح قلبه وأنبأه أن عمارة الدير ستكون على يديه وأن رهباناً كثيرين سيعودون، وكثيرون سيأتون ويتتلمذون له وفعلاً صار ياكوبوس أباً لرهبان دير أنبا مقار ، فبدأ بعمارة الدير، وكان يعمل بيديه كعادته طول حياته. 

البابا مرقس الثاني يُشير إلى أن الراهب يعقوب هو الذي سيخلفه:

ذلك أن الأب مرقس حينما صلَّى إلى الرب أن ينقله إليه وكان حاضراً عنده آباء أساقفة، سأله أحد الأساقفة بإلحاح أن يشير عليه بمن أعلنه له الله أنه مستحق أن يجلس بعده أسقفاً على الكرسي الإسكندري. فردَّ عليه بعد إلحاح بصوتٍ “خفي” (كما يذكر كاتب سيرته) وقال له: “يعقوب القديس الذي من كنيسة أبينا القديس أنبا مقار”، ولكنه شدد عليه أن لا يُعلم أحداً بهذا وأقسم عليه بالكنيسة، حتى ينظر الجميع مجد الله حينما يختارونه بمحض رغبتهم وإرادتهم، حسب طقس اختیار بابوات الكنيسة القبطية. 

كيف تم الاختيار؟ 

وبعد أيام زال القتال والحرب من الإسكندرية ومصر وجميع قبائل الأندلسيين والمدالجة. فبدأ الشعب المسيحى مع أساقفته وأراخنته ومُقدَّميه يبتهلون ويصلون إلى الله في أن يذكر كنيسته التي اقتناها بدمه ويرشدهم إلى راعيهم الذي يرعاهم ويُعزّيهم في قلقهم. فأخذ الآباء الأساقفة والشعب المحب للمسيح يبحثون عمَّن يستحق هذه الرتبة وذكروا أسماء كثيرة، وكان من بينهم اسم الراهب يعقوب القس. وصاروا يتداولون فيمَن يستحق هذه الرتبة. 

فتقدَّم الأسقف الذي أعلمه الأب مرقس البابا المتنيح، وأَعْلَمَ السرَّ لجماعة الأساقفة، فصرخوا بصوتٍ واحد يستحق، يستحق، يستحق، فأسرعوا وجاءوا إلى البرية إلى كنيسة القديس أنبا مقار، وأخذوا الراهب يعقوب على حين غرة قبل أن يعلم شيئاً، وساروا به إلى مدينة الإسكندرية. وكان يبكي قائلاً: “مبارك هو الرب، الويل لي أنا غير المستحق لهذه الكرامة العظيمة”, وسأل الرب أن يُخرجه من هذا العالم قبل أن يقلدوه هذه الرتبة. 

وفي نفس الليلة رأى ما يراه النائم أن الله يُعزّيه ويقول له كما قال ليعقوب الأب الأول: “لا تخف يا يعقوب، فهوذا أنا معك في نزولك إلى مصر، وأقويك وأكون معك في جهادك لتستحق الإكليل مثل أبوَيْك المجاهدين ساويرس وديوسقوروس”. فاستيقظ من غفوته برعب. 

ثم دخلوا به إلى الإسكندرية وقَسَموه رئيس أساقفة “بيد كاملة وشرطونية صحيحة” (هذا الوصف يذكره كاتب سِير البطاركة ليُبين صحة وشرعية رسامته بوضع يد الأساقفة كلهم على رأسه، وهذا الوضع يُسمَّى في طقس الرسامة شرطونية، وهي كلمة يونانية مستعربة تعني وضع اليد، وهي أهم ة في طقس الرسامة وهي التي تجعل المرشح للبطريركية أسقفاً على المدينة العظمى الإسكندرية ويكون لقبه ” بطريركاً أي رئيس آباء ويُنادى عليه بلقب “أبونا” باعتباره “أب الآباء”). 

خدمة البابا يعقوب 

بدأت خدمة البابا يعقوب بحادث فريد من نوعه، إذ بعد أن ناول الشعب في الكاتدرائية بالإسكندرية، دعاه البعض إلى بيت أحد المؤمنين. ويقول كاتب سِيَر البطاركة عن عادة سيئة كانت لدى أهل الإسكندرية، وهي أن يتباهوا بأعيادهم وبمجد الجالس على كرسي الإسكندرية، وكانوا يدعون المخالفين للإيمان ليروا هذا ويتباهوا به أمامهم. وفي يوم أحد بعد أن تناول الشعب، توجهوا إلى منزل أحدهم وكان فيه هذا الجمع المختلط. فما كان من الأب البطريرك يعقوب إلا أن انتهرهم، ورفض هذه الاحتفالات العالمية، وعلى الأخص حضور مخالفين للإيمان الأرثوذكسي (بقايا المشايعين لمجمع خلقيدونية مثل هذه الاجتماعات). 

ويقول كاتب سِير البطاركة : إن البطريرك يعقوب “لم يكن ينظر مجد الناس، بل يعمل أعمال الله وعقله مرفوع إلى فوق. وكمثل بولس الرسول كان لا يفتر عن الكرازة والبشارة باسم يسوع المسيح ويُسبِّح الله“. 

وكان يقول لشعبه: “سمعتُ أن منكم قوماً بطالين كسالى وأنا أطلب إليكم أن تعملوا أعمالكم بنية حسنة، وتأكلوا خبزكم بعمل يديكم كما قال القديس بولس الرسول – إني بيدي كنت أخدم ولم أثقل عليكم، ولم يكن يأخذ من أحد”. 

وكتب عنه كاتب سيرته أيضاً: “وكان اليسير يكفيه، ولم يكن ينصب الموائد مثل الناس (الذين يقيمون الولائم الفاخرة)، بل كان يأكل خبزه بالدموع. وكانت أعماله البارة تنير وجهه. وكل ما كان يطلبه من الله كان يعطيه وكانت كلمته تقطع مثل السيف ذي الحدَّيْن“. 

شماس يتطاول على الأب البطريرك 

ولما بدأ الغلاء والسبي في الإسكندرية مرة أخرى لم يجد الأب البطريرك ما يدفعه للكنائس بالإسكندرية كالعادة، ولم يبقَ معه شيء. فتقدم إليه شماس اسمه جرجس بكنيسة الإسكندرية، أخذ يتكلم معه بجسارة وطلب منه أن يعود إلى دَيْره إذا لم يَقُم بدفع ما كان مقرراً دفعه للكنائس، فتألم البطريرك. وما إن خرج الشماس بغضب عظيم من عند البابا ومضى إلى بيته دون أن يلتمس من البابا حِلا عما فعله حتى لحقته حمى، وتوفي في ذات اليوم. ولما أعلموا البابا، حزن حزناً عظيماً وطلب إلى الله أن يحلّه من الرباط الذي ربط به نفسه ويحله من الخطية التي فعلها (كما ذكر كتاب تاريخ البطاركة).  

البابا في موسم صوم الأربعين المقدسة: 

لما قربت أيام الأربعين المقدسة، أراد الأب البطريرك أن يمضى إلى برية أنبا مقار ليُشدّد الرهبان ويعزّيهم، ويقيم عندهم إلى عيد الفصح المقدس – كما جرت عادة الآباء البطاركة – فلما وصل إليهم فرح جميعهم، وجاء إليه كل الآباء الشيوخ من مغائرهم ومن الجبال. وكان للبطريرك يعقوب محبة عظيمة للبرية أكثر من الرهبان ، كما يقول كاتب سيرته في كتاب تاريخ البطاركة). فلما استقر به المقام، أرسل إلى جميع الآباء في المنشوبيات (أي القلالي) يقول لهم: “كل من يحتاج إلى شئ لمنشوبيته، يأتي ليأخذه ، ذلك لأن البربر الذين هجموا على البرية في آخر حبرية البابا الراحل مرقس الثاني كانوا قد نهبوا جميع ما عندهم وهدموا الكنائس وأحرقوا القلالي بالنار.

البابا يستأنف تجديد الكنائس بالبرية: 

ولما رأى الأب البطريرك أن الرهبان الذين هربوا إلى الصعيد بسبب الغارة الأخيرة للبربر قد عادوا إلى البرية كمثل الحمام الذي يعود إلى أبراجه بعد زوال القلق، فرح جداً. ولما كان البابا في أيام رهبنته قد بدأ بعمارة هيكل على اسم القديس أنبا شنودة (قبلي هيكل القديس أنبا مقار)، حيث كان الرهبان يجتمعون فيه بدلاً من الكنائس الأخرى المهدومة؛ أكمل بناءه وجدد كنائس البرية، وكان ذلك عام ٨١٦م ثم أعاد بناء كنيسة أنبا مقار التي كانت قد تخرّبت، فأعاد إليها اتساعها وهياكلها الأولى وكرَّسها في أول برمودة وزيَّنها بكل زينة (أي ملأ جدرانها بالرسوم والنقوش الجدارية، كما يقول كتاب “تاريخ البطاركة). 

وبعد عيد الفصح ، عَزِمَ الأب يعقوب أن يفتقد شعبه بالصعيد ويزور الأديرة هناك، فبدأ رحلته إليهم، فاستقبله الشعب والرهبان بالفرح وتمجيد الله. ثم عاد إلى مقر كرسيه. 

البابا يحزن ويبكي على هلاك شعب مصر:

لابد أن نعرف أن شعب مصر كان عزيزاً على قلب البابا ليس فقط لأن غالبيته في تلك الأيام (مستهل القرن التاسع) من المسيحيين، ولكن لأنه كان يحس بأنه حتى الذين غيروا دينهم كانوا تحت اضطرار السيف أو الجوع. فهؤلاء وأولئك كانوا في نظر البابا ضمن رعيته التي يبتهل إلى الله من أجلها ويبكي متوسلاً أن يرفع الخراب عن الشعب المسكين. 

ففي تلك الأيام مَلَك الأندلسيون الإسكندرية، وقام رجل آخر اسمه “عبد العزيز الجروي“ ومَلَكَ بعض البلاد الأخرى في مصر، ويقول كاتب سيرة البابا ياكوبوس المسجلة في كتاب تاريخ البطاركة : إن الأب يعقوب كان يبتهل ويبكي بسبب خراب البلاد وطول استمرار الحروب في البلاد (١٤ عاماً) حتى أن أجساد الناس صارت طعاماً لطيور السماء. فإن “الجروي” هذا ما كان يفتر عن قتل الناس والاستيلاء على أموالهم وكان يدفن ما يأخذه من الأموال ليلاً في الأرض بمعونة رجاله. فإذا ما تم دفن المال كان يقتل الذين ساعدوه على دفنه حتى لا يوجد أحد منهم يعرف مكان المال. 

كما كان الجروي قد جمع قمح مصر جميعه ووضعه في مخازن تكون تحت سلطانه، وقال: أجعل الغلاء في أرض مصر جميعها، وتكون هذه حجة لأجمع أموال الشعب (متحججاً بما فعل فرعون يوسف، وهذه الحجة قَلْبٌ لحقيقة الأمر)، فيُطيعني كلُّ مقاوم. ولما فعل ذلك صار غلاء عظيم، وكان هذا الوالي المغتصب يقصد هلاك الأندلسيين الذين تملكوا على الإسكندرية، لكن البلوى عمت على كل شعب مصر ولاسيما أهل الإسكندرية وللأسف حينما عَلِمَ هذا المغتصب بهلاك الناس فَرِحَ وشَمَتَ فيهم وقال ما لم يَقُله الله حتى في العهد القديم بما معناه: “سأريهم كيف أُذلُّهم”. وهذه هى خصال الطغاة المغتصبين! 

واستجاب الله لتنهد المظلومين والمسحوقين ولابتهال وبكاء البابا ياكوبوس على شعبه، ذلك أن هذا الجروي ذهب إلى الإسكندرية ليُقاتل الأندلسيين، فهربوا منه إلى داخل سور المدينة والحصن وأغلقوا عليهم الأبواب حتى أكلوا دوابهم من الجوع. وبينما هو يضرب بالمجاني (ومفردها منجنيق :وهي آلة حرب قديمة من آلات الحصار ، كانت تُرمَى بها حجارة ثقيلة على الأسوار  لتهدمها)، وقع على رأسه حجر من الحصن، فطارت عيناه من وجهه وانشق رأسه ومات. 

ولكن قبل موته، وأثناء حصاره للحصن حدث حادث يختص بالبابا البطريرك، ذلك أن إنساناً طلب أن يصير أسقفاً، فلم يرضَ البابا، لأن قانون الكنيسة لم يكن ينطبق عليه، وأول ما فيه أنه لا يصح أن يسعى إنسان إلى الأسقفية أو يحض آخرين أن يسعوا من أجل إقامته أسقفاً، فذهب إلى هذا المغتصب لكي يأمر البابا برسامته أسقفاً. فلما لم يفعل البابا ذلك، غضب عبد العزيز الجروي وكتب إلى الأب البطريرك يستدعيه للمثول أمامه.

البابا في محنة مع الوالى المغتصب، ويستجيب لأراخنة الشعب: 

ولما عَلِمَ الأرخن مقاره النبراوي بهذا، كتب إلى الأب البطريرك يرجوه أن يرسم هذا الشخص أسقفاً، وأن يذهب إلى الجروي استجابة لطلبه حيث إنه هدد بأنه سيهدم الكنائس ويقتل الأساقفة إذا لم يفعل. ووعد الأرخن مقاره البابا بأنه سيدفع كل أمواله عن البابا ولن يلحقه أي شر من هذا الرجل.

فقام البابا وخرج للقاء الجروي وكان للقاء الجروي وكان معه قس محب الله اسمه يوساب على بيعة القديس أنبا مقار (وهو الذي استحق أن يجلس على الكرسي الرسولي فيما بعد). وبعد أن فرغ البابا من صلاته وقام، قال للقس يوساب : آمن بالله يا ولدي إن هذا الرجل لن ينظرنا ولن ننظره حياً. فلما كان الصباح بلغهم ما ذكرناه سابقاً من وقوع الحجر من الحصن على رأس الجروي وقتله.

تبدل الأحوال، ونهضة في برية القديس أنبا مقار 

ثم تولى وال اسمه علي ولم يعمل أعمال سلفه، فجاء رخاء عظيم حتى نَسِي الناس ما كانوا عليه من الغلاء، وشكروا الله على نعمته. وقد عاد أبناء الأنبا مقار إلى بريتهم، وبنى البابا ياكوبوس هيكلاً على اسم أنبا مقار سماه هيكل البابا بنيامين وملأ جدرانه بالرسومات الجدارية وكرسها في أول يوم من برمودة، وكان هذا تذكاراً حسناً للبابا ياكوبوس ومجداً للرب. 

محنة الأب البطريرك بسبب طمع معاونيه وشهوتهم للمال:

إذ كان الأب البطريرك يعلم أن أرشيدياكون الكنيسة، الذي يعمل كسكرتير للبابا البطريرك يتصرف في أمور الكنيسة بغير موافقته؛ لذا دعاه البابا وحذره قائلاً: “حينما نصل إلى الإسكندرية، فإيَّاك أن تنساق لكلام الناس أو تشتهي عينك أي شيء من هذا العالم، فتكون مظلماً في أعمال الله (أي تعيش في ظلمة شهوات العالم وأنت تؤدّي عملاً مقدساً في مقر البابا)، ونكون ذليلين عند الأمة المخالفة (أي الذين غزوا مصر وتملكوا عليها). واعلم أنك إذا تهاونت بكلامي فستقع كنيسة الله في بلاء عظيم”.

وكان قد وصل إلى مصر أمير (أي والٍ أو حاكم لمصر) من عند الخليفة في بغداد اسمه “عبد الله بن طاهر”، وكان (كما يصفه كاتب سيرة البابا والمسجلة في كتاب: تاريخ البطاركة) رجلاً خيراً رحوماً، مُحبّاً للعدل، مُبغضاً للظلم، وأقام في مصر أياماً حتى استقامت له الأمور وخضع له الجميع. وأقام هذا الوالي والياً آخر على الإسكندرية يقوم بجباية الخراج بها. وأما هذا الأرشيدياكون فتغافل عن تحذير أبيه البابا البطريرك، فتملك سراً ضياعاً (جمع “ضيعة” أي مزرعة كبيرة) ومزارع كان يأخذ منها إيراداً، وكان يظن بجهل أنه بهذا يزيد من إيرادات الكنيسة وبهذا يعمل عملاً صالحاً (أوقافاً للكنائس) ولو بمخالفة البابا أو الآباء الروحانيين وبمداراة عنهم! وطبعاً عرف الوالي المعيَّن لتحصيل الخراج عن الغِنَى المفاجئ للبابا البطريرك (مع أن البابا لم يكن يعرف)، وألزم البابا والأرشيدياكون بخراج كثيرة أكثر من طاقة البابا في السداد. وعاتب البابا شماسه بما قاله القديس بولس إن” الذين يريدون أن يكونوا أغنياء في هذا الدهر يقعون في البلايا والعثرات وشهوات الجهل التي تطرح الناس في الفناء والهلاك، ومحبة المال أصل لكل الشرور التي إذا اشتهاها قوم ضلوا عن الإيمان وجلبوا على أنفسهم هموماً كثيرة” (رسالة تيموثاوس الأولى ٦: ۱۰،۹) . ولكن ماذا يفعل البابا وقد وقعت الواقعة بجهل هذا الشماس وعدم طاعته وانعدام أمانته. 

وتقول السيرة إن البابا لم يكن معه ما يدفع به الخراج بسبب انقطاع الناس عن الحضور إلى كنيسة القديس الشهيد مار مينا لكثرة الحروب. لذلك مدَّ البابا يده إلى أواني الكنيسة وقدَّمها لوالي الخراج، وهذا مُحرَّم في قوانين الكنيسة. وما ذَكَرَتْه السيرة من الأعجوبة التي حدثت أثناء قيام الصائغ بتكسير الكأس المقدسة لصهرها، لا يشفع في تبرئة الشماس عن البلايا التي تُسبّبها حاشية البابا البطريرك (أو أي رئيس في الكنيسة) حينما يشتهون المال ويخفون عن البابا أو الرئيس أو حتى الشعب ما يفعلون؛ مما يُنبِّه المجتمع المخالف بالغِنَى الفاحش للكنيسة – ولو بالتهويل في الحقائق – مما يُسبب آلاماً للكنيسة كانت هي في غنى عنها، لعل الأجيال تعتبر من المآسي التي حدثت للكنيسة في التاريخ بسبب جهل البعض وعصيان البعض الآخر لوصايا المسيح ولتحذيرات الآباء الحكماء القديسين التي لا يستهان بها. 

علاقة الكرسي الإسكندري بالكرسي الأنطاكي 

اشتهى البطريرك الأنطاكي في سوريا أن يلتقي بالأب البطريرك يعقوب، ولكن كثرة الحروب – والتي استمرت أربع عشرة سنة – منعته من تحقيق رغبته. ولكن أخيراً استطاع البطريرك الأنطاكي المجيء إلى مصر ليقابل والي مصر عبد الله بن طاهر، ونزل البطريرك الضيف في مدينة صان (في الشرقية). فخرج سكانها وعددهم نحو ثلاثين ألف قبطي يتقدمهم البابا يعقوب والأساقفة، واستقبلوا البطريرك الأنطاكي بما يليق به من حفاوة وتكريم. 

البابا ياكوبوس (يعقوب) يواصل افتقاده لشعبه، 

ولمحة عن فضائله، وطريقة اختياره الأساقفة: 

فقد توجه البابا ياكوبوس لافتقاد الكنائس والشعب ونزل بمدينة “تنتدا” أياماً قليلة لدى مروره عليها. 

ومن فضائل البابا ياكوبوس – وهذا تقليد قديم لكل البابوات – أنه إذا أراد أن يقسم (يرسم) الأساقفة، كان يسهر ويصوم ويطوي أياماً في الصوم الانقطاعي حتى يُظهر الله له حقيقة الأشخاص المرشحين. وكان يحفظ تذكارات الآباء القديسين من القديس مرقس الإنجيلي إلى البابا مرقس أبيه بالروح، ويُعيد لهم ويُقيم القداس مهما كان موضع إقامته، سواء في الإسكندرية أو في الأديرة أو في القرى. 

نياحة البابا ياكوبوس 

فلما أراد الله أن يُريحه من التعب وينقله إلى مساكن النورانيين السمائية، أعلمه الرب بيوم انتقاله في رؤيا ظهر له فيها وهو راكب على سحابة من نور ومعه الاثنا عشر تلميذاً. وبدأت قوة البابا تضعف، حتى تنيح بسلام في اليوم الرابع عشر من شهر أمشير، وهو نفس يوم نياحة القديس ساويرس البطريرك الأنطاكي المجاهد وأثناء احتضار البابا سمعه الملتفون حوله وهو يناجي القديسين ساويرس وديوسقوروس، حتى أسلم روحه الطاهرة في يدي الرب، وفاح من جسده بخور طيب حتى ملأ كل الموضع . وكان ذلك في سنة ۸۲۱م بتقويم ذلك الزمان، حيث جلس على الكرسي الإسكندري ۱۰ سنين و ۸ أشهر بركة صلاته تكون معنا، آمين. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى