البابا ثيئودوسيوس
البطريرك الـ ٣٣
(٥٢٨ – ٥٦٠م بالتقويم اليولياني / ٥٣٦-٥٦٧م بالتقويم الغريغوري)
انتخاب الناسك ثيئودوسيوس بطريركاً:
بعد نياحة البابا تيموثاوس عام ٥٢٨م (بحسب التقويم السائد آنذاك)، انتخب الإكليروس والشعب الناسك التقي ثيئودوسيوس، وقام الأساقفة بوضع اليد عليه ليصير بذلك البابا سنة ٥٢٨م.
وقد واجه هذا البابا الناسك متاعب بدأت بعد رسامته بأسابيع قليلة، وظلت ترافقه حتى آخر بابويته. لكنه كان – كما تصفه إحدى المخطوطات القبطية القديمةـ حجر الماس الذي لا ينكسر.
شهوة البطريركية كم آذت الكنيسة:
فإن شماساً كبير السن اسمه “غايانس ، وكان من شيعة المانويين، وكان ذا معرفة مع كبرياء وتعظم، وكان صاحب بدعة القائلين بعدم تألم المسيح بالجسد، إذ نسبوا آلام المسيح إلى خيال الناس (أي خيل لهم) الذين كانوا حاضرين صلب المسيح[1]. هذا الشماس تشيع له بعض الإسكندريين وأخذوه ورسموه بطريركاً سراً، بالرغم من جلوس البابا ثيودوسيوس. وقد نشأ عن هذه البدعة بلبلة وانقسام عانت منها الكنيسة أشد معاناة ولكن سرعان ما تم تسوية هذه المشكلة على يد والي البلاد بإيعاز من الإمبراطور البيزنطي جوستنيان، وتسامح البابا ثيئودوسيوس مع هذا الشماس، إذ سمح له بأن يعود إلى رتبته السابقة كرئيس شمامسة، فعاد الهدوء والسلام سريعاً في الكنائس والأديرة. وهكذا أعطى البابا أول برهان على رعاية الله له ورضاه عنه بمزجه الحزم مع القدرة على التسامح والتفاهم والمصالحة حتى مع أَلدٌ أعداء الحق والكنيسة!
وبعد أن أرسى البابا ثيئودوسيوس بحكمته هذا النزاع الخطير واجه المحنة الكبرى تلك المختصة بمجمع خلقيدونية. وكان ذلك بسبب تولي الإمبراطور جوستنيانوس الأول السلطة عام ٥١٨م.
الإمبراطور جوستنيان خَلْط السياسة بالدين:
هذا الإمبراطور كان عامياً، فرأى أن يعوّض هذا النقص بأن يقرن مهام السياسة بالانشغال بأمور الدين. وقد استغرق في القراءات اللاهوتية، فاستطاع أنصار المجمع الخلقيدوني أن يستميلوه إلى حزبهم فتجنَّد لخدمة هؤلاء، وأصدر منشوراً بأن لا يرقى أحد كرسي أسقفية في الإمبراطورية إلا بعد توقيعه على قرارات المجمع الخلقيدوني.
وأَمَرَ بعزل المقاومين وأولهم البطريرك الأنطاكي ساويرس الذي هرب آتياً لاجئاً إلى مصر. ومن قبل، كانت قد حدثت مذبحة الإسكندرية في عهد البابا السابق تيموثاوس الثالث حينما أمر هذا الإمبراطور بنَفْيه، فقاوم الشعب أمر الملك فاكتنفهم الجيش وأوقع منهم زهاء المائتي ألف. وهكذا كان الحال مع باقي أساقفة الشرق.
ولأن هذا الإمبراطور توهم أنه صار خبيراً في علوم اللاهوت فقد أوهمه بعض مستشاريه أن الخلاف في شأن هذا المجمع ينحصر في ثلاث نقط سميت في التاريخ بالفصول الثلاثة The Three Chapters وهي: رسالة ثيئودورس أسقف المصيصة ورسالة إيباس أسقف الرها، ورسائل ثيئودوريت أسقف كيرش (قورش) ضد الحروم الاثني عشر التي أقامها البابا كيرلس الكبير. فأصدر مرسوماً وقَع فيه الحرم على هذه الكتابات، والذي لم يُزِد النار إلا اشتعالاً، لأن بعض الأساقفة الخلقيدونيين رفضوا التوقيع على الحرم رفضاً باتاً، بينما وقع عليه البعض الآخر على الفور عن خوف. وكان الإمبراطور يظن أن حَرْمَ هذه الكتابات سوف يستميل الفريق المناهض لمجمع خلقيدونية، ولكن خاب ظنُّه.
الخدعة: أن تكون الوحدة الكنسية في خدمة الوحدة السياسية:
كذلك زعم جوستنيان بأنه مسئول عن تثبيت دعائم السلام والوحدة، لا على المستوى السياسي فحسب، بل وأيضاً على المستوى الكنسي. وكان في ذلك يطلب وحدة الكنيسة لتكون في خدمة وحدة الإمبراطورية.
وكان في هذا يميل إلى فرض الرأي الواحد والنَّسَق الواحد ولو بالقوة الغاشمة. ولذلك فقد كان يعصف بذوي العقول المفكرة من علماء وأبناء الكنيسة كما لاحظ ذلك أحد المؤرخين السياسيين بيرسي نيفيل بور[2].
الفن البيزنطي يزدهر في عصر جوستنيان
لكننا لا نستطيع أن نغفل هنا تشجيع الإمبراطور للفن الكنسي. وكان للفن المصري القبطي والفن السوري السرياني أكثر الأثر في الفن البيزنطي، فحوّلا اتجاهه تحويلاً جديداً. واستغل الإمبراطور هذا الاتجاه الجديد في الفن بأن أَمَرَ مهندسيه ببناء تلك الكاتدرائية الفخمة المعروفة باسم “آيا صوفيا” (النطق اليوناني لكلمة “آجيا صوفيا” أي “الحكمة المقدسة”)، وهي شامخة حتى الآن بفنها البيزنطي الرفيع، بالرغم مما اجتازته من أهوال وتشويه بعد الغزو التركي لبيزنطة في القرن الخامس عشر حينما حوّلها السلطان التركي محمد الثاني إلى مسجد، ثم صارت متحفاً لكل الزائرين والسُّيَّاح. ثم قام تهديد من الحكومة التركية الحالية بتحويلها إلى مسجد للصلاة فيها، وقد تم ذلك التحويل منذ أعوام قليلة.
مواجهات البابا ثيئودوسيوس مع الإمبراطور
على أن الحقد الديني السياسي الذي كان يزخر به قلب الإمبراطور جره إلى مقابلة خطاب التقدير والاحترام الذي أرسله الأنبا ثيئودوسيوس إلى الإمبراطور والإمبراطورة، قابله بإرسال خطاب للبابا يعرض فيه عليه أنه إذا وقع على قرارات مجمع خلقيدونية فسوف يجعله والي الإسكندرية وبابا أفريقيا، وكل هذه السلطات بالإضافة إلى باباويته للكرسي المرقسي، فيتسع نفوذه الروحي كما يصبح له نفوذ مدني أيضاً. (لاحظ أن هذا العرض المغري أصبح واقعاً تاريخياً في تاريخ بابوات روما فيما بعد، في العصور الوسطى: السلطة الزمنية مع السلطة الروحية ما يسميه علماء التاريخ الكنسي والسياسي Caesaro Papism أي البابوية الملتحفة بالسلطان السياسي).
ولكن البابا الإسكندري وبالرغم من التهديد بالنفي والتشريد إن هو لم يوافق على هذا العرض السخي لم يحد عن تقليد كنيسة الإسكندرية القائم على كلمات المسيح الخالدة: «مملكتي ليست من هذا العالم» (يو١٨: ٣٦)، «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما الله الله» (مر ١٢: ۱۷)؛ إذ لم يكد ينتهي من قراءة الخطاب الإمبراطوري حتى قال على مسمع من مندوبي الإمبراطور وكبار رجال الدولة الذين جاءوا معهم: “يحدثنا الكتاب المقدس بأن الشيطان حين جرَّب رب المجد، حاول إغراءه بإعطائه السلطان على ممالك العالم إن هو سجد له. وقد أجابه سيدنا – له المجد – بقوله: «للرب إلهك تسجد وإيَّاه وحده تعبد» (لو٤: ٨)، وهذا الذي يطلبه مني الإمبراطور لا يؤدي إلا إلى هلاكي لأنه يجعلني غريباً عن المسيح ملكي الحقيقي. ثم رفع صوته بالحزم على مجمع خلقيدونية.
ولما انتهى البابا ثيئودوسيوس من هذا الحديث قام من مكانه يريد الخروج، ولكن الوالي وأعوانه منعوه من مغادرة الدار البابوية أولاً ، ثم قبضوا عليه وأخذوه معهم إلى دار الولاية واحتجزوه يوماً كاملاً بليلته. وفي الغد أطلقوا سراحه تاركين له حرية التنقل.
الوالي سيماخوس يتحول ليصير مناصراً للبابا (بسبب شجاعته مع الحكمة):
وكانت الشجاعة التي أبداها البابا الإسكندري قد أثارت إعجاب سيماخوس والي الإسكندرية، فانضم إلى مناصري البابا. ومن ثم أخذ يتفاهم معه على خير سبيل ينتهجه، وانتهى به الأمر إلى إقناع البابا بمغادرة العاصمة إلى الصعيد، حيث أعد له مركباً زوَّده بكل معدات السفر.
ويذكر التاريخ اسم بطل قبطي كان وراء تغير الوالي سيماخوس، هو الأرخن القبطي ”دوروثيئوس“ الذي كان يُعنى باحتياجات الرهبان وفي الوقت نفسه كان متقرّباً من الولاة، ومن بينهم سيماخوس.
وسنرى كيف استمال هذا الوالي ليشمل الرهبان باهتمامه وعطفه، ما سنذكره بالتفصيل فيما بعد.
وفي هذا المجال نسجّل تقليدَيْن سائدَيْن في الكنيسة على مدى العصور :
الأول: وهو دور أراخنة الشعب في حل مشاكل الكنيسة مع الولاة والرؤساء المدنيين.
وقد ظهر هذا الدور مراراً وأدَّى إلى نتائج إيجابية في علاقة الكنيسة بالرؤساء السياسيين.
والثاني: هو الحكمة الروحية التي تحلَّى بها بابوات وأساقفة الكنيسة في التعامل مع المشاكل التي تجابهها الكنيسة سواء من جهة الأباطرة البيزنطيين أو المشاكل الداخلية للكنيسة، وهي تصب دائماً في تجميع الشعب حول كنيسته والتنازل عن الأمجاد الشخصية للرؤساء في سبيل وحدة الكنيسة.
وهذا هو ما حفظ الكنيسة في وحدتها ومسيرتها طوال العشرين قرناً الماضية بالرغم من عنف الأعاصير التي واجهتها.
بدء الاضطرابات: خدعة الدعوة للحضور إلى القسطنطينية:
وبإزاء هذا الرفض لطلب الإمبراطور التوقيع على قرارات مجمع خلقيدونية، أرسل الإمبراطور مندوباً لبقاً حلو اللسان، وحمله الدعوة إلى البابا الإسكندري للمجيء إلى القسطنطينية للمقابلة الشخصية التي قد تؤدّي إلى إقناع هذا البابا الجليل بالخضوع للحكم الإمبراطوري. واستودع البابا نفسه بين يدي المسيح، وبهذه الثقة ذهب لمقابلة الإمبراطور غير خائف. واختار عدداً من رجال كنيسته من الإكليروس والأراخنة الموثوق بهم ليُرافقوه إلى هناك.
وهناك تقابل الإمبراطور مع البابا ثيئودوسيوس ست مرات أبدى فيها الإمبراطور كل كرم ولطف، وفي ختامها عرض نفس العروض السابقة، وردَّ البابا بنفس الرد: “لن أتنازل عن نقطة واحدة ولا حرف واحد مما تسلَّمتُه من آبائي معلمي الكنيسة الملهمين“. وكان رد فعل الإمبراطور هو الحكم بنفي البابا عن بلاده وإيداعه في سجن في القسطنطينية، وإقامة دخيل اسمه بولس التنيسي أسقفاً على الإسكندرية بدلاً من البابا الشرعي.
ولم يستطع هذا الدخيل البقاء في الإسكندرية بسبب شدة مقاطعة الشعب الأرثوذكسي له، فأرسل إلى الإمبراطور يشرح له الموقف فأمر بأن تُغلق جميع الكنائس التي لم يتمكن الدخيل من الاستيلاء عليها؛ الأمر الذي جعل الشعب محروماً من التناول من الأسرار المقدسة، وأطفالهم أيضاً محرومين من صبغة المعمودية المقدسة طيلة هذه السنة المشئومة.
كيف واجه القسوس والشعب في الإسكندرية هذه المحنة؟
ولما اشتدت الضائقة الروحية على الكنيسة بسبب غياب البابا، عَقَدَ قسوس الإسكندرية وأراخنة الشعب اجتماعاً (لم يرأسه أسقف لأن جميع الأساقفة أيضاً كانوا منفيين بأمر الإمبراطور جوستنيان). وفي هذا الاجتماع قرَّر الكهنة مع الشعب أن يبنوا كنيسة باسم: “الإنجيليون“ يقيمون بها طقوسهم الكنسية بعيداً عن هذا الأسقف الدخيل. ونفّذوا قرارهم بالفعل وبنوا كنيسة في مكان معروف باسم: مكان الأعمدة غربي المدينة. ثم قوَّاهم الله وشدد عزيمتهم فبنوا كنيسة ثانية شرقي المدرسة الخاصة بالتمثيل، وأطلقوا عليها اسم: الشهيدان “قزمان ودميان“.
ومع ذلك، فحين بلغ الإمبراطور خبر بناء الكنيستين أصدر أمراً بالاستيلاء عليهما مع باقي كنائس المصريين وتسليمها لمناصري المجمع الخلقيدوني.
ولما بلغ البابا ثيئودوسيوس – وهو في منفاه – كل ما جرى وما فعله شعبه وقسوسه وما ردَّ به عليهم الإمبراطور ؛ ضاعف صلواته وأصوامه ليحفظ الرب شعبه في هذه الأجواء الصعبة حتى لا يفقدوا إيمانهم فيخوروا أمام طغيان السلطان الغاشم.
في طريق الأرض كلها:
ولقد دامت بابوية الأنبا ثيئودوسيوس واحداً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، قضى ثماني وعشرين سنة منها في المنفى. وبهذا حُسِبَ هذا البابا في طقس قديسي الكنيسة بمثابة البابا المُعترف (أي الشهيد بدون سفك دم من أجل إيمانه). ووُضِع اسمه في صدر مجمع القديسين ضمن كوكبة الآباء والبطاركة الشهداء والمعترفين[3]، حيث تنيح يوم ۲۸ بؤونة سنة ٢٨٣ للشهداء/ ٥٦٧ ميلادية بحسب تقويم ذلك الزمان صلاته تكون معنا جميعاً. امين
- هذه البدعة تُسمَّى باليونانية: “الدوكيتية” من الكلمة اليونانية “sokew” ومعناها: “يتخيَّل” أو “يُشبه له”. وقد ظهرت في القرن الأول والثاني للميلاد على يد بعض اليهود والفلاسفة اليونانيين غير المسيحيين بأن جسد المسيح لم يكن من لحم ودم وعظام مثل كل البشر ، بل فقط كان يُخيَّل للناس أنه كذلك، وبالتالي فكانوا يقولون إن صلب المسيح لم يكن حقيقياً بل كان فقط يُشبَّه لهم ذلك غير مُصدِّقين أن ابن الله يمكن أن يُصلب بل شَبَهُه فقط.
- جوستنيان وعصره، ص ۱۲۸ عن قصة الكنيسة القبطية – إيريس حبيب المصري، الجزء الثاني – ص ١٤٢ .
- وهم: القديسون ساويرس الأنطاكي، ديوسقوروس، أثناسيوس الرسولي بطرس الكاهن والشهيد رئيس الكهنة، يوحنا ذهبي الفم، ثيئودوسيوس.