البابا إسحق

البطريرك الـ ٤١ 
(٦٨١-٦٨٤م) 

بعد نياحة البابا يوحنا (يؤانس) الثالث، مارس الشعب دوره ممثلاً في أراخنة ومُقدَّمي الشعب مشتركين مع الآباء أساقفة الكنيسة للتشاور فيمَن يخلف باباهم الراحل، وقد تعوّدوا أن يجتمعوا للصلاة والتوسل في الكنيسة إلى الله أن يرشدهم إلى خير خَلَفٍ لخير سَلَفٍ وبعد أن كانوا يفعلون ذلك في كنيسة القديس مرقس الرسول في الإسكندرية، وبعد دخول العرب مصر، كانوا يجتمعون في إحدى كنائس بابليون الدرك بعد أن انتقل مقر الوالي العربي إلى مصر. وهكذا اجتمع هذا الجمع في كنيسة القديس سرجيوس (المسماة شعبياً كنيسة “أبو سرجه”). وحدث أثناء الصلاة أن كان الراهب إسحق سكرتير البابا الراحل منفرداً في زاوية من الكنيسة. وبينما هم يُصلُّون انكسر قنديل الزيت المعلَّق في تلك الزاوية وانسكب ما فيه من زيت فوق رأس إسحق. وما إن رأى المجتمعون هذا المنظر حتى اعتبروا ذلك إعلاناً من الله باختيار الراهب إسحق، فصاحوا: “أكسيوس، أكسيوس ، أي مستحق، مستحق“.

 وكان لتغير الوضع السياسي في مصر بدخول العرب مصر، وتعيين وال غريب عن البلاد، أن أفرز ذلك بعض العادات السيئة التي لجأ إليها بعض ضعاف النفوس من الأقباط بمحاولة تقربهم من الوالي الأجنبي ومحاولة خداعه بأكاذيب وافتراءات ليُبرِّروا تعديهم على تقاليد الكنيسة وأصول الشركة والمشورة المختصة بإقامة البابا الإسكندري. وقد حدث هذا في هذه المناسبة (وسنجد أنه سيتكرر في مناسبات قادمة)، إذ سعى البعض إلى تبوء هذه الخدمة الرسولية طمعاً في منصب أو اشتهاء لمغنم، فحاول مستعيناً حتى بأساقفة وكهنة وبعض الشعب للإسراع برسامة شماس من الإسكندرية اسمه جرحه (وهو النُّطق القبطي المستعرب لكلمة “جورجيوس” أو “جرجس)، وأعدُّوا العدة لذلك، وبدون علم الوالي، وبدون المشاركة مع المجتمعين في كنيسة أبو سرجه . ورتبوا أنه لو حدث وغضب الوالي، فنحن ندعي أن هذا هو الذي تنبأ عنه البابا الراحل وحدث فعلاً ما كانوا يخشونه، إذ لما عَلِمَ الوالي بجهودهم غضب واستدعاهم.

لكن الزلّة التي كشفت سوء نيَّتهم، وعطّلت مشعاهم، كانت أنهم أرادوا أن يُجروا الرسامة سريعاً وقبل يوم الأحد (اليوم المخصص للرسامة حسب الطقس الكنسي)، حيث يكون الشعب بجملته مجتمعاً، وذلك حتى يضعوا الكنيسة كلها أمام الأمر الواقع. 

وكم من المرات في تاريخ الكنيسة التي نجحت فيها هذه الطريقة فكانت وبالاً على الكنيسة وسببت قلاقل واضطرابات إما فى الكنيسة، أو على المؤمنين الأبرياء. أما هذه المرة فقد تدخلت العناية الإلهية. 

رئيس الشمامسة وسلطانه في منع الرسامة الخاطئة: 

فقد تصدى لهؤلاء رئيس الشمامسة “مرقس” أرشيدياكون الإسكندرية. وكما يصفه كتاب تاريخ البطاركة أنه كان رجلاً فهيماً فاضلاً متميزاً في المدينة. هذا الأرشيدياكون منع هذه الجماعة من إتمام مآربهم، وقال لهم: “إن لم تجيئوا يوم الأحد حسبما جرت عليه العادة في القوانين حيث يجتمع جميع أهل مدينة الإسكندرية، وإلا فلن يُرسم”. وكان هذا وكأنه أمر من الله لكي يُقدِّم من اصطفاه أهل المدينة وبناءً على نبوة البابا الراحل، وهو الأبا إسحق الراهب. – وهنا تظهر سلطة رئيس الشمامسة (الأرشيذياكون)، كما حدَّدها الطقس الكنسي في مراقبة تطبيق قوانين الكنيسة ومنع أية مخالفة له ونأسف لضياع هذه الرتبة بمؤهلاتها وواجباتها. 

ثم إن الوالي حينما عَلِمَ بما أضمره هؤلاء، طلب أن يحضروا إليه في مقره بمصر. وفي الوقت نفسه توجَّه الأساقفة والأراخنة، الذين كانوا يصلون في كنيسة أبو سرجه في بابليون الدرك، إلى الوالي ليُعلموه باختيارهم الراهب إسحق. وهناك اكتشفوا ما أضمره الشماس جرجه – جورجيوس – وجماعته. فلما انكشف الأمر للوالي العربي وأن “جرجه” جورجيوس – ليس – ليس هو الذي تنبأ عنه البابا الراحل، غضب الأمير الوالي عبد العزيز وأبطل رسامته، وأمر بتقديم الراهب إسحق ليصير هو البابا البطريرك ويا للخزي والخجل.

ويذكر أحد المصادر التاريخية أنه لما مَثَل المرشحان أمام الوالي وجد أن الشماس “جرجه وجيه الشكل أنيق الملبس، بينما كان إيساك (إسحق) الراهب بسيط الملبس وكانت الأغلبية تسانده فدُهِشَ الوالي من مساندة الأغلبية ،له ،وسأل والدهشة بادية على وجهه وفي نبرات صوته: “كيف تفضّلون رجلاً ليست عليه مسحة من الوجاهة على رجل في غاية الوجاهة”؟ فأجابوه في ثقة وتأكيد: “إن الله الذي يصطفي أنبياءه قد اصطفاه. وهو حين يصطفي رجاله، ينظر إلى قلوبهم لا إلى وجوههم”. وقد أَمَّن الوالي على هذا القول وعلى الذين أبدوا تقديرهم للقيمة الروحية الباطنية الشخصية دون أن يؤخذوا بالظواهر.

وهكذا بدأت إجراءات رسامة البابا الحادي والأربعين في عداد بابوات وبطاركة الكرسي الإسكندري.

ولكن قبل أن نستطرد في سرد أعمال البابا إسحق (إيساك) نتوقف قليلاً عند مختصر سيرة هذا الأب. 

مَن هو الراهب إسحق؟ 

لقد ذكرنا – سابقاً – طرفاً من حياة هذا الراهب الطيب. أنه تعلم العلوم والفنون والآداب وتضلَّع في فن النَّسْخ وكان هذا أسلوب الكتابة في ذلك العصر. ولما نبغ في ذلك سلمه والده إلى كاتب الوالي البيزنطي آنذاك، وقد رقاه الوالي إلى درجة رئيس جميع كتبة دار الولاية. وبالرغم من فرح والديه بذلك، إلا أنه لم يستمر في هذا العمل لأنه كان يريد أن يصير راهباً. 

وبدأ إسحق يتردد على برية القديس مقاريوس والمسماة برية شيهيت والتي كان يُدبِّرها أنبا زكريا، إلى أن قرَّ قراره .للرهبنة. وعاش إسحق كراهب مخلص أمين ،لرهبنته يسهر الليل في الصلاة، ويخدم الإخوة الرهبان في النهار في الدياكونية (أي المطبخ والمخازن …إلخ)، فكان يوقد المواقد ويُعِدُّ المائدة ويُنظّف دورات المياه وينزحها وكل ما يتصل بخدمة الدياكونية. 

وحدث أن الأب الوقور البابا يوحنا الثالث كان يريد راهباً يتخذه كاتباً له، أو بلغة العصر سكرتيراً ، فأشار عليه بعض المؤمنين بأن يُرسل في طلب الراهب إسحق، فأرسل في طلبه. فذهب إسحق إلى هناك طاعةً للبابا البطريرك، ولكن دون أن يفقد حنينه إلى الرهبنة. فاتفق مع البطريرك أن يخدم معه شهراً واحداً في السنة قبل موسم الصوم الكبير، فيكتب له الرسالة الفصحية السنوية التي تعوّد بابوات الإسكندرية على كتابتها في مستهل الصوم الكبير، على أن يعود إلى ديره ليقضي بقية السنة في ديره. 

وبعد أن رسم معلّمه زكريا مدبّر برية شيهيت أسقفاً على صا، ثم أُصيب بمرض شديد، ورجع إلى برية شيهيت ليستشفي هناك ويسترد صحته أو ليستعد للانطلاق لحق به تلميذه إسحق ليخدمه ويُطبّبه بعد أن سمح له البطريرك بالعودة نهائياً إلى برية شيهيت حيث ظل يخدم معلمه إلى أن انتقل الأنبا زكريا. ولما تنيح استدعى البطريرك الراهب إسحق للحضور ليستبقيه إلى جانبه، فأطاع من غير تردُّد. وكان البابا البطريرك (يوحنا الثالث) قد أُعلم بالروح أن الذي سيخلفه هو إسحق. 

ملاحظة: إن تنبؤ البابا البطريرك بمن يخلفه في بعض سِيَر البابوات كان يحكمه أمران: القداسة والشفافية الروحية الواضحة للبابا البطريرك؛ ومن جانب آخر القداسة والحكمة الروحية لتلاميذ البابا الذين كان يختارهم بإرشاد الروح القدس ليكونوا معاونين له. لكن هذه لم تكن عادة طقسية، بل اهتم بعض البابوات في عصور الاستشهاد ثم بعد الغزو العربي لمصر بهذه الممارسة نظراً لسوء الظروف التي أحاطت بالكنيسة، وتزاحم رجال الدين غير المتأسسين على تقليد الكنيسة المقدس حول الولاة والسلاطين ليفوزوا بهذا المنصب، إما للتقرُّب من الولاة السياسيين، أو للانتفاع المادي والأدبي. 

لكن الطقس الكنسى الأصيل يجعل اختيار البابا في يد شعب مدينة الإسكندرية وأراخنة الشعب القبطي عموماً، ومعاونة ومشورة الآباء الأساقفة. 

رسامة الراهب إسحق بطريركاً: 

فرح شعب الكنيسة بتحقيق رغبتهم في انتخاب الراهب إسحق (إيساك) بطريركاً. وقد رُسم البابا إسحق (إيساك) سنة ٦٨١م أسقفاً على مدينة الإسكندرية وصار بابا الكرازة المرقسية الحادي والأربعين في عداد بطاركة كرسي الإسكندرية. ويصف كاتب سجل “تاريخ البطاركة” أن “الرب كان معه يُعينه”. وكان أول أعماله بعد رسامته:  

إعادة إقامة كاتدرائية القديس مرقس بالإسكندرية: 

فقد كانت هذه الكاتدرائية قد مالت جدرانها وآلت للسقوط، كما كاد كرسي الأسقفية فيها أن ينهدم. كما جدد البابا إسحق كنائس عديدةً لم يتمكن المؤمنون من بنائها للظروف القاسية التي مروا بها منذ الحُكْم البيزنطي وبعد الغزو العربي. كما بنى كنيسة في حلوان على اسم العذراء. وكانت ظروف بناء هذه الكنيسة في هذا المكان النائي الذي يبعد عن القاهرة حوالي الثلاثين كيلومتراً، أن الوالي عبد العزيز أقام لنفسه فيها قصراً، وأمر أراخنة الصعيد وسائر الأقاليم بأن يبني كل واحد منهم لنفسه مسكناً حول قصره. فرجا الوالي أن يبني في حلوان عدداً من الكنائس والأديرة. 

محاولة إجراء الصُّلح بين ملك إثيوبيا وملك النوبة: 

كانت هاتان الدولتان يرأسهما ملوك يتبعون كنيسة الإسكندرية، حيث كان بابا الإسكندرية يُرسل لهما الأساقفة ويُتابع تعليمهما بالإيمان الأرثوذكسي. وحدث أن قام نزاع بين الملكين لوجود خلاف بينهما. فلما بلغ البابا قيام هذا النزاع أرسل لهما رسالة لكي يصطلحا. 

وكما ذكرنا أنه بعد دخول الغازي العربي، نشأت فئة أو أفراد ذوو نفوس ضعيفة تحاول أن تلتمس لنفسها قدراً ونفوذاً لدى الحاكم الأجنبي الجديد وهكذا انتهزوا فرصة هذه الرسالة وسَعَوْا إلى الوالي عبد العزيز وادعوا أن هذه الرسائل التي أُرسلت للملكين تحمل إساءة للإسلام. والحقيقة أن ملك النوبة كان يسعى إلى محاربة ملك إثيوبيا متفقاً مع العرب الغُزاة بغية الحصول على العبيد المخصصين للجزية السنوية التي تعهد بها للغزاة مقابل عدم غزوهم بلاده، وفي الوقت نفسه ولنفس السبب كان يُظهر العداوة للمسيحيين. فكتب إليه البابا إسحق طالباً منه التصالح مع ملك إثيوبيا، كما كتب لملك إثيوبيا للكفّ عن التشاحن بينه وبين ملك النوبة. وكتب لملك النوبة يُحذِّره : “إن عليك مسئولية عظمى تجاه الله إذا عملت على تعطيل بشارة الخلاص وتسببت في خراب الكنائس في الجنوب واضمحلالها، كما يبدو أنه حذره من التحالف مع الغزاة. فسعى هؤلاء إلى الوالي يَشُون بالبابا البطريرك بأنه كتب لملكي النوبة وإثيوبيا ليتحد معهما على خلع نير الغزاة عن مصر. فغضب الوالي وقبض على البابا البطريرك وتعاون الأراخنة مع البابا ليُجنبوا الكنيسة أي ضرر نتيجة ما ورد في هذه الخطابات من كلمات تخص الغزاة العرب، فأظهروا نسخاً من رسائل البابا للملكين وحذفوا ما يخص الغزاة. لكن الرسائل لم يكن فيها طبعاً ما أوشى به الواشون من أنه طلب الاتحاد معهما ضد الغزاة. 

وقبل أن يصل البابا إلى الوالي عرَّفوا الوالي أن الرسل حضروا ومعهم الخطابات، فأسرع في طلبهم، وقرأ الرسائل. فلما وقف على ما فيها ولم يجدها تذكر ما ذكره الواشون، سكن غضبه، وأمر بإعادة البابا البطريرك إلى الإسكندرية مقر كرسيه ولكنه حرمه فيما بعد من مزايا كثيرة : إذ أمر بنزع كل الصلبان من على الكنائس ومن داخلها، كما أمر بوضع إعلانات على أبواب الكنائس بما يعتقده المسلمون عن المسيح. وكما يقول كتاب “تاريخ البطاركة”: “إنه حدث اضطراب بين مسيحيي مصر بسبب هذا الأمر”. 

من فضائل البابا إسحق كيف تعامل مع الخصوم؟ 

فقد كان من بين كتبة ديوان الوالي عبد العزيز رجل اسمه أثناسيوس، هذا الرجل أظهر تجاه البابا من الجفاء ما ملأ قلوب المخلصين أسى وألماً. وحزن البابا إسحق من هذا العقوق المفاجئ، فصار يُصلِّي ليل نهار ضارعاً إلى الآب السماوي أن يُشرق في قلب عبده أثناسيوس بالسلام تجاهه. 

وحدث بعد ذلك بشهور قليلة أن مرض الابن الأكبر لأثناسيوس مرضاً خطيراً حتى قارَبَ الموت. وكان البابا لا يزال مداوماً على الصلاة لأجل هذا الكاتب فظهر للبابا ملاك الرب في حلم وقال له: “إن أنت أقنعت أثناسيوس بالوثوق من شفاعتك، فإن الله سيمنح ابنه الشفاء”.

فلما أصبح الصباح، أخذ البابا إسحق يُفكر ملياً في الحلم الذي رآه. ثم نادى شماسه الخاص وسأله: “أيوجد أحد من الأساقفة في الإسكندرية ؟ فأجابه الشماس : إنه يوجد ثلاثة أساقفة الآن هم الأنبا جاورجيوس والأنبا غريغوريوس، والأنبا بيامون أسقف دمياط. فاستدعاهم البابا، وأعلمهم بالحلم الذي رآه. ولكن الأنبا غريغوريوس قال له: “أنت تعرف يا سيدي البابا أن قلب هذا الرجل أثناسيوس قد تحوّل عنك بصورة غير طبيعية. كما أننا لا نعرف بعد إن كان الحلم الذي رأيته هو من الله أم أن عدو الخير قد تراءى لك ليُسيء إلى سمعتك. لكن البابا إسحق كان أعلى وأسمى من هذه الأحاسيس والمشاعر البشرية، إذ كان يفوقهم جميعاً في علوّ روحانيته وثبات محبته فابتسم البابا في هدوء وسطع وجهه بالنعمة وقال في ثقة رجال الله ذوي البصيرة المستنيرة والذهن القادر على الإفراز والتفريق بين ما هو من الله وما هو من الشيطان، وردَّ قائلاً : أنا عارف أن ملاك الرب قد جاءني بهذا الحلم، وموقن بأنه أمر صادر من أبي القديس مرقس كاروز ديارنا المصرية الذي التمنني على رعاية أولاده! ولم يَسَعْ الأساقفة الثلاثة بإزاء هذه الثقة التامة، إلا أن يذهبوا على الفور إلى دار الكاتب أثناسيوس. 

وحين دخلوا إليه، وجدوه يذرف الدموع السخينة، لأن ابنه قد بلغ آخر مراحل الخطر. فأطلعوه على رسالة البابا إسحق ولم يكد يسمعها حتى نادى على زوجته وركع كلاهما أمام الأساقفة ضارعين إليهم أن يسرعوا في العودة إلى البابا الجليل ويستعطفوه من أجلهما. 

وعاد الأساقفة لساعتهم إلى الدار البابوية حيث قصُّوا على خليفة مار مرقس كل ما جرى. وما إن سمع كلماتهم، حتى خرج معهم قاصداً دار الكاتب أثناسيوس. ولما وصلها، دخل على الفور إلى حجرة الشاب المريض ووضع يده على رأسه، وأخذ يُصلّي في حرارة وقوة. ولم يكد ينتهي من صلاته ويقول: آمين، حتى قام الشاب من سريره ممتلئاً صحةً وحبوراً، وكأنه لم يمرض ساعة واحدة فأمر البابا إسحق أن يؤتى بالطعام له ذاك الذي كان مشرفاً على الموت. ومجد الجميع الله، وقد شاركه أبواه في تسبيح الله، كما رفع البابا الإسكندري والأساقفة صلاة شكر للآب السماوي على تحننه على خليقته. 

ومنذ تلك اللحظة أعلن الكاتب أثناسيوس ولاءه جهاراً للبابا إسحق، وظل طيلة حياته وفياً له وانتهز البابا هذه الفرصة السعيدة وأبدى رغبته أمام أثناسيوس في أن يرى كنيسة “الإيفانجيليون“ مبنية مرة أخرى كما كانت قبل دمارها فسارع أثناسيوس إلى تحقيق رغبة باباه المحبوب. وبنى الكنيسة من جديد وزينها بالرسوم الفنية البديعة. 

الرائحة الزكية لفضائل البابا تفوح في قصر الوالي:

وحدث أن دعا الوالي البابا إسحق ليقضي في قصره بضعة أيام فلى الدعوة. وفي ثاني يوم الضيافة قالت زوجة الوالي له بأن رائحة البخور تنبعث من الغرفة المخصصة للبابا الإسكندري. فأجابها بأن الرجل من أصفياء الله فلا غرابة في أن تُعبَّق الغرفة التي يأوي إليها برائحة البخور. وازداد تقدير الوالي للبابا إلى حد أن طلب منه أن يُشيد في حلوان عدداً من الأديرة والكنائس (كما تذكر ذلك مخطوطة قبطية محفوظة في باريس، ترجمها المستشرق الفرنسي آميلينو سنة ١٨۹۰، ص ٦١-٦٣). 

تشييد الأديرة والكنائس في حلوان 

وقد استجاب البابا إسحق وشعبه لهذا المطلب الصادر من الوالي وأخذوا يبذلون الجهد والمال وكل ما لديهم من فن ليجعلوا من كنائسهم وأديرتهم آيات فنية رائعة. 

رجوع البابا إلى الإسكندرية، ومرضه، ثم نياحته 

وبعد أن بدأ البابا في تكريس الكنائس والأديرة الجديدة، وشعر بفيض من الغبطة، ورفع التسبيح الله على نعمه؛ حتى بدأ يشعر بالمرض يدبُّ في جسده. فطلب من الوالي أن يعفيه من الاستمرار في البقاء في حلوان ليعود إلى الإسكندرية. فحزن الوالي لهذا النبأ وأمر بإعداد سفينة كاملة المعدات لتحمل البابا إلى عاصمة الكرازة المرقسية. فلما سمع الأساقفة والشعب بالأمر، أسرعوا إلى الإسكندرية يصحبهم عدد غير قليل من الرهبان قدموا من برية شيهيت. وأحاط به الجميع، حيث خدموه في ولاء وسكينة إلى أن أذن الرب بأن يُسلّم روحه في يدي الله. وكان ذلك في ٩ هاتور من عام ٦٨٤م، حيث قضى سنتين و ١١ شهراً على الكرسي المرقسي.

وقد سجل مترجم سيرته المستشرق آميلينو المشار إليه أعلاه هذه الكلمات في ختام السيرة: “والآن يرقد جسده في الأرض ، وتُقيم روحه في السماء“ .

فليمنحنا الله أن نجد رحمة أمامه في يوم الدين بصلوات هذا الأب المضيء الممتلئ محبة، وبصلوات جميع الآباء القديسين، امين 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى