التعليم عن الله
الله والكون
مقدمة
إن التساؤل الذي ينبغي طرحه هنا بشأن موضوع ” الله والكون”، هو متي بدأ البشر في الحديث عن الله، وكيف فكروا بدايةً في هذا الأمر؟ الإجابة على هذا التساؤل، تستدعي أن نعرض لثلاثة أسباب أساسية، هي من الأهمية بمكان لتقديم مثل هذه الإجابة:
1- السبب الأول : هو الإحتياج الديني
فهناك إحتياج تلقائي في طبيعة الإنسان ذاته أن يلجأ إلى كائن آخر يتجاوز وجوده وأسمى منه بكثير. وربما يرجع هذا الإحتياج إلى خوف الإنسان أمام قوي ،الطبيعة التي تمثل تهديد وخطر على حياته، ولذلك فهو يرغب في إستعطاف هذه القوى والتصالح معها، وأن يوقف هذا الخوف ويسيطر عليه. الطريقة التي تجعله قادر على أن يفعل هذا ، هو أن ينسب لهذه القوى العقل والمنطق، أي يعتبر أن لها وجود عاقل بحيث يمكن أن تستمع إليه، وتفهمه، وأن تتقبل عطاياه التي يقدمها بتضحيات كبيرة. وهكذا يرى الإنسان أن هناك قوة أسمي وأعظم منه بما لا يُقاس، هي التي ترسل الرعد والبرق، وتجعل البحر يضطرب، وتجعل الأرض تهتز بالزلازل، وتنمي الزروع، وتتحكم في الحياة بشكل عام ، هذه القوة هي التي يُسميها “الله”. إن ما تهدف إليه هذه الرؤية ، هو تأمين الإنسان في ضعفه، والتهدئة من روعه وخوفه وإزالة أسباب حيرته وقلقه.
2- السبب الثاني: هو البحث عن الحقيقة، والعطش إلى المعرفة
الإنسان في كل الحضارات الكبيرة التي عرفها التاريخ، كان يبحث عن الحقيقة، وقد وضع مجموعة من التساؤلات الفلسفية والمنطقية بشأن الحياة، والكون بكل ما فيه، وقد إنتهت جميعها إلى الحديث عن “الله”. المثال الواضح في هذه الحالة يظهر في موقف اليونانيين القدماء من “الله”، فنظرتهم إلى الله، جاءت كنتيجة منطقية لملاحظاتهم تجاه الكون، فقد لاحظوا إن كل ما هو موجود في الكون يتبع نظام منطقي مُتتابع، فلا يوجد شيء بالمصادفة. وهكذا قالوا إن هناك علة أولى آتت بالكون إلى الوجود ، وهذه العلة الأولى أو بداية العالم، تُسمى “الله”.
لكن ما هو جوهر هذه العلة الأولى؟ بالطبع هذا الأمر لا يمكن معرفته. لكن من الممكن إستنتاج بعض الخواص المؤكده، فالعلة الأولى لا تدين بوجودها إلى شيء سابق عليها، وبناء عليه فهي علة وجودها الذاتي وعلة وجود كل الموجودات. وطالما هي علة وجودها الذاتي فهي لا تعتمد في وجودها على أي شيء آخر، وتعتبر عظيمة وسامية بشكل مطلق، وحرة من كل تحديد وهذه هي الخواص التي تطلق على الخالق لكل شيء، وعلى هذا الأساس فإن هذا الخالق العظيم، يجب أن يكون غير زمني كلي القدرة، وغير محدود ، يجب أن يكون هو بداية الحركة (أي حركة الوجود)، وهذا يعني أنه يجب أن يكون غير خاضع للحركة، ومادام أنه لا يوجد من هو سابق عليه، لكي يجعله في حالة حركة ، فهو أيضا غير متغيّر. إذن فهو متحرر من الأهواء، وفي حالة طوباوية كاملة وتامة. كل هذه الإستنتاجات لا تجعل الله معروفا لدينا، فقط هي تُقر بوجوده، تماماً كما لو أننا تحدثنا عن العثور على منزل في عمق الصحراء، في هذه الحالة نحن ملزمين بأن نقبل بأن هناك شخص قد بني هذا المنزل، لأن المنازل لا تُزرع في الصحراء، ولا تُقام من تلقاء ذاتها، إلا أننا لا نعرف من هو الذي شيد هذا المنزل. لكن من خلال بعض سمات المبني، نستطيع أن نستنتج بعض صفات من قام بتشيده، مثل حسن الذوق الذكاء أو الفطنة في تطبيق كل ما من شأنه تحقيق الإنسجام بين أجزائه الخبرة التي تظهر في قوام المبني ومتانته. لكن يبقي شخص المشيد غير معروف لدينا، لم نعرفة ولم تقابلة بعد ، لكن المؤكد أنه موجود ، فقط هو لا يزال غير معروف.
3- السبب الثالث: هو في التوجه الإنساني نحو الله
وقد تجلّى هذا في العلاقة الخاصة للعبرانيين بالله، بإعتبارهم (شعب الله). فالعبرانيين قد بدأوا الحديث عن الله، من خلال حدث تاريخي محدد. حيث أعلن الله عن ذاته لشخص محدد وهو إبراهيم في مدينة الكلدانيين (وهي تقع في الجزء الأسفل لبلاد ما بين النهرين) ١٩٠٠ عام تقريبا قبل الميلاد.
فقد تقابل إبراهيم مع الله وجه لوجه ، ودعى الله إبراهيم أن يترك أرضه وعشيرته، ويذهب ليستقر في أرض كنعان، لأن هذه الأرض قد تعينت للشعب الذي سيأتي من نسله ، الأولاد الذين سيولدون من سارة تلك العاقر الغير قادرة على إنجاب أبناء.
معرفة الله الناتجه عن لقاء شخصي لإبراهيم مع الله، لا تخضع لإفتراضات نظرية، بل هي خبرة العلاقة الشخصية، ومثل كل علاقة شخصية حقيقية، تستند إلى الإيمان فقط، إلى الثقة التي تولد بين طرفين. والسبب في أن الله قد أظهر إلوهيته لإبراهيم، راجع في الحقيقة إلى إيمان إبراهيم وثقته في وعوده فقط. إبراهيم وثق في وعود الله، إلى الحد الذي فيه كان مستعدا لذبح ابنه وحيده الذي منحه إياه في شيخوخة سارة، والذي فيه ستتحقق وعود الله. هذه المعرفة ذاتها التي تجلّت من خلال خبرة العلاقة الشخصية معه، تحققت أيضاً في إسحق ويعقوب، أي في الإبن والحفيد هذه هي العائلة التي أتى منها شعب إسرائيل. فالله هنا ليس فكرة مجردة، ولا هو قوة هلامية، فعندما يتكلم العبرانيون عن الله، يقولون “إله أبائنا” هو “إله إبراهيم وإسحق ويعقوب”، هو شخص محدد قد عرفه أسلافهم وعاشروه معرفة الله هنا تستند إلى الإيمان، وإلى الثقة في إيمان وخبرات أسلافهم، وأيضًا إلى الثقة في صدق شهادتهم.
معنى الألوهه ومعنى الخلق
أولاً : معنى الألوهه
تتسم الألوهه في الفلسفة اليونانية القديمة بالثبات وعدم الحركة. ذلك لأن الحركة هى ملمح من الملامح المميزة للتحول والانتقال من وضع إلى وضع آخر. وبناء عليه فإن الحركة هي شيء يخص الكائنات غير الكاملة. أما الألوهه ككينونة واجبة الوجود بذاتها وتتصف بالكمال، لا ينبغى أن توصف بالحركة، لأن هذا الوصف ينفى عنها صفة الكمال، فالمعنى الحقيقى للألوهه ينحصر في الثبات وعدم الخضوع للحركة. لقد اعتبر أفلاطون أن الحركة ملمح مميز لعدم الكمال، بينما يرى أن عدم الحركة والثبات هما أمران مميزان للحقيقة والكمال. حيث إن الحركة عنده تمثل مسيرة نحو الوصول إلى الكمال، وبما أن الألوهه لا يمكن أن توصف بعدم الكمال، وبالطبع لا يمكن أن توصف بالتحول الذي تتصف به فقط الكائنات المحسوسة، فإن الحركة لا تتوافق مع معنى الألوهه الحقيقى، فالذي يناسب الألوهه هو فقط حالة الثبات.
وبحسب أرسطو، أيضًا هناك استحالة لوصف الألوهه بالحركة، لأن الحركة عنده تمثل تحوّل من كيان مادي قائم بالفعل إلى كيان آخر مختلف عنه ” هذه هي خاصية الكينونة المتحركة ” والتي يمكن أن تتحول من شئ لآخر، أى من وضعها الكائن إلى وضع آخر مختلف. ولذلك فإن الحركة هى ملمح مميز للأشياء المحسوسة المادية. أما الألوهه كعقل أو كفكر فليس لها وضع مادى، ليس فيها خاصية الكينونة المتحركة . ولهذا فإن الكائن، كما عند أفلاطون، هو غير المتحرك الذي يعيش بعيدا عن العالم بشكل مطلق، لا نهاية له.
الاستثناء من هذه الرؤية الفلسفية اليونانية القديمة، نجده عند الرواقيين الذين رأوا الكلمة كإله في صورة طاقة وقوة حركة تعمل فوق طبيعة المادة الساكنة غير المتحركة. وهذه الرؤية تبنتها الأفلاطونية الجديدة أيضاً.
يختلف الفكر الآبائى اختلافا جذريًا عن تلك الرؤية الفلسفية اليونانية القديمة عن الله. فالله عند الآباء ليس هو الإله غير المتحرك الذي لا يشارك العالم وجوده، ويعيش في حالة عزلة وتباعد عنه، لكنه الإله الذي يُعلن عن ذاته، ويظهر في الكون وفي أحداث التاريخ. فهو ليس الكائن اللاشخص وفقاً للفلسفة اليونانية القديمة، لكنه الكائن الشخص الذي يأتى في علاقة شخصية مع الإنسان والكون كله. فعندما ظهر الله لموسى لم يقل له أنا الجوهر، لكنه قال “أنا هو” أي الكائن بذاته كشخص. وكما يشرح الآباء، فإن الكائن كشخص لا يصير مفهومًا من خلال جوهره، ولكن الجوهر هو الذي يصبح مفهومًا من خلال استعلان الكائن الشخص.
هذه الشركة التي تربط بين الله والكون المخلوق، ليست محصوره في هذا الإطار فقط، لأنها قائمة أيضا داخل الثالوث ذاته، أى الشركة بين أقانيم الثالوث القدوس.
لقد كان الدافع لصياغة هذه التعاليم الآبائية، هو ظهور الهرطقة الآريوسية التي كانت تُشكل إعادة إحياء للفكر الفلسفي اليوناني القديم عن معنى الألوهه. حيث إن أريوس كان يرى أن الله بحسب جوهره هو في حالة ثبات، ووحدة مطلقة (أي لا وجود لأي ملمح من ملامح الشركة) بمعنى أن الله كان في حالة وحدة مطلقة قبل أن يقوم بخلق كائن أسماه الكلمة أو الحكمة أو الإبن. فالجوهر الإلهي بحسب آريوس عقيم، أي غير مثمر ولا يشارك العالم في شئ لأنه مجدب كنور لا يضئ، ومنبع جاف، وعليه فإن قبول الشركة والحركة الطبيعية في الله، يعنى بحسب آريوس إنتقاصا من الألوهه والكمال الذي يتصف به الله. وقد فنَّد الآباء هذه المزاعم، وأكدوا على أن الله يوجد في حالة حركة وشركة بالطبيعة، سواء داخل أقانيم الثالوث أى العلاقة الأزلية بين الأقانيم الثلاثة، أو من خلال علاقته التدبيرية بالكون.
وهذا يعني أن مفهوم الكمال ومفهوم الحركة داخل الثالوث مرتبطان فيما بينهما بشكل تام وكامل. وأن هذه الحركة تتجلي في المحبة المتبادلة فيما بينهم، وهى حركة إرادية حرة. ولهذا السبب تحديدا، فإن الله كما لاحظ ديونيسيوس الأريوباغي، يوصف أحيانًا بأنه محبة وأحيانًا بأنه مُحب هذه العلاقة الحية بين أقانيم الثالوث تشكل بحسب رأيه تعبيرًا عن شركة المحبة داخل الثالوث هذه الحركة تؤكد على الحرية الكيانية لله، التي تظهر داخل الثالوث” ، وهذا هو المعنى الحقيقي للألوهة.
معنى الخلق
بحسب التقليد الكتابى والآبائى الله خلق الكون من العدم. ” خلق الكون بكلمته فقط ” (مكابين ۲۸:٧).
ترفض التعاليم الفلسفية اليونانية القديمة هذا التعليم عن الخلق
تعرف الفلسفة اليونانية طريقين فقط عن الخلق:
١ – الطريق الأول الذي يتحدد من خلال اعطاء شكل وكيان لمادة كانت بلا شكل، كما يُنادي بهذا أفلاطون وأرسطو
۲ – الطريق الثانى هو الخلق من جوهر الله، أى أن الله أوجد هذا الكون من ذاته، كما يرى الرواقيون والأفلاطونية الجديدة.
وفي الحالتين يستحيل أن يتحقق الخلق، دون أن يوجد شئ سابق مثل المادة، أو جوهر الله. لا يوجد شئ في الفلسفة اليونانية يأتى من العدم ولا أن يذهب إلى العدم.
يؤكد التقليد الكتابى والآبائى على حقائق أخرى مضادة لهذه الرؤية تماماً. الله بحسب هذه التعاليم الكتابية والآبائية خلق الكون من العدم وبإرادته الحرة ” هكذا يقول الرب فاديك وجابلك من البطن. أنا الرب صانع كل شئ، ناشر السموات وحدى، باسط الأرض من مَعِي ” (إش ٢٤:٤٤). فالله ليس فقط هو الذي يُشكل المادة، التي لا شكل لها بحسب الفلسفة اليونانية، بل هو خالق جوهر المادة نفسها. وبعبارة أخرى المادة لم توجد مسبقا، لكنها خلقت من العدم كما خُلِقت كل الأنواع وكل الأشكال.
ولهذا فقد أكد الآباء على التمييز بين الله الكائن بذاته، والمخلوق الذي يستمد وجوده وحياته واستمرارية من الله . فالكون المخلوق ليس ذاتى الوجود، لكنه يعتمد في وجوده على أفعال الله التي تحفظ له وجوده. هذه الخليقة بحسب رؤية آباء الكنيسة، ليست نتيجة احتياج داخل الألوهه أو خارجها، لكنها خُلقت نتيجة إرادة الله الحرة التي أرادت للمخلوقات أن تُشاركه وجوده. لقد رأوا الخليقة كما يقول Florofsky معجزة الحرية الإلهية. فآباء الكنيسة وخاصةً القديس أثناسيوس رفضوا فكرة خلق العالم إرضاء لإحتياج إلهى داخلى. وأكدوا على أن الخلق قد تم بإرادة الله المطلقة وحريته المطلقة.
هكذا علّم القديس باسيليوس، بأن الكون لم يُخلق ذاتيًا أو بدون اختيار كما يأتي الظل من الجسد، والنور من مصدره، لكنه خلق من العدم، وبإرادة الله الحرة المطلقة.
والحقيقة أن الله لم يصر خالقًا عند ظهور الكون إلى الوجود، بل أنه خالق منذ الأزل، وينبغى التمييز، في ما يتعلق بالخلق بين أمرين:
1 – عمل الخالق الذي هو أزلى
2 – موضوع هذا العمل أو نتيجته، الأمر الذي يتم في حيز الزمان.
إن عبور الخليقة من العدم إلى الوجود، هو أمر سرى لا يمكن شرحه أو تفسيره ولكن هذه الخليقة استعلنت كحقيقة كائنة، قادرة أن تُعبّر عن وجودها بفاعلية وحيوية ، وهى تتجه في مسيرتها نحو الكمال، من خلال عمل الروح القدس.
فالعبور من العدم إلى الوجود يتم بإرادة الآب الأزلية، عن طريق عمل الابن المحيي، ومن خلال تتميم هذا العمل بالروح القدس للوصول إلى حالة الكمال.
هكذا نرى أن الخلق قد تم بالثالوث كفعل محبة وعطية حياة، بإرادة حرة ومطلقة. إذا فهناك اختلافا جذريًا بين نظرة الآباء ونظرة الفلاسفة تجاه هذا الموضوع (الله والكون). فوجود الله كموضوع فلسفي لا يندرج ضمن الموضوعات الخاصة بالتعاليم الأرثوذكسية. لقد أكد آباء الكنيسة على حقيقة الله الخالق وعلى حقيقة الكون المخلوق بإعتباره خليقة الله ضابط الكل. وهكذا نرى أن الآباء قد ميزوا بكل وضوح بين الله الكائن بذاته الذي يختلف اختلافا جوهريًا كخالق، وبين الكون المخلوق. بمعنى آخر هناك حقيقة واحدة مطلقة هى أن الله كائن بذاته. أما الكون فهو مخلوق من العدم، إذ هو يستمد كينونته وتطوره من الله وحده.
وعليه فالحديث عن الحقيقة المطلقة معناه الحديث عن الله الكائن بذاته، وهذا التمييز الواضح الذي علّم به آباء الكنيسة، بين الكائن بذاته، والكون المخلوق، يعتمد في الأساس على تعاليم الكتاب المقدس، والتي تشير إلى أن الله خالق وضابط الكل، وكل شئ في الخليقة يعتمد بشكل حتمى في وجوده على الله وعلى عمله الإرادي في الخليقة. بل ونستطيع أن نقول إن الله ليس فقط مجرد قوة تحكم الكون وتسود عليه – الأمر الذي نجده في أفكار ومعتقدات دينية وفلسفية كثيرة، بل إن الله هو مصدر الوجود، والحياة وكل تطور يحدث فيها، ومنه يستمد الكون وجوده. فالأمر إذن لا يتعلق بمجرد تبعية بسيطة بل بعلاقة بين الله والكون تستمد فيها الخليقة كل غناها وجمالها من الله الخالق، وهذا هو العنصر الأساسي في هذه العلاقة. وعليه فالإيمان كخبرة معاشة هو تعبير عن امتنان الإنسان لكل ما أعطاه الله له من خيرات وهذه هي قمة المعرفة الإختبارية. وحيث أن الكون غير كائن بذاته بل يعتمد في وجوده على الله، فإن الإيمان بهذه الحقيقة يمثل ضرورة واحتياج لدى الإنسان. وبمعنى آخر الإيمان كخبرة حيّة يعطى إمكانية للإنسان لأن يفهم أن هذا الكون يستمد وجوده من الله.
يستطيع الإنسان أن يتقابل مع الله الخالق، داخل إطار هذا الكون المخلوق، بالطبع هو لا يتقابل معه كما يتقابل مع الشاعر في كلمات شعره، او كما يتقابل مع الرسام في لوحاته بألوانها المختلفة وخطوطها المتنوعة، بل هو لقاء بالله الذي قال إن يشرق نور من ظلمة”. لكن لكي يصير الله معروفاً لنا بصورة حقيقية، لا يكفي فقط رؤيته في الكون المخلوق، بل ينبغي أيضًا أن “يشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح” (٢كو٤: ٦).
ولذلك فقد أكد الآباء على أن الهوة السحيقة التي كانت تفصل بين الله غير المدرك ، والكون المادي المخلوق، قد أزالها الله الكلمة بتجسده، وأصبح الله غير المرئي وغير المدرك، منظورًا في شخص يسوع المسيح الله لم يره أحد قط الإبن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبر” (يو ۱: ۱۸). وبهذا أصبح للخليقة إمكانية الإقتراب من الله غير المدرك، والتواصل معه في شخص إبنه. لقد أعلن لنا الله، عن مَن هو الله، أعلن عن ذاته بواسطة إنارة معرفته وهي ليست معرفة مجردة، بل هي علاقة حية بشخص حي ومحي، إنه يسوع المسيح، الذي “هو رب لمجد الله الآب” (في ١١:٢).
إن إسم يسوع هو الذي يُعلن عن شخص الله، فهو مجد الآب، وهو الذي يُنير هذه المعرفة في قلوبنا، وهذا الإعلان هو حدث قائم على علاقة شخصية، وتبني، ودعوة فحقيقة الكون بالنسبة للكنيسة، لا تنفصل عن معرفة الله، ومعرفة الله ليست منفصلة عن شخص المسيح، وشخص المسيح ليس منفصل عن إنارة معرفة مجد الله، هذا المجد هو الذي أنار حياتنا، وأعطانا إمكانية أن نكون أبناء حقيقيين .الله. لقد رأى آباء الكنيسة في الطبيعة بهيئتها المنظورة، أيقونة تعلن عن وجود الله داخلها بكل ما تحمله من بهاء وجمال، وحكمة. العالم المادي ذاته قائم بالطاقة غير المخلوقة لله ، إنها أفعال الله المانحة حياة للكون والحافظة لوجودة وإستمراره. نحن نعرف الله إذن بطريقة غير مباشرة عن طريق الكون المخلوق والتأمل في جماله ونظامه، وأيضا نعرف مدى الفروقات التي لا حدود لها بين الخالق والمخلوق. لكننا أيضًا نعرفة بشكل مباشر، عن طريق إعلان مجده في قلوبنا، لقد صيرنا “شركاء الطبيعة الإلهية” (٢بط٤:١).
الإعلان الإلهى
1- طبيعى من خلال الكون
2- سمائى (فوقاني)
الإعلان الإلهى بنوعيه يمثل حقيقة واحدة، إذ أن عملهما وهدفهما واحد بحسب التعاليم اللاهوتية الأرثوذكسية. ولذلك فأيا ما كان شكل الإعلان وأياً كانت مرحلته، سواء كان في العهد القديم أم في العهد الجديد، فهو في ذات الوقت إعلان طبيعى وفوقانى معا. وهكذا يستطيع المرء، في ضوء ما ذُكر من قبل فيما يختص بالعلاقة بين والكون، أن يتفهم معنى وأهمية الدلائل على وجود الله من خلال التعاليم العقيدية، وهذا ما تُعبر عنه تعاليم الكنيسة وكتابات الآباء، فهناك إشارات عديدة تتحدث عن “وجود الله” وإثبات ذلك يتم بواسطة الحديث عن الكون وعلّة وجوده. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي [نتعلم من خلال رؤيتنا للأشياء المخلوقة ونظام الطبيعة الفائق أن الله هو العلة الفاعلة لكل شئ، وأنه هو علة ذاته. فكيف كان لهذا الكون أن يوجد ويُحفظ لو لم يمده الله بالكينونة ويتعهده بالحفظ]. غير أن هذه الإثباتات على وجود الله، من خلال الحديث عن الكون وسبب وجوده، لا يمكن أن نعزلها عن محتوى التعليم العقيدى للكنيسة، كما أنه لا يمكن الحديث عن هذه الإثباتات بمعزل عن إعلانات الله، فهي ترتبط ارتباطاً وثيقا بالإعلان الإلهى والمعرفة الإلهية، وهذا الارتباط سببه الوحدة القوية بين الإعلان الطبيعى (أى من خلال الطبيعة والكون) والإعلان الإلهى السمائي (الفوقانى). غير أن البعض لا يقبل بالوحدة بين الإعلان الطبيعي والإعلان السمائى الفوقاني، بل يرى أن هناك فصلاً بين الإعلانين وأن كل إعلان له حدوده الخاصة به وهذا راجع بطبيعة الحال إلى أن الحجج التي يستخدمونها ، تُعد حججًا فلسفية أكثر منها لاهوتية، ولا تدخل في إطار التعاليم العقيدية الأرثوذكسية. فهم يبحثون عن تفسير لمعنى الكون من خلال الكون ذاته أو حسب المعنى الذي يعتقدونه، أو الطريقة التي يفكرون بها تجاه الكون هذا المنهج يأتي في اتجاه مضاد للرؤية اللاهوتية الأرثوذكسية التي تؤكد على وحدة الإعلان الطبيعى والفوقانى. فالآباء يتحدثون عن السبب والهدف الذي من أجله خُلق الكون. ولذلك فقد رفض آباء الكنيسة فكرة أن الكون قد وُجد من ذاته، أو أن المادة أزليّة. وأكدوا على أن الكون بكل مراحله قد خلقه الله بإرادته الحرة، وأن قوانين الطبيعة لم توجد قبل المكان والزمان. فبداية الخليقة لا يمكن أن تفهم داخل إطار الزمن، لأن هذه البداية كانت أول لحظة للزمن، وعبارة سفر التكوين ” في البدء خلق الله السموات والأرض” توضح بحسب رؤية القديس باسيليوس – أن الكون بدأ في الوجود من اللازمن ، عندما أراد الله “.
إذن فالخليقة هي التي تشهد عن وجود الله. وكما يقول القديس باسيليوس أيضًا [ إن الله كصالح خلق كل شئ نافع، وكحكيم خلق كل شئ حسن، وكقادر وقوى خلق كل شئ مهيب وعظيم]. فلا يوجد شئ في الكون خارج العناية الإلهية وهذه العناية الإلهية هي التي تقود كل الأشياء نحو كمالها. ولذلك فقد أكد آباء الكنيسة على أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين :
+ الحديث عن الكون
+ الحديث عن الإنسان
+ معرفة الله
فالظواهر الطبيعية والأمور المحسوسة، تقود الإنسان للتأمل في الأمور غير المرئية، فالعالم هو المكان الذي فيه يكتمل الإنسان، وفي نفس الوقت يكتسب قيمته من خلال الإنسان الذي يعيش فيه. ولذلك فهدف خلق العالم يُفسر من خلال الإنسان والإنسان ينظر إلى هذا العالم بإعتباره مرحلة انتقالية، لأن هدف الإنسان هو ملكوت الله. فهذا العالم الذي استُعلن فيه الله من خلال الأفعال الإلهية، يتسم بأن له عمق أخروى (امتداد أخروى) وهو بهذا التكوين البديع يسهم في معرفتنا بالله. لكن هذا الكون لا يُعلن عن جوهر الله، كما أن البيت لا يُعلن عن جوهر مُشيّدة. فالإنسان يستطيع فقط رؤية الخليقة بنور الإعلان الإلهى، وهكذا يُمَّجد الله كخالق حكيم. ومن ناحية أخرى فإن نسبية هذا العالم وعدم ثباته ، يقودان الإنسان نحو طلب ملكوت الله الأبدى، فقيمة هذا العالم ليست في بدايته لكن في نهايته. الهدف النهائى للخليقة، هو عودة كل الأشياء إلى الله، فكل شئ يتحرك نحو الله. ولذلك فإن الحديث عن الكون وعن الإنسان لا يُفهم بدون معرفة الله. فالآباء لا يعلمون عن خلق العالم دون أن يعلموا عن الإنسان وعن معرفة الله فالكون ليس هو فقط مكان يعيش فيه الإنسان، لكنه أيضًا مجالاً يتيح للإنسان فرصة لإقتناء المعرفة الإلهية “. هذه المعرفة هى أيضًا تعبير عن محبة الإنسان تجاه خالقه وتمجيد الله من أجل هذه الحكمة الإلهية الواضحة في خلق هذا الكون. إذن فالله علة هو وجود الخليقة، وهذه الخليقة لا تستطيع أن تكون أبدية بطبيعتها. لأن الخليقة بعد السقوط تئن ،وتتمخض ، والإنسان أيضًا يئن ويتمخض معها ” . ولذلك فهناك رغبة مستمرة ورجاء لا ينقطع للعودة إلى مانح الحياة. يقول القديس باسيليوس عندما نلقى بكُرَةً في موضع منحدر، فإنها بسبب استدارتها وميل الأرض تحتها ، لا تتوقف عن الحركة إلى أن تصل إلى موضع مستوى، هكذا وبنفس الطريقة فإن طبيعة الكائنات التي أخذت حركتها من الله الخالق، تمر بعدة مراحل، الولادة، والنمو، والفناء، وتعاقب الأجيال حتى نهاية العالم فالكون إذن أصبح مجالاً لاستعلان الله، فهذا النظام والتوافق والتناغم في حركة الكون، هو الذي يجعل الإنسان يُفكر في الله الخالق ضابط الكل، ويجعله قادرًا على رؤية الله من خلال أعماله ويستدل على وجوده من خلال خليقته هذا الإعلان الطبيعى هو عطية من الله قد منحها للإنسان لكي يتمكن من معرفته. وفي نفس الوقت، صار هناك دافع داخل الإنسان نفسه للتوجه نحو خالقه والتطلع نحو ملكوت الله الأبدى مدفوعا بتلك الامكانيات التي أعطاها الله له، والتي تُميّزه عن باقي الكائنات.