لمحات تاريخية عن عقيدة الروح القدس 

لقد تعرض أقنوم الروح القدس لتحفظات كثيرة وهجوم حاد من جانب الهراطقة منذ القرون الأولى للمسيحية الأمر الذي تصدى له آباء الكنيسة الكبار مثل العلامة ديديموس الضرير ، والقديس أثناسيوس الرسولى، والقديس باسيليوس الكبير أسقف قيصرية، والقديس غريغوريوس اللاهوتى والقديس أمبروسيوس أسقف ميلان وغيرهم. لأن الكنيسة كائنة بالروح وتعمل بالروح، وكانت منقادة بالروح القدس وهي تُعلن قانون إيمانها في مجمع نيقية سنة ٣٢٥م. 

بعد ٣٥ عام من هذا التاريخ أي عام ٣٦٠ تقريبًا أرسل القديس سرابيون أسقف تمويس (Thumus) برسالة إلى القديس أثناسيوس يُخبره فيها، بأن هناك مجموعة من المسيحيين في مصر لا يؤمنون بألوهية الروح القدس، رغم انهم يعترفون بألوهية الابن، وقد رد القديس أثناسيوس على رسالة القديس سرابيون، بأربع رسائل ، دَعَى فيها هؤلاء الأشخاص بالـ (تروبيك) أى المحرفون. 

بدعة التروبيكيين 

هؤلاء كانوا ضمن الجماعة التي حاربت قانون الإيمان النيقاوى فيما يختص بألوهية الابن ثم انفصلوا عنها سنة ٣٨٥م منكرين ألوهية الروح القدس . يقولون إن الروح القدس ليس إلها كالآب والابن وليس من جوهرهما وليس من طبيعتهما وليس شبيها بالابن، ولكنه مخلوق من العدم وأنه ملاك، وإن كان أعلى من بقية الملائكة في الرتبة، ويحسبونه ضمن الأرواح الخادمة (عب ١٤:١). 

وقد قضى القديس أثناسيوس على أفكارهم هذه في مجمع مكاني، عُقد في الأسكندرية سنة ٣٦٢ وتمت إدانة تعاليمهم. 

الملاحظ هنا أن حجج الهراطقة في أي زمان ومكان تعتمد على الاستشهاد ببعض آيات الكتاب المقدس – بعد تفسيرها تفسيرًا خاطئًا. منفصلا عن السياق العام والشامل لنصوص الكتاب، لتدعيم رؤيتهم. 

والهرطقة تُحدث أثرها ويمتد تأثيرها على قدر ما تمثله من قناعات عقلية يقبلها المتلقى. فهم يتمسكون بالمعني الحرفي لبعض الآيات، تاركين آيات أخرى كثيرة تقول عكس ما يرتأونه ، على سبيل المثال عندما يستشهد الهراطقة بما قاله عاموس النبي “هوذا الذي صنع الجبال وخلق الروح وأخبر الإنسان ما هو فكره ” فهم يعتبرون أن الروح مخلوق بحسب نص الآية. 

بدعة المقدونيين 

في أواخر القرن الرابع ظهرت مجموعة تُسمى بمحاربي الروح وهذه الهرطقة عُرفت بالهرطقة المقدونية نسبة إلى مقدونيوس رئيس أساقفة القسطنطينية. وكان الآريوسيون هم الذين رفعوه إلى كرسى القسطنطينية، ولأنه كان ينكر ألوهية الروح القدس، فقد ظنوا أنه يتبنى رؤيتهم، لكن سرعان ما هاجموه لأنه كان لا يحتمل إنكار ألوهية الابن. وقد رد القديس باسيليوس الكبير على المقدونيين في كتابه عن ” الروح القدس ” الذي كتبه سنة ٣٧٥م واستند فيه إلى كثير من حجج القديس أثناسيوس في رسائله إلى سرابيون عن الروح القدس وأيضًا إلى تقليد الكنيسة وإيمانها الذي تمارسه بلا انقطاع منذ عهد الرسل. هؤلاء رفضوا الاعتراف بألوهية الروح القدس، واعتقدوا أنه مشابه للآب والابن ولكن ليس من جوهرهما، وأنه أدنى من الآب والابن في الكرامة. ويستند المقدونيون في هرطقتهم على عبارة المعمودية التي جاء فيها ترتيب الروح القدس بعد الآب والابن، وأنه ليس عاملاً مع الله، وأنه لا يخلق ولا يُعطى حياة والروح حسب تعاليمهم هو مثل الملائكة خادم الله وأداة، ومع ذلك فلا يعتبر ملاكاً ولا أحد المخلوقات. وهو ليس غير مشابه للآب والابن فهو إلهى، لكنه ليس إلها، وهو مبتدئ ولكنه ليس مخلوقاً ، وهو فرد متميز وله ( طبيعة متوسطة). 

والمقارنة بين تعليم “التروبيكيين” وبين تعليم “محاربي الروح” تكشف عن أن هناك جوانب تشابه وجوانب اختلاف:

1 – فالمقدونيون لا يعتبرون الروح ملاكا ولا أحد المخلوقات، اما تعليم التروبيكيين، فيؤكد على أن الروح مخلوق، يختلف عن الملائكة في الدرجة فقط. 

2 – يذكر القديس أثناسيوس أن التروبيكيين يستشهدون بثلاث آيات فقط، أما المقدونيين يستندون في تفسيراتهم عن الروح القدس إلى كثير من آيات الكتاب المقدس، ويشرحونها بطريقتهم. 

ويلاحظ أن الهراطقة أغفلوا عنصر الزمن في الاعلان الإلهي. فالعهد القديم أعلن ألوهية الآب وأشار إلى الابن والعهد الجديد أعلن ألوهية الابن وأشار إلى ألوهية الروح القدس، والآن الروح القدس يعمل في الكنيسة وأعماله الإلهية تشهد لألوهيته. 

إن تعليم القديس أثناسيوس عن الروح القدس مرتبط ارتباطاً وثيقاً جدا بالتعليم عن الابن، ويتضح هذا من إشاراته إلى الروح في مقالاته الثلاث ضد الأريوسيين وهى:

+ الروح القدس مُرسل ومُعطى بواسطة الابن كخاصته. 

+ المساواة بين الروح والابن في الجوهر.

+ “الروح لا يتكلم من نفسه” بل اللوغوس هو الذي يعطى هذا الروح للمستحقين. 

+ ليس في وسع أحد آخر أن يوحد الإنسان بالروح القدس سوى الكلمة صورة الله.  

+ الله حال فينا بسكنى الروح القدس.

وقد أوضح القديس أثناسيوس هذه العلاقة بين الروح والابن في رسالته الأولى إلى القديس سرابيون، إذ يقول: [حيث أن الآب نور والابن هو شعاعه .. فيمكننا أن نرى في الابن “الروح” الذي بواسطته نستنير]. 

ويقول أيضًا [ إن كنا بالاشتراك في الروح نصير شركاء الطبيعة الإلهية فإنه يكون من الجنون أن نقول إن الروح من طبيعة المخلوقات وليس من طبيعة الله. وعلى هذا الأساس فإن الذين هم فيه، يتألهون وإن كان هو يؤله البشر، فلا ينبغى أن يُشك في أن طبيعته هي طبيعة إلهية]

ثم يوضح الوحدة الثالوثية التي للروح مع الآب والابن، ليؤكد على ألوهية الروح النابعة من وحدة الجوهر بين أقانيم الثالوث قائلا : [لماذا يقولون عن الروح الذي له نفس الوحدة مع الابن – وهى نفس الوحدة التي للابن مع الآب – أنه أحد المخلوقات؟ إنهم لم يدركوا كما أنه لا يجوز الفصل بين الابن والآب، محافظين على الإيمان الصحيح بإله واحد ، هكذا أيضًا فإنهم إذ يفصلون الروح عن الكلمة، لا يحتفظون بعد بالإيمان بألوهية واحدة في الثالوث. لأنهم يمزقون الألوهه ويخلطون معها طبيعة غريبة ومن نوع مغاير ويضعونها على نفس المستوى مع المخلوقات. وهذا يعنى أن الثالوث ليس واحدًا، ولكنه مركب من طبيعتين مختلفتين بسبب أنهم يتوهمون أن الروح من طبيعة مختلفة]. 

ويؤكد على ألوهية الروح القدس، وهو بصدد الرد على الآريوسيين فيقول: [ كما أن الابن هو في الآب والآب فيه. وأنه من جوهر الآب. كذلك فإن الروح القدس هو في الابن والابن فيه. ولذلك لا يمكن أن يُقال إن الروح القدس مخلوق أو يوجد منفصلاً عن الكلمة]. 

أيضًا يُعلّم القديس أثناسيوس بإن خصوصية الروح نحو الابن، هي مثل خصوصية الابن نحو الآب. وكما يقول الابن ” وكل ما للآب هو لي” هكذا فإننا سنجد أن كل الأشياء، هي في الروح أيضا بواسطة الابن، ولذلك [ إن كان الابن بسبب خصوصيته مع الآب وبسبب أنه المولود الذاتى لجوهر الآب لا يكون مخلوقا بل من نفس جوهر الآب. فبالمثل فإن الروح القدس لا يمكن أن يكون مخلوقا بل أن من يقول هذا يعتبر كافر، وذلك بسبب خصوصيته مع الابن الذي بواسطته، يُعطى لجميع البشر ، ولأن كل ما له فهو للابن]. 

وإن كان تعليم القديس أثناسيوس عن الروح القدس قد ارتبط ارتباطًا وثيقا بالتعليم عن الابن، فقد جاء القديس كيرلس الأسكندرى ليؤكد على هذه الوحدة بين الابن والروح القدس. إذ :يقول : [ كما أن الابن صدر من الآب بطريقة تعلو على الفهم ومع فهو (الابن) باق فيه. هكذا الروح القدس أيضًا. فهو ينبثق (يصدر) بالحقيقة من الله كما هو بالطبيعة، ومع ذلك فهو لا ينفصل عن جوهره بل بالحرى ينبثق منه ويظل باقيًا أبديًا فيه، ويُعطى للقديسين بالمسيح، لأن كل الأشياء تأتى بالابن بواسطة الروح القدس]. وأيضا يقول : [الروح يُسمى روح الابن لأن روحه ليس شيئًا مختلفا عن الابن من حيث الطبيعة الإلهية بل هو من نفس الطبيعة]. وعندما يؤكد على أنه من نفس جوهر الآب والابن يقول: [الروح له نفس الجوهر الذي للآب والابن ولكن بطريقة تميزه، يُفهم أنه قائم في كيانه الخاص وأقنوميته، لأن الروح ليس ابنا بل له وجود وأقنومية باعتباره “ذلك الذي هو كائن” لأنه روح الآب والابن]. ويضيف قائلاً : [ إذ يسكن الروح فينا ، فإننا نصير هياكل لله، فكيف لا يكون الروح القدس من الله أى من جوهره، بينما هو الذي يجعل الله يسكن فينا بواسطة نفسه]. هذا أيضًا ما يؤكده القديس باسيليوس قائلا : [إن الله يسكن فينا وذلك لأن روح الله يخلق في كياننا حياة الله، أى سكنى الحياة الأبدية]. 

القديس باسيليوس في مواجهة الأفنوميين ومحاربي الروح 

حاول الأفنوميون – وهم بصدد تحديد ماهية المخلوقات بحسب جوهرها أن يُصنفوا الجوهر الإلهي – وتوصلوا لنتيجة مفادها أن جوهر الله هو الجوهر الأسمى والأزلي قبل الأشياء، والذي يحمل صفة عدم الولادة. وهذه الصفة لا تؤخذ باعتبارها خاصية عادية، بل باعتبارها خاصية أساسية وجوهرية في وصف الله الآب. أما الابن فهو من جوهر مختلف أقل من جوهر الآب، وإن كان جوهر الابن قد أخذ وجوده من جوهر الآب. وبطريقة مماثلة قالوا إن جوهر الروح مختلف عن جوهر الآب وعن جوهر الابن. إلا أنه أتى من طاقة الابن كأول وأعظم مخلوقاته[1].

وبهذا المعنى فإن الروح – كما يرى هؤلاء – لا يدخل في مجال الولادة غير الزمنية من الآب، بل ولا حتى في مجال الميلاد الزمني، بل هو مخلوق[2]. وقد تصدى القديس باسيليوس لهذه التعاليم المنحرفة، موضحا أن الموجودات مقسمة بشكل أساسي إلى قسمين: التي تُقدس والتي تتقدس، وبما أن الروح يُقدس كل الأشياء، كما يُشير هو إلى ذلك بقوله [ القداسة تملأ طبيعته، ولهذا السبب ذاته لا يوصف بأنه يتقدس بل بالحري يُقدس][3]، إذن فهو ليس بمخلوق. ويُشير أيضًا إلى أن شهادة النصوص الكتابية تؤكد على أن الروح القدس أسمى من الخليقة. وطالما أنه يُحصى أو يُعد مع الآب والابن إذن فله نفس الجوهر الذي لهما، وبناء على ذلك فهو غير مخلوق[4]. وفي ضوء هذه الرؤية اللاهوتية ، فإن فكر أفنوميوس الذي يقول بأن الروح القدس مخلوق، يُشكل بحسب القديس باسيليوس لغوًا خادعًا، وتزييفا مخالفًا للعقل[5]. ولكي يُبيّن القديس باسيليوس هذا الملمح السفسطائى لأفنوميوس، أورد مثالين يترتب عليهما نتائج غير معقولة: 

الأول: هو أن تقول إن الشمس غير موجودة، لأننا لا نعرف جوهرها ويستحيل علينا أن نضعها في عداد الأجسام البسيطة أو ضمن الأجسام المركبة. 

الثاني: أننا لا نرى، لأننا لا نعرف الأسلوب الدقيق للرؤية[6]

هذا التعليم الغريب والبعيد كل البعد عن الحقيقة، ويُرجعه القديس باسيليوس إلى أن أفنوميوس يؤمن بشكل مغالي فيه بقدرات الذهن الإنساني التي تمكنه أن يجد حلاً الموضوع ماهية الروح القدس. وهو الأمر الذي يُعارضه القديس باسيليوس بشدة، لأنه يرى حدودًا لقدرات الذهن الإنساني في المعرفة، وهذه هى الفلسفة التي بنى عليها تعليمه باستحالة معرفة طريقة وأسلوب وجود الروح القدس وكينونته. وطالما أننا لا نستطيع أن نعرف كل شئ عن الكائنات المخلوقة، فكيف ندعي معرفتنا بماهية الروح القدس غير المخلوق[7]، أليس هذا شيئًا يدعو للغرابة؟ 

وبعد عشرة سنوات من هذه المواجهات حملت الظروف القديس باسيليوس على مواجهة أخرى لم تقتصر فقط على أفنوميوس والأفنوميين، بل شملت أيضًا الذين نادوا بالتشابه بين الآب والابن، هؤلاء برغم تراجعهم الواضح عن الرؤية الآريوسية بشأن الابن إلا أنهم لم يتراجعوا قط عن رؤيتهم المنحرفة بشأن الروح ، وهناك عناصر متعددة تحدد رؤيتهم بشأن عدم إعترافهم بألوهية الروح القدس، منها عدم وجود إشارة قاطعة عن ألوهية الروح القدس في الكتاب المقدس ، ثم نظرتهم الخاصة بسمو الله المطلق والتي تستبعد أى حضور له في العالم، إذ هو خارج العالم، بالإضافة إلى ذلك، يقولون إن التعليم اللأهوتي الذي يُقر بألوهية الروح، سيقود حتماً إلى الإعتراف يوجود ثلاثة آلهة. ومع هذا فقد حاولوا أن يجدوا حلاً وسطاً في ردودهم على إعتراضات الآباء، فقالوا إن للروح مكانة بين الله والمخلوقات، كأنه شبه إله ٢٨. وبناءً على ذلك فإن الروح القدس بحسب رؤيتهم ليس عبداً مثل المخلوقات، ولا هو سيدا مثل الله،   هو شئ ثالث، فلا هو عبدا ولا هو سيدا، هو فقط حر .

القديس باسيليوس في كتابه عن الروح القدس” قد أجاب بصفة خاصة على الإدعاءات الأخيرة. وكان الدافع في الرد عليهم، هو طلب تلميذه وصديقه إمفلوخيوس أسقف إيكونية لبعض الإيضاحات بشأن الجدل الذي أُثير حول ألوهية الروح القدس، وبشأن التمجيد الذي أضافه القديس باسيليوس ولم يكن موجوداً من قبل. 

وفي محاولاته التي كانت ترمي إلى التصالح والتآلف بين المجموعات الكنسية المنقسمة، جعل الاعتراف بأن الروح القدس ليس مخلوقا بمثابة مصطلح لتحقيق الوحدة وهذا الإدلاء بالرأى على نحو سلبي أي في قوله “ليس مخلوقاً”، في موضوع هام مثل هذا، يكشف عن طبيعة حذره، كما لاحظ القديس غريغوريوس اللاهوتي”. وفي هذا لم يُعلن القديس باسيليوس الحقيقة بوضوح، وبالطبع فإن صديقه القديس غريغوريوس اللاهوتي كان يعرف أن موقفه هذا ناتج عن رؤيته التدبيرية للأمور. وأخذ يُبرر هذه المواقف، وصرح بأن هناك بعض الناس الذين طلبوا من القديس باسيليوس، أن يتكلم عن الروح القدس بشكل واضح ومجرد، وأن يُبيِّن هل هو واحد مع الآب في الجوهر أم لا ، وذلك حتى يجدوا سببًا لمحاكمته ويحتلوا كرسيه. هؤلاء هم المنادون بالتشابه بين الآب والابن ولهذا السبب استخدم القديس باسيليوس مصطلحات مختلفة. ومن جانبه فقد أكد القديس غريغوريوس اللاهوتي، على أن القديس باسيليوس قد أقر بأن الروح واحد مع الآب في الجوهر ومساوى له في الكرامة لكنه بسبب الأحوال المضطربة، سمح لنفسه تدبيريًا أن يتجنب إستخدام عبارة واحد مع الآب والابن في الجوهر.

لكن الكثيرين حتى من بين رهبانه في قيصرية، اعترضوا على هذا النهج الذي اتخذه القديس باسيليوس، بل ووصلوا إلى حد مقاومة آرائه. في هذه الأثناء تدخل القديس أثناسيوس لتهدئة الموقف ونصحهم بأن يخضعوا لأسقفهم كأب لهم، لأنه يعرف كيف يعمل لأجل الضعفاء. وأنه يجب عليهم أن يمجدوا الله لأنه أعطى لهم مثل هذا الأسقف، فهو مثله مثل كل مستقيمي الرأى، يسعى نحو اعلان الحقيقة. 

الإعتراض الثاني جاء على التمجيد الذي استخدمه للثالوث. فأثناء الليتورجية الإحتفالية الخاصة بالإحتفال بالقديس آفيبسيخيوس في ٧ سبتمبر سنة ٣٧٤م ، مجد الثالوث بطريقتين، مرة “المجد للآب والابن مع الروح القدس”، ومرة أخرى “المجد للآب بالابن في الروح القدس” وهذا ما ذكره القديس باسيليوس نفسه في الفصل الأول من كتابه “الروح القدس” ردًا على صديقه إمفلوخيوس، قائلاً إن بعض الحاضرين هاجموني واحتجوا بأنني إبتدعت شيئًا غير معروف بل واستخدمت كلمات متناقضة في موضوع واحد وبهذه المناسبة جاءت إجابته على استفسارات صديقه أمفلوخيوس واحدة من أفضل النصوص العقائدية في الكتابات المسيحية عن “الروح القدس” وقد إتهمه الهراطقة بأنه مبتدع لأنه أقر بألوهية الروح القدس وأدخل صيغة تمجيد جديدة لم تكن معروفة من قبل. إلا أنه رفض هذا الإتهام، وأعلن بأنه قد إستقى تعاليمه العقائدية من التسليم الآبائي ومن إختبارات الكنيسة الحية. وقال بأن التعليم الخاص بألوهية الروح القدس موجود في الكتاب المقدس وفي تعاليم الآباء، حيث يظهر بشكل واضح وقاطع أن الروح واحد مع الآب والابن في الجوهر. 

فالمعمودية في العهد الجديد تتم باسم الثالوث ، ويظهر فيها بوضوح أن الروح القدس إله، إذ يوضع مع الآب والابن. وهذا ما سبق وأكد عليه القديس إيريناؤس أيضًا بقوله : [ إن المعمودية التي هي ميلادنا الثاني تتم باسم الثالوث وهى التي تضمن لنا الميلاد الثاني من الآب بابنه في الروح القدس]. في هذا السياق أيضاً يقول القديس أثناسيوس: [ كما أن الإيمان بالثالوث، يجعلنا متحدين بالله، هكذا فإن من يستبعد أى واحد من الثالوث ويعتمد باسم الآب وحده، أو باسم الابن وحده ، أو باسم الآب والابن بدون الروح القدس، لا ينال شيئًا ]. 

ويؤكد القديس إيريناؤس على أن [ الذين يعتمدون ينالون روح الله الذي يقودهم للكلمة ، أى نحو الابن، بينما الابن يأتي بهم إلى الآب الذي يمنحهم عدم الفساد. إذن فبدون الروح لا يمكن أن يرى هؤلاء كلمة الله وبدون الابن لا يمكن لأحد أن يصل إلى الآب، لأننا ننقاد إلى الآب من خلال معرفة الابن، بينما معرفة ابن الله الكلمة تصير بواسطة الروح القدس]. 

أيضًا هناك أسماء تشهد على الوحدة في الجوهر مع الله مثل معرفة أعماق الله المعزي روح المسيح (مت ۲۸:۱۲)، الروح المستقيم (مزه :۱۰)، روح رئاسة (مز ۱۲:۵۱)، روح الحق الذي من عند الآب يننبثق (يو ١٥ : ٢٦ ) . أما اسمه الخاص ولقبه المعروف فهو “الروح القدس” وهو اسم لا يدل مطلقًا على أنه محسوس، بل هو روح محض بسيط، هكذا يقول القديس باسيليوس، ويضيف بأنه عندما أراد الآب أن يُعلّم المرأة التي اعتقدت بأن الله محصور في مكان ينبغي عبادته فيه قال إن الله منزه عن الجسد ولا يمكن حصره في مكان فإن “الله روح” (يو ٤: ٢٤) ، ولم يكتف القديس باسيليوس، بالإشارة إلى نصوص الكتاب المقدس، والتي كان الهراطقة أيضاً يستخدمونها في هجومهم عليه، بل أشار أيضًا إلى التسليم الآبائي، لأنه يرى أن هذا التسليم له نفس المكانة مع الكتاب المقدس، لأنه يتبع خطاه، ويُعلن بقوة عن ألوهية الروح القدس. وكشهود لهذا التسليم يذكر أسماء الكثيرين من الآباء الذين أكدوا على ألوهية الروح القدس، وأنه واحد في الجوهر مع الآب والابن منهم القديس إيريناؤس (٢٠٠م) والقديس كليمنضس الروماني (۱۰۰م) والقديس ديونيسيوس الروماني (٢٦٢م) والقديس ديونيسيوس الأسكندري. أيضا في كتابه السادس لشرح إنجيل يوحنا يقول العلامة أوريجانوس [ إننا نقدم السجود للروح القدس بكل وضوح، إن الغسل بالماء هو إشارة إلى تطهير النفس من كل أدناس الشر، لكن ما هو أهم من ذلك كله هو حضور الثالوث نفسه أثناء إستدعاء أسماء الأقانيم.. ][8]. ولهذا يقول القديس باسيليوس: [إنني أعتقد أن التمسك بالتسليم غير المكتوب هو عادة رسولية ” أمدحكم لأنكم تذكرونني في كل أمر وتحافظون على التسليم الذي سلمتكم إياها” (كو۲:۱۱)]، وأيضًا [ تمسكوا بالتسليم الذي تعلمتموه سواء شفاهاً أو مكتوبًا ] (۲تس ٢: ١٥). والتسليم المكتوب وغير المكتوب لهما نفس القوة من حيث الإيمان. ويضيف بأننا لو شرعنا أن نترك كل تسليم غير مكتوب، وتصورنا أنه ليس له قيمة، دون أن نفهمه، فإننا بذلك تُسبب ضرراً بالغا للكرازة، وربما ستتحول إلى كلمة بدون معنى. ويُعطي مثالاً على التسليم غير المكتوب بالآتي: إتجاه المؤمنين إلى الشرق وقت الصلاة، تقديس ماء المعمودية وزيت الميرون التغطيس ثلاث مرات في الماء، كلمات الصلاة التي تقال في تقديس الخبز والخمر.

من أجل هذا يقول القديس باسيليوس [إن الفرق بين المؤمنين والهراطقة، هو أن الهراطقة يطلبون البراهين من الكتاب المقدس ويرفضون تسليم الآباء غير المكتوب]. وتسليم الآباء غير المكتوب هو ما تمارسه الكنيسة ، وهو غير مدون في أسفار الكتاب المقدس، ويسميه القديس باسيليوس “ترتيب الكنيسة”. وكلمة ترتيب تعني الحياة الكنسية بمجملها. ولذلك فإن المصدر الذي يستقي منه تعاليمه للتأكيد على ألوهية الروح القدس، لا ينحصر في اتجاه واحد ، فهو لا يعتمد على الكتاب فقط، ولا على التسليم وحده، لكنه يستند إلى كلاهما في دحض الآراء الهرطوقية بشأن ألوهية الروح القدس. إنه يرى [أن الروح يُكمل كل شئ، ولا ينقص شيء، ولا يحتاج إلى تجديد حياة، فهو ينبوع الحياة. لا ينمو ولا يُضاف إليه، بل هو دائما ملآن، كائن في كل مكان، ينبوع التقديس، ونور لا يدركه العقل، يُعطى من لدنه الإستنارة لكل قوة عقلية تطلب الحق]. ثم يقدم تحديدا لسمو طبيعة الروح، ويرجع ذلك السمو ا لا لكونه يحمل نفس الصفات الإلهية التي للآب والابن ولا لكونه يعمل نفس الأعمال، بل لأنه مثل الآب والابن لا يمكن إدراكه بالعقل. وهذا يتضح من قول الابن للآب ” أيها الآب العالم لم يعرفك ” (يو ٢٥:١٧)، وهذا أيضا قيل عن الروح القدس ” روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه ” (يو ١٧:١٤). 

أما البرهان الأعظم على وحدة الروح مع الآب والابن كما يقول، فهو الوصف الذي ذكره الرسول بولس من حيث علاقة الروح بالله، فهو على مثال علاقة أرواحنا بنا “من من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه. هكذا أيضا أمور الله لا يعرفها إلا روح الله” (اکو ۲ :۱۱)، ثم يعلق القديس باسيليوس على هذا بقوله، وهذا يكفي.

القديس كيرلس الأسكندري في مواجهة منكري ألوهية الروح القدس 

لقد تصدى القديس كيرلس الأسكندري أيضًا لأولئك الذين أنكروا ألوهية الروح القدس وقدم أدلة قاطعة، أثنت بها ألوهية الروح القدس، يقول : إن كان الروح القدس يستطيع أن يخلق ويجدد ، كما يقول داود النبي ” تُرسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض” (مز ٣٠:١٠٤) . فكيف يمكن أن يكون الروح مخلوقا. وإن كان الروح يُحيي كما يقول رب المجد : ” الروح هو الذي يُحيي (يو ٦ :٦٣) ، فكيف يدعي هؤلاء بأنه مخلوق. ثم يستطرد قائلاً، إن كان المطوّب أيوب يقول : روح الله صنعني (أيو ٤:٣٣) ، فكيف يمكن للمخلوق أن يخلق. وإن كانت المخلوقات تدرك في مكان محدد، ومن خلال بعض الصفات، وإن الروح القدس لا يدرك هكذا ، لأنه مكتوب: ” روح الله ملأ المسكونة ” (حكمة سليمان (٧:١) ، وإن كان المطوب داود ، يُرنم قائلاً : ” أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب” (مز ۷:۱۳۹)، فكيف يكون لذاك الذي يملأ المسكونة، أن يكون مخلوقا ثم يُضيف: إن الذين يتجرأون على أن يقولوا أو يؤمنوا بأن الروح القدس مخلوق، يكفرون كثيرًا. لأنه كما أن روح الإنسان، ليس غريب عن ماهيته، هكذا فإن الروح ليس غريبا عن الله بالطبيعة وبالحقيقة، وإن كان يُدرك كموجود بذاته، أي مثل الآب، وبالطبع مثل الابن فمن المؤكد انه عندما يكون الروح داخلنا، يكون الابن داخلنا أيضًا، بسبب وحدة الجوهر بينهما ولأن الروح هو روحه بالطبيعة، وهذا ما يؤكده لنا المطوب بولس قائلاً : ” الذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله. وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كان روح  الله ساكنا فيكم. ولكن إن كان احد ليس له روح المسيح فذاك ليس له. وإن كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية. وأما الروح فحياة بسبب البر.

إذن فهو يؤكد على أن الروح يُدعى روح الله، ويُشير أيضًا إلى أنه روح المسيح بسبب وحدة الجوهر بينهما. وعندما يوجد المسيح داخلنا ، كيف يمكن أن يكون روحه مخلوقا، طالما أن الابن من حيث طبيعته هو إله، وواحد في الجوهر مع الآب؟ المطوب بولس تكلّم عن أولئك الذين يتنبأون في الكنيسة متبعين النظام الخاص بذلك، أى كل واحد بمفرده، يقول إن من ينظر إليهم يقول إن الله داخلهم .بالحقيقة أما بالنسبة للذين يتكلمون بألسنة غير مفهومة، فيقول عنهم إنهم لا يُكلمون الناس، بل الله . ها هو إذا يقول بكل وضوح، إن هؤلاء يتنبأون ملهمين بالروح، والله يوجد داخلهم، وان هؤلاء الذين يتكلمون بلسان غير مفهوم، يتحدثون مع الله، إذن فالروح القدس هو إله. 

ويُضيف كل شيء مخلوق، هو في كل الأحوال أدنى من السمو الإلهي، ويأتي في مرتبة أقل بكثير من المجد الأسمى. لأنه لا يمكن أبدا لمن هو عبد ، أن يكون له نفس استحقاقات السيد ، ولا المخلوق له نفس استحقاق الخالق أو نفس القيمة مع الخالق وبناء على ذلك فإن إله الجميع يُبرر أولئك الذين يخطئون، مادام له السلطان على غفران الخطايا. بل والروح القدس أيضاً يُبرر بنفس الدرجة. لأن القديس بولس يقول : ” لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.

إذن فطالما أن الروح يُبرر بنفس القدر مع الله، فكيف لا يكون واحدًا معه في الجوهر؟ لأن المخلوق لا يمكن أن يبررنا. فذاك الذي له نفس القدرة مع الله الآب، هو على كل الأحوال واحد في الجوهر معه. ومادام الله الآب مُحيي، فإن الروح القدس وبنفس القدر هو روح مُحيي. أو من الأفضل أن نقول إن الآب يُحيي بواسطة الروح القدس. 

هذا ما يؤكده القديس بولس وهو يكتب لتلميذه تيموثاوس أوصيك أمام الله الذي يُحيّ الكل والمسيح يسوع… أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم ” . وفي موضع أخر يقول : ” وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائته أيضًا بروحه الساكن فيكم” الأمر المؤكد أن الله الآب يُعطي حياة للأموات، لكنه يعطيهم هذه الحياة بواسطة الروح القدس. فكيف يكون مخلوقا إذَا؟ فالآب لا يُعطي حياة عن طريق مخلوق، بل بالروح القدس الذي هو واحد معه في الجوهر. 

قال الله ذات مرة لموسى : ” من صنع للإنسان فما؟ أو من يصنع اخرس أو أصم أو بصيرًا أو أعمى؟ أما هو أنا الرب؟ فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به . بل أيضًا ربنا يسوع المسيح وعد رسله القديسين، إذا ما وقفوا أمام ولاة، أنه سيعطيهم فما وحكمة. أيضا يذكر سفر أعمال الرسل الآتي : ” وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا . ها هو مرة أخرى يُعطي فما للإنسان، وبنفس الطريقة يُعطيه الروح القدس أيضًا. فذاك الذي له بالطبيعة نفس العمل، والقوة والسلطان مع الله، كيف لا يكون واحدا معه في الجوهر وليس مخلوقا؟ 

فإن كان يُسجد لطبيعة واحدة للثالوث القدوس الواحد في الجوهر، فكيف يكون الروح القدس مخلوقا؟ لأنه لا يكون ثالوثا بعد . وإن كان الروح القدس يُحصى مع المخلوقات فإن كمال الثالوث سيكون ناقصاً، فالمطوب بولس يُحصى الروح القدس مع الآب والابن بالضرورة. لأنه يكتب إلى أهل كورنثوس قائلاً: ” نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم” لأنه لا يُصلي لأجل الذين امنوا لكي يصيروا شركاء المخلوق، بل لكي يتقدسوا فيصيروا شركاء الطبيعة الإلهية.  

ويستشهد القديس كيرلس بالنبي المطوب إشعياء الذي يقول: ” رأيت السيد جالسًا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل. السيرافيم ..واقفون وهذا نادى ذاك وقال قدوس قدوس قدوس .. ثم يُضيف “ثم سمعتُ صوت السيد قائلاً من أرسل؟ ومن يذهب من اجلنا؟ فقلت ها أنذا أرسلني فقال اذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعا ولا تفهموا وأبصروا إبصارًا ولا تعرفوا. المطوب بولس يقول إن هذا الكلام يأتي من الروح القدس. وقد جاء في سفر الأعمال عن الروح القدس، في إشارة لليهود ” فانصرفوا وهم غير متفقين بعضهم مع بعض لما قال بولس كلمة واحدة انه حسنًا كلّم الروح القدس آبائنا بإشعياء النبي. قائلاً اذهب إلى هذا الشعب وقل ستسمعون سمعا ولا تفهمون وستنظرون نظرًا ولا تبصرون إذن حين تكلم رب الصباؤوت، كان الروح القدس هو المتكلم، فكيف يكون مخلوقا؟ هذا الرأى القائل بأن الروح (مخلوق) ليس له أية علاقة بالحقيقة. بل هو روح رب الصباؤوت وهو واحد معه بالطبيعة، وتكلّم بما لله. 

وعندما يقول الله الآب: “أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب، بل والمطوب بولس يكتب عن الابن قائلاً: الذي نزل هو الذي صعد أيضا فوق جميع السموات ، وهذا الذي يملأ المسكونة هو الروح، لأنه مكتوب : ” روح الرب ملأ المسكونة ، إذن فالروح القدس ليس غريبا عن طبيعة الله الآب ومن المؤكد أنه ليس غريباً عن طبيعة الابن، بل إن حفظ الخليقة يتم من الآب بالابن في الروح القدس، الذي هو فوق الخليقة. لأن الخليقة لا تشترك في ذاتها، بل هي تشترك في ذاك الذي هو بحسب الطبيعة فوق الخليقة، أي الله بواسطة الروح.  

شهادة الكتاب المقدس عن ألوهية الروح القدس 

إن الإيمان بألوهية الروح القدس يعنى في الحقيقة، أن الله ليس بعيدا عن الإنسان، بل أنه يمكث فيه ويهبه الحياة، ونحن نستطيع أن نطلع على أسرار ملكوت الله، وينكشف أمامنا سر الله وطبيعته التي هي المحبة بالروح القدوس وحده فالروح القدس يملك على الإنسان ويسكن فيه، ونحن نصير أبناء الله بالروح القدس ” ثم بما أنكم أبناء أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا يا أبا الآب. وبه أيضا نصير للمسيح ” إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك “المسيح” ليس له. والروح وحده هو الذي يكشف لنا أعماق الله ” الروح يفحص كل شئ حتى أعماق الله. وسر الثالوث أيضا لا يكتمل إلا بالروح القدس . 

هذه الحقيقة قد عاشتها الكنيسة الأولى في صلواتها وأسرارها قبل أن تعلّم بها كعقيدة إيمانية، فكانت تُعمد ” باسم الآب والابن فالإيمان بالآب والابن يكتمل بالإيمان بالروح القدس. والروح القدس” والروح يمجد المسيح ” ذاك (الروح القدس ) يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم ، كما أن الآب يُمجد المسيح “أيها الآب مجد اسمك. فجاء صوت من السماء مجدت وأمجد أيضًا فهو الذي يرشد لجميع الحق، ويشفع فينا بأنات لا ينطق بها بل ان علامة  الثبات في الله هي في عطية الروح” بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا، أنه قد أعطانا من روحه. والرب هو الروح كما يقول الرسول بولس ” وأما الرب فهو الروح ، وحيث روح الرب هناك حرية وأيضا ” ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح .. ويكتب إلى أهل تسالونيكى قائلاً : ” إذا من يرذل لا يرذل إنسانا بل الله الذي أعطانا أيضًا روحه القدوس”. ويكتب إلى أهل أفسس، مؤكدًا على أن هذا الروح، هو روح الله القدوس . إذ يقول: “لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء”. وهذا ما يُعلنه أيضًا إلى أهل رومية قائلاً : ” وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح أن كان روح الله ساكنا فيكم . . ولأن الروح القدس هو روح الله، فهو الوحيد الذي يستطيع أن يعطينا أن نعرف مقدار الهبات التي يمنحها لنا الله ” ونحن لم نأخذ روح العالم. بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. ويقول إشعياء النبى الروح نزل من عند الرب وقادهم . وفي سفر العدد يقول موسى ليشوع بن نون ” هل تغار أنت لي؟ ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء، عندما يجعل الرب روحه عليهم “. وقيل في سفر القضاة ” وكان روح الرب على يفتاح . وقيل عن شمشون “فكبر الصبى وباركه الرب، وابتدأ روح الرب يرافقه “. ويرنم داود النبي قائلاً : ” روحك القدوس لا تنزعه منى وكتب إشعياء النبي يقول : ” روح الرب على لأنه مسحني . وفي المزمور الـ ١٤٢ يقول روحك الصالح يهديني في أرض مستوية من أجل اسمك يا رب، هبني حياة .. ويقول إشعياء إن الرب نفسه خلّصهم لأنه أحبهم وتراءف عليهم. هو فكهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة ولكنهم تمردوا وأحزنوا روحه القدوس فتحول لهم عدوا . في كل هذه الآيات السابقة يوصف الروح بأنه روح الرب، روحك القدوس، روحك الصالح، وهى إشارات واضحة تؤكد على ألوهية الروح القدس، لأنه روح الله القدوس. 

الروح القدس وآباء البرية

لقد أكد آباء البرية في تعاليمهم على ذلك الارتباط الوثيق بين الابن والروح القدس ، وأكدوا أيضًا على ضرورة وأهمية عمل الروح القدس في قيادة النفوس نحو الكمال. يقول القديس مقاريوس الكبير [أولئك الذين أعطى لهم أن يصيروا أبناء الله، وأن يولدوا من فوق من الروح، والذين لهم المسيح منيرًا في داخلهم، ومنعشاً لهم، هؤلاء يقودهم الروح بطرق متنوعة كثيرة وتعمل النعمة سرًا في قلوبهم وتعطيهم راحة روحية]. يقول أيضًا [ كما أن الحجر الذي في قاع البحر تحيط به المياه من كل ناحية كذلك كل هؤلاء أيضا إذ يكونون مغمورين بالروح من كل ناحية فإنهم يصيرون مشابهين للمسيح، حاصلين في أنفسهم على فضائل قوة الروح بلا تغيير لكونهم بلا عيب وأتقياء وبلا لوم من الداخل والخارج]. ثم يُشير إلى أن أولئك الذين مسحوا من المسيح بالروح قد نالوا قوة وفاعلية الروح القدس في هذا الدهر، وإن لم ينالوا بعد الميراث الكامل. يقول [إن أولئك الذين مسحوا من شجرة الحياة أى يسوع المسيح الغرس السماوى .. رغم أنهم لم ينالوا الميراث الكامل المعد لهم في ذلك الدهر، فإنهم متيقنون – عن طريق العربون الذي نالوه الآن – كأنهم قد كلّلوا وملكوا، وإذ هم عتيدون أن يملكوا مع المسيح، فإنهم لا يستغربون وفرة وحرية فيض الروح. لماذا؟ لأنهم حصلوا – وهم لا يزالون في الجسد – على لذة حلاوته وعلى عمل قوته الفعالة . القديس الأنباء أنطونيوس يتحرك داخل هذا الإطار.

أيضاً، ويعلم بأن نوال الروح القدس يمكن أن يقود إلى الاطلاع على أسرار ملكوت الله والتمتع بالفرح السماوى، كأن الإنسان قد إنتقل إلى ملكوت الله وهو لا يزال بعد في الجسد. يقول [ حينما تنالون هذا الروح، فإنه سيكشف لكم أسرار السماء، وأشياء أخرى كثيرة سيعلنها لكم لا أستطيع أن أعبر عنها على الورق. وهو سيجعلكم أحرارًا من كل خوف. ويغمركم فرح سماوى ليلاً ونهارًا، وهكذا ستصيرون كأناس انتقلوا إلى الملكوت وأنتم لا تزالون في الجسد] أيضا الاحساس بحضور الله وتذوق المحبة الحقيقية، لا يأتى إلا عن طريق عمل الروح القدس داخل النفس كما يقول ماراسحق السرياني [إذا قبل الإنسان روح الاستعلانات وتجددت نفسه بحركات الروح وحكمة الله التي تفوق العالم، فإنه يشعر بعظمة الله جدا في نفسه. وبدون هذا الروح لا يمكن أن يدنوا أحد من مذاقة الحب الحقيقى]. هكذا أكد آباء البرية على أن ملء الإنسان وكماله الروحى وتألهه، يأتي عن طريق عمل الروح القدس فقط داخل النفس، لأنه هو الضامن لمسيرة الإنسان الروحية من أى انحراف قد يعتريها وبدون الحضور الفعال لنعمة الروح القدس داخل النفس، سيبقى الإنسان في صغر النفس والوضاعة والفساد وأسير الأمور هذا العالم الفاني. 

إن تحول النفس من حالة التدنى إلى التجلي، ومن الفساد إلى الخلود، ومن الوضع الجسدى إلى الحالة الروحية، يتم فقط من خلال عمل الروح القدس. هكذا يقول القديس غريغوريوس اللاهوتى الذي ترهبن لفترة ليست بالقصيرة مع القديس باسليوس : [صغير أنا وعظيم ، وضيع أنا وممجد فاسد أنا وخالد أرضى أنا وسماوى . ولذلك فهو يؤكد على أنه [لا يوجد شيئًا أغنى من نعمة الروح القدس] لأن الذي ينقل الإنسان بالفعل من حالة التدني إلى حالة السمو، ومن الفساد إلى الخلود ، هو الروح القدس فقط. 

  1. Μ. Βασιλείου κατά Σαβελλιανών και Αρείου και των Ανομοίων, PG 31, 612BCD

  2. 374 κατά Ευνομίου, 25 PG 30, 861D 

  3. الروح القدس للقديس باسيليوس ، فصل ،۱۹، فقرة ٤٨، ۱۲۹. 

  4. 376 Ανατρεπτικός του Απολογητικόν του δυσσεβούς ευνομίου,PG 29,668BC

     

  5.  Eπιστоλη 52,4, PG 32, 396AB. Kara Σαβeλλιaνvν, PG 31, 612C 

     

  6. οπ PG 31,613C-613A 
  7. Ανατρεπτικός του Απολογητικού του δυσσεβούς ευνομίου PG 29,668B

  8.  Ωριγένου Ερμηνεία του κατα ιωαν. Ευαγγελίου 29,72.  
     

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى