النسطورية 

كان البحث في طريقة اتحاد الطبيعتين في المسيح سببًا في ظهور هرطقة أخرى كادت أن تعصف بالرسالة الخلاصية، وتشوه الإيمان المستقيم وهي الهرطقة النسطورية، نسبة إلى نسطوريوس الذي درس في إنطاكية وصار راهبًا بها، ثم أختير رئيسًا لأساقفة القسطنطينية سنة ٤٢٨ ، وكان من المقاومين لتعاليم آريوس وأبوليناريوس. لكنه إتخذ مسارًا أخرًا في تعليمه الخاص بالطبيعتين في المسيح، فقد رفض أن يكون الاتحاد بين الطبيعتين في المسيح اتحادًا حقيقيا واعتبره اتصال خارجي، كما أنه رفض لقب والدة الإله. وكان تعليمه منصبا على هذا الأمر، أنه لا يوجد اتحاد حقيقي بين الطبيعتين في المسيح، ولذلك نجده قد تجنب استخدام لفظة ( ένωση) أي اتحاد، واستخدم بدلاً منها لفظة (συναϕια) أي اتصال. وهو لم يرفض كمال الطبيعة الإنسانية في المسيح، كما فعل أبوليناريوس، لكنه رفض الاتحاد الحقيقي بين الطبيعتين في المسيح. إذن، فهو يفصل الطبيعتين في المسيح فصل الطبيعتين في المسيح يقود إلى نفس النتيجة التي إنتهت إليها هرطقة أبوليناريوس، وهي عدم شفاء الطبيعة الإنسانية، على الرغم من أن الأسس التي تقوم عليها كل هرطقة هي أسس مختلفة. تعليم نسطور هذا ينتهي أيضًا إلى نتيجة طبيعية ومنطقية تخص لقب العذراء القديسة مريم  “والدة الإله”، فهو يُعلَّم بأن العذراء قد ولدت إنسانًا مثل كل البشر، الإنسان يسوع المسيح، بهدف أن مسكنا لله بمعني أن الله الكلمة أراد أن يحل في هذا الإنسان يسوع المسيح القول بسكنى “الكلمة” في الإنسان يسوع المسيح، يعني أنه لا يوجد اتحاد حقيقي بين الطبيعتين في المسيح . نسطور بهذا التعليم كان يُحرّض المسيحيين واللاهوتيين على دعوة العذراء بأم المسيح أو بالوعاء الإلهي. لأنه يرى أن ولادة الله من إنسان أمر مستحيل. 

وكان لزاماً على القديس كيرلس، أن يواجه مثل هذا التعاليم الخطرة والمضللة. فبدأ بإرسال رسائل إلى نسطور يوضح له فيها خطأ وخطورة هذه التعاليم على الإيمان المستقيم. 

فيما يختص بلقب والدة الإله يقول القديس كيرلس [إن كان ربنا يسوع المسيح هو الله، فكيف لا تكون العذراء القديسة التي ولدته هي والدة الإله]. ثم يضيف، أن القديس أثناسيوس حينما أشار إلى موضوع الثالوث القدوس ذى الجوهر الواحد” فإنه في المقالة الثالثة يدعو العذراء مريم والدة الإله من البداية إلى النهاية. 

وعندما إدعى نسطور بأن المجمع المقدس العظيم المنعقد في نيقية سنة ٣٢٥م لم يذكر لقب “والدة الإله”، بل ذكر فقط أن الابن الوحيد الجنس ولد بالطبيعة من الآب إله حق من إله حق ، نور من نور وأنه نزل وتجسد وتأنس وتألم وقام ، ثم يقول : إنه في كل موضع من الكتاب المقدس حينما يُذكر تدبير الرب فإن الولادة من أجلنا والآلام تنسب لا إلى لاهوت المسيح بل إلى ناسوته وهكذا فبحسب أدق تسمية فإن العذراء القديسة تدعى والدة المسيح وليس والدة الإله. القديس كيرلس على هذا قائلاً : [ المجمع لم يقل بأى حال أن الكلمة نفسه الذي ولد من الله بالطبيعة، مات أو طعن بالحربة في جنبه ، لأنه أى جنب يكون لذلك الذي لا جسم له ؟ أو كيف يمكن للحياة أن تموت؟ ولكن بسبب أن الكلمة اتحد بجسد، فحينما تألم هذا الجسد ، جسده الخاص المتألم ، فإنه هو نفسه جعل الآلام خاصة به، كما أن نفس الإنسان أيضًا يُقال أنها تتألم بسبب أن جسدها يتألم رغم أن النفس بطبيعتها الخاصة لا تتألم]. 

يقول أيضًا أن [ الكتاب لم يقل إن “الكلمة” قد وحد شخصا من البشر بنفسه، بل انه صار جسداً “والكلمة” إذ قد صار جسدا لا يكون آخر. إنه جعل جسدنا خاصا به وولد إنسانًا من امرأة بدون أن يفقد لاهوته . ولذلك لم يتردد الآباء والقديسون في تسمية العذراء القديسة بوالدة الإله]. 

ثم يضيف [ولسنا نقول إن كلمة الله حل في ذلك المولود من العذراء القديسة، كما في إنسان عادى، لكى لا يُفهم أن المسيح هو “إنسان يحمل الله لأنه حتى إن كان “الكلمة حل بيننا” (يو١٤:١)، فإنه أيضًا قد قيل إن في المسيح “يحل كل ملء اللاهوت جسديًا” (كو ٢: ٩). وحيث إن العذراء القديسة ولدت الله جسديًا، متحدا بالجسد حسب الاقنوم، فنحن نقول إنها والدة الإله”، ليس لأن طبيعة “الكلمة” تأخذ بداية وجودها من الجسد ، لأنه أى الكلمة” “كان في البدء، والكلمة كان عند الله” (يو ١ : ١) وهو نفسه خالق الدهور، وهو أزلي مع الآب، وخالق كل الأشياء. لقد ولد لكي يبارك بداية وجودنا نفسها. وإذ قد ولدته امرأة موحداً نفسه بالجسد فسوف تُرفع اللعنة إذن عن كل الجنس البشرى.

ومن الحجج التي ساقها نسطور أيضًا في رفضه للقب والدة الإله، هو الخشية من الاعتراف بالعذراء “كإله”، ولذلك فهو يسمى الآب والد الإله” وينكر على العذراء هذا اللقب.

ويرد القديس كيرلس على هذا قائلاً [نحن لا نؤله أبدًا أحدًا من الذين خلقوا ، لأننا تعلمنا أن نعترف بإله واحد بالطبيعة والحق. ولهذا السبب تحديداً نعترف بالعذراء القديسة إنسانًا مثلنا]. 

وقد أثار رفض نسطور دعوة العذراء بوالدة الإله ردود فعل غاضبة لدي المسيحيين واستشعروا بأن شيئًا غير طبيعي يظهر في إصرار نسطور على دعوة العذراء مريم بوالدة المسيح، لأنه بهذا أراد أن يؤكد على أن العذراء قد وَلَدَتَ إنسانًا مثلنا. 

وبحسب شهادة المؤرخين، فإن تعليم نسطور هذا، قد أثار اضطرابات وانقسامات حادة بين المسيحيين كانت قد وصلت إلى درجة كبيرة جدا ، كما يبدو، لأن نسطور اضطر في النهاية أن يعدل هذه الصيغة ولو ظاهريًا، أي صيغة والدة المسيح. خاصة وأنه قبل ذلك، كان قد أثار اضطرابات أخرى فور تنصيبه على كرسي البطريركية، عندما بدأ في اضطهاد الآريوسيين والمقدونيين. ويُقال إنه حرق كنائس للآريوسيين، وقام بتعذيب رجال ونساء، وحاول أن يمحو كل أثر للآريوسيين تماماً. وربما كانت هذه الاضطرابات قد أرهقته، حتى بدى في هذه الاضطرابات الجديدة وكأنه مهادنا. وبالرغم من هذه المحاولات، إلا أنه لم ينج من النفي، فنفى إلى ديره الأول قرب أنطاكية، ثم إلى أحد أديرة صعيد مصر.

وقد فند القديس كيرلس جميع مزاعم نسطور. وقدم ردود قاطعة عليها. ففيما يختص بمسالة فصل الطبيعتين في المسيح يقول: [عندما يُقال إنه ولد من امرأة فبالضرورة أيضًا يُشار إلى أنه ولد حسب الجسد ، لكي لا يُعتبر كأنه يتخذ من العذراء بداية لوجوده، ورغم أنه كائن قبل الدهور، وهو الله الكلمة المساوي في الأزلية لأبيه الذاتي والقائم فيه، إلا أنه حينما أراد أن يأخذ ” صورة عبد ” (في٧:٢) بمسرة أبيه الصالح، عندئذ يُقال إنه خضع للولادة من امرأة بحسب الجسد مثلنا].

ويؤكد القديس كيرلس على وحدة الطبيعتين في المسيح بشكل كامل؛ إذ يقول : [نحن نرى أن الابن واحد من اثنين. إذ فيه التقت الطبيعتان الإلهية والإنسانية واتحدتا في واحد بشكل غير موصوف لا يُعبّر عنه وبكل تأكيد نحن لا نعنى أن الكلمة الإلهي قد تحول إلى الطبيعة الجسدية، ولا الجسد تحوّل إلى الكلمة. فكل منهما بقى في خصوصيته، ولكنهما في وحدة تامة لا تنفصل…]. 

ويقول في الرسالة ٤٥ إلى الأسقف سوكينسوس: [لذلك فنحن عندما نقول إنه كان من طبيعتين فنحن لا نجرح الوحدة، ولكن بعد الاتحاد لا نفصل الطبيعتين إحداهما عن الأخرى، ولا تُجزأ الابن الواحد غير المنقسم إلى ابنين، بل نقول بابن واحد، وكما قال الآباء: طبيعة واحدة متجسدة لكلمة الله ]. 

ثم يضيف: [الابن مساوٍ للآب في الجوهر، لأنه بالحق خرج الابن من الآب، وهو فيه بالطبيعة والجوهر وكما أننا لا نستطيع أن نقول بشكل قاطع إنه مساو لنا في الجوهر، بدون أن يكون قد صار إنسانًا ، كذلك بنفس القياس لا نستطيع أن نقول إنه في الله وواحد معه، إلا إذا كان له فعلاً كل خصائصه الطبيعية، ولا كان ممكنا للبشرية أن تشترك في طبيعة الله إلا بواسطة الغنى الذي سكبه عليها الابن ووساطته].  

وفي رسالته إلى فاليريانوس أسقف إيقونية، تحدث عن طبيعة الاتحاد مبينًا أن الكلمة صار إنسانًا، ولا يعني الاتحاد أن إنسانًا حلّ الله فيه. فيقول: [الله والإنسان لم يكوّنا مسيحاً واحدًا باجتماعهما معا. كما يقولون – بل إن اللوغوس إذ هو الله أصلاً اشترك في اللحم والدم مثلنا، أي أن الله صار إنسانًا، وأنه اتخذ جسدنا وجعله جسده الذاتي]. 

وعندما رفض نسطور دعوة العذراء مريم بوالدة الإله، قائلاً: [تعلمت من الكتب الإلهية أن الله جاء من العذراء أم المسيح، غير أنني لم أتعلم في أي مكان أن الله وُلد منها ، يؤكد القديس كيرلس على أن هذا القول يقسم الابن الواحد إلى ابنين واحد منهما مأخوذا على حدة يقول إنه هو ابن ومسيح ورب، الكلمة المولود من الله الآب، أما الآخر وأيضًا مأخوذ على حدة يقول إنه ابن ومسيح ورب ولد من العذراء القديسة]. 

ثم يُضيف بإن أقواله هذه ليست لها أية علاقة بأقوال أساقفة الشرق، [لأنهم يعترفون بأنهم يعبدون مسيحا واحدًا ، وابنا وإلها وربا وهو نفسه من الآب بحسب اللاهوت، ومن العذراء القديسة بحسب الناسوت. ونحن نقول إن اتحادًا تدبيريًا بلا انفصال ويفوق التعبير قد تم بين أشياء غير متشابهة]، لأن اللاهوت والناسوت ليسا هما نفس الشيء من جهة النوعية والطبيعة. 

وفي موضع آخر يقول : [ لم يقل يوحنا الإنجيلي إن الكلمة جاء إلى الجسد مثلما فعل في القديم، عندما جاء إلى الأنبياء والقديسين، واشتركوا فيه وإنما ما يعنيه الإنجيلي، إنه صار جسدا ، أي صار إنسانًا ولكنه هو الله بالطبيعة وهو في الجسد وجعله جسده دون أن يفقد لاهوته ]. 

وفي شرحه لتجسد الابن الوحيد يقول : [الله صار إنسانًا. وهو ليس إنسانًا تَشرَّف بصلة اللاهوت، كما أنه ليس إنسانا حصل على مساواة وكرامة وسلطان الله الكلمة حسب زعم البعض]. 

أيضًا رفض القديس كيرلس، تلك المصطلحات التي استخدمها نسطور ليعبر بها عن رفضه للاتحاد الحقيقي بين الطبيعتين الإلهية والإنسانية في المسيح، وهما مصطلح (διήλθεν) أي اتى؛ ومصطلح (παρήλθεν) أي عبر خلال. ويقول القديس كيرلس إن استخدام نسطور لهذين المصطلحين يعنى أن الله الكلمة أتي على الإنسان يسوع. 

ووفقًا للقديس كيرلس، فإن هذه التعبيرات غير مفهومة وغير معقولة. لأن مصطلح (διήλθεν) يتطلب عنصر المكان، أي افتراض حركة الانفصال من مكان إلى مكان آخر، فلو أن هذا المصطلح نسب لله الكلمة في علاقته بالعذراء، فهذا يعني الترك؛ أي أن الكلمة قد ترك مكانه، ليحل في مكان آخر.

هذا الرأي يتعارض مع إيمان الكنيسة التي تؤمن بأن الله لا يحده مكان، لأنه يملأ الأرض والسماء. أما بخصوص تعبير (παρήλθενعبر من خلال فيتساءل القديس كيرلس أين ورد هذا التعبير؟ فهذا التعبير ليس له أي علاقة بمعني الولادة التي تتطلب وقتًا زمنيًا محددًا ، أي بداية محددة ونهاية محددة. فهذا التعبير وفقا للقديس كيرلس يعني أن الله عبر من العذراء مريم بدون جسد[1]. وهذا الرأي يتعارض تماما مع الكتاب المقدس الذي يؤكد على ميلاد المسيح من العذراء ” فلذلك القدوس المولود منك يُدعى ابن الله.. ” (لو٣٦:١). بالإضافة إلى أن هذا التعبير ينفي عن العذراء، لقب (والدة الإله). 

وبسبب هذه المزاعم الكثيرة التي أثارها نسطور، انعقد مجمع مسكوني بمدينة أفسس سنة ٤٣١م بحضور مائتي أسقف، يمثلون جميع الكنائس، عدا وفد إنطاكية الذي كان يرأسه يوحنا بطريرك إنطاكية، ومندوبي بابا روما بسبب تأخرهم في السفر. ولما كان موعد افتتاح المجمع قد انقضي، دعا القديس كيرلس الأساقفة الحاضرين إلى مباشرة أعمال المجمع، وكان نسطور قد دعى للحضور ثلاث مرات، إلا أنه رفض. فبدأ المجمع بقرأة قانون إيمان نيقية، ثم رسالة القديس كيرلس إلى نسطور ورد نسطور عليها، فوافق الآباء المجتمعون على رسالة القديس كيرلس وأقروا بتعاليمه اللاهوتية. وحكموا على نسطور في نفس اليوم بالحرم ، وأعلنوا عزله من كرسيه. 

  1. Κατα Νεστορίου, PG76,21B. (Αρα γαρ έρεις, ως αυτος καθεαυτόν και δίχα σαρκός ο εκ Θεού Λογος διήλασε της παρθένους. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top