عقيدة الطبيعة الواحدة 

ظهور بدعة الطبيعتين في التاريخ 

بدأ النقاش حول طبيعة السيد المسيح في بداية القرن الخامس الميلادى. وأثار هذا النقاش نسطور بطريرك القسطنطينية، الذى للأسف الشديد أدى إلى إنقسام الكنيسة

وسنعرض الآن المراحل التاريخية التي مرت بها هذه البدعة وكيف إنتهت إلى إنقسام الكنيسة.

أولاً: بدعة نسطور 

كان نسطور بطريرك القسطنطينية يسعى إلى تفسير مظاهر الضعف البشري التي ظهرت في حياة السيد المسيح. وبسبب عجزه عن إدراك سر التجسد الإلهي، انتهى إلى الاعتقاد بوجود “طبيعتين وشخصيتين” في المسيح: واحدة إلهية وأخرى إنسانية. وبناء على هذا الفهم رفض إطلاق لقب والدة الإله على العذراء مريم، معتبرًا أنها «والدة الإنسان يسوع فقط» (انظر: وثائق مجمع أفسس 431م).

كما رأى أن الآلام التي حدثت على الصليب تعود إلى «الإنسان يسوع وحده»، مما جعله يفصل بين العمل الفدائي واللاهوت. واستند في بعض أقواله إلى عبارات كتابية تعبّر عن آلام المسيح، لكنها فُسّرت عنده خارج الإطار اللاهوتي للتجسد.

البابا كيرلس الكبير السكندرى عامود الدين: 

هيأت العناية الإلهية البابا كيرلس (٤٢٩م) للرد على نسطور فأرسل له خطاباً يشرح فيه كل ما يختص بطبيعة السيد المسيح قائلاً:

«إن مريم العذراء لم تلد إنساناً عادياً، بل ابن الله المتجسد، لذلك فهي بحق والدة الإله. وأن الكلمة لأجلنا ولأجل خلاصنا أخذ جسدنا واتحد به، وصار جسداً ( يو ١: ١٤). ودعاه القديس متى: عمانوئيل ( كقول أشعياء) الذى تفسيره الله معنا. وأما القديس مرقس فذكر لنا أن رئيس الكهنة عندما سأل السيد المسيح قائلا «أأنت المسيح ابن المبارك رد عليه قائلاً نعم أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء» (مر ١٤: ٦١، ٦٢).» (القديس كيرلس السكندري، الرسالة إلى نسطور) 

وبيّن أيضاً القديس كيرلس فى الرسالة أن اتحاد اللاهوت بالناسوت أشبه باتحاد النار بالحديد. فالحديد لا يصاغ ما لم يكن مُحمياً بالنار، وحين يطرقه الحداد يقع الطرق على الحديد وحده دون النار مع كونها متحدة بة، وهذا الاتحاد بين النار والحديد اتحاداً لا يشوبه اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير فالنار تظل محتفظة بطبيعتها النارية، والحديد يظل محتفظاً بطبيعته الحديدية. وعلى هذه الصورة اتحد نار اللاهوت بمادة الناسوت.

انعقاد مجمع أفسس سنة ٤٣١م : 

دعا إليه الإمبراطور ثيؤدوسيوس الصغير وحضره ۲۰۰ أسقفا ورأسه القديس كيرلس الكبير وكان يصاحبه الأنبا شنودة رئيس المتوحدين. وقرر المجمع حرمان نسطور ونفيه إلى مدينة أخميم وحرمان من ينادى بعقيدة الطبيعتين. ووضع مقدمة قانون الإيمان التي صاغها القديس كيرلس وهى:

«نعظمك يا أم النور الحقيقى ونمجدك أيتها العذراء القديسة والدة الإله لأنك ولدت لنا مخلص العالم أتى وخلص نفوسنا».

وبهذا تكون الكنيسة القبطية وعلى رأسها القديس كيرلس هى التى ثبتت للسيدة العذراء لقب والدة الإله أم النور.

ثانياً : بدعة أوطاخي 

كان أوطاخى رئيساً لدير للرهبان بالقسطنطينية، وقد غالي جداً في مقاومة النساطرة (أتباع نسطور) مما جعله يهوى فى بدعة مضادة. وهذه البدعة تقول «إن للسيد المسيح طبيعة واحدة لاهوتية ، وأنه لم يتخذ من الحشا البتولى جسداً مماثلاً لجسدنا ولكنه مر به مروراً خيالياً»

هذا يعنى أن الطبيعة اللاهوتية لاشت الطبيعة الناسوتية.

خاف فلابيانوس بطريرك القسطنطينية من البدعة الجديدة وبدأ يقاومها بشدة مما جعله يؤكد بإفراط الطبيعة الإنسانية ووقع بدون أن يدرى فى بدعة نسطور وتبعه في هذا التيار بطريرك روما. وهكذا بدأ الغرب يبتعد مرة أخرى نحو النسطورية (مذهب الطبيعتين) الذي سبق أن حرمها مجمع أفسس الأول برئاسة كيرلس عامود الدينلذلك انعقد مجمع أفسس الثاني برئاسة البابا السكندرى ديسقورس وحرم فلابيانوس.

ثالثاً : تكتل القسطنطينية وروما ضد البابا ديسقورس 

بعد موت الملك ثيئودوسيوس الصغير بدون نسل، اندفعت أخته الراهبة بوليكاريا نحو الملك ونقضت نذر بتوليتها وتزوجت من القائد مرقيان. واعترض جميع الأساقفة على زواج راهبة، ما عدا أسقف روما الذي أعطاها حل بالزواج، ومن هنا توطدت العلاقة بين أسقف روما والملكة بوليكاريا، وبعد أن أصبحت بوليكاريا ملكة وخضع لها بطريرك روما، أصبحت لا تطيق أي نفوذ بجوار نفوذها وخاصة البابا السكندرى الذي ذاع صيته في المجامع المسكونية. ولقد كانت الفرصة مواتية لبطريرك روما ليطلب العفو عن فلابيانوس المحروم رغم أنه كان قد مات الذي سبق أن حرمه البابا ديسقورس في مجمع أفسس الثانى، فأرسل لاون أسقف روما إلى الإمبراطور طالباً منه أن يعقد مجمعاً لتبرئة فلابيانوس. وبذلك يكون أسقف روما هو الذي فتح المجال للجدل من جديد.

ولم يكن يدرى أنه بذلك أخطأ أعظم خطأ في تاريخ الكنيسة الذي انتهى بانقسامها.

وانتهزت الملكة هذه الفرصة لتزج بنفسها في أمور الكنيسة ووقفت جنبا إلى جنب مع أسقف روما فدعت إلى عقد مجمع خلقيدونية.

رابعاً : مجمع خلقيدونية وانقسام الكنيسة منه

ما أن انعقد المجمع حتى وقف أساقفة روما مطالبين بمحاكمة البابا ديسقورس، وتساءل الجميع لماذا؟ وكان الرد « لقد تجرأ ديسقورس على عقد مجمع أفسس الثاني بدون ترخيص من أسقف روما». ومن هذه العبارة ينكشف لنا أن السبب فى عقد المجمع لم يكن هو الدفاع عن العقيدة بل لأسباب تتعلق بالسلطة الكنسية

واتُهم ديسقورس بأنه يعتقد بعقيدة أوطاخي، لكنه أعلن بوضوح:

«إن الطبيعة الإلهية اتحدت بالطبيعة الإنسانية اتحادًا حقيقيًا، دون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير» (من محضر المجمع).

وهذا عكس ما يقول به أوطاخى أن الطبيعة اللاهوتية لاشت الطبيعة الناسوتية بعد أن امتزجت بها.

ثم توالت التهم على ديسقورس بعيدة كل البعد عن العقيدة. ومنها أنه يحرّض المصريين على عدم ارسال القمح إلى القسطنطينية، وتهمة أخرى أنه قتل فلابيانوس. 

وتهمة أخرى أنه قبل أوطاخى بعد أن تاب واعترف بإيمان كيرلس.

وحكم مجمع خلقيدونية (الذي لا تعترف به الكنائس الأرثوذكسية المشرقية) بحرمان ديسقورس ونفيه في جزيرة غاغرا. 

خامساً : اضطهاد الكنائس التي تؤمن بالطبيعة الواحدة 

بعد أن أصدر الإمبراطور أمراً بتعيين بطريركا آخرا بدل البابا ديسقورس أرسل رسالة يتوعد فيها كل مصرى يجرؤ على عصيان أوامره. ولكن هذا التعسف أدى إلى عكس ما كان يرجوه الإمبراطور ، فإن المصريين ثاروا في وجه هذا التعسف البيزنطي. ومثل هذا حدث في كنيسة إنطاكية (سوريا) وكنيسة أورشليم. 

وظل البطريرك الذى يفرض على الإسكندرية يونانياً حتى جاء المقوقس البطريرك اليونانى الذى تولى السلطة المدنية مع الدينية. ولقد تعرض الأقباط لاضطهاد خلال تلك الفترة”.

وهرب من وجهه البطريرك المصرى البابا بنيامين ( ٣٨ ) وبقية الأساقفة. ولقيت الكنيسة المصرية من كنيسة الغرب اضطهادا شبيها بإضطهاد القرون الأولى. إلى أن دخل عمرو بن العاص مصر وأعطى المصريين الأمان وعاد البابا بنيامين إلى كرسيه بعد أن زال سلطان روما والقسطنطينية من على مصر

ومن عصر خلقيدونية إلى يومنا هذا انقسمت الكنيسة إلى قسمين : كنائس تؤمن بالطبيعة الواحدة وهى الإسكندرية وإنطاكية وأورشليم وكنائس تؤمن بالطبيعتين وهى روما والقسطنطينية. وما زالت الكنيسة إلى يومنا هذا تقاسي آلام هذا الإنقسام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى