في ألوهية المسيح
مقدمة: الرد على الادعاءات حول ألوهية المسيح
يدَّعي البعض أن السيد المسيح لم يتكلم مطلقاً عن لاهوته، وأن صفة الألوهية إن هي إلا ادعاءٌ ادعاه من آمنوا به. وللرد على هذا الكلام سنقسم البحث إلى نقطتين:
- أن السيد المسيح أكد لاهوتية رسالته.
- أن السيد المسيح أكد ألوهية شخصه.
المسيح أكد لاهوتية رسالته
توقعات اليهود بالمسيا
كان اليهود ينتظرون المسيا (أي المسيح)، ونقصد بالمسيا شخصاً مُرسلاً من الله بطريقة غير عادية، ليهدم عمل الشيطان، ويرجع العالم إلى عبادة الله الحقيقية. وقد وعدهم الله بإرسال المسيا منذ القديم، وأكَّد وعده في طول الأزمنة المختلفة (تكوين 3: 15؛ إشعياء 7: 14).
وشيئاً فشيئاً أخذ اليهود يخطئون فهم عمل المسيا، حتى تخيلوا أنه سيأتي ليُشيِّد إمبراطورية على الأرض. ولكن اليهود، رغم هذا الفهم الخاطئ لعمل المسيا، كانوا ينتظرونه بشوق زائد، وكانوا يتوقعون قرب مجيئه في زمن يسوع، إذ كانت الكتب المقدسة التي أخبرت عنه تنبأت بمجيئه في ذلك العصر (دانيال 9: 24-26).
وهكذا نرى أن السيد المسيح يقول في مجرى حياته العامة: «أنا هو المسيا الذي تنتظرونه». كما أنه في نفس الوقت يصحح فكرة اليهود ويحدد بالدقة أنه آتٍ لا ليؤسس مملكة زمنية في هذا العالم، وإنما ليكمل الناموس، ويؤسس مملكة روحية (متى 5: 17).
أدلة إنجيلية على لاهوتية رسالة المسيح
ومن المؤكد أن السيد المسيح قدم لنا نفسه على أنه المسيا، والأدلة على ذلك كثيرة جداً في الإنجيل، نذكر منها:
1. حديثه مع السامرية
في حديث السيد مع المرأة السامرية عند بئر يعقوب، نرى أن هذه المرأة تتعرف على المسيح كنبي، قائلة: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ». فإذا بالسيد يجيب: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ» (يوحنا 4: 25-26). هل نريد إعلاناً أكثر وضوحاً من هذا؟ (أثناسيوس الرسولي، ضد الأريوسيين، الكتاب الأول، الفصل 13).
2. في الناصرة
بعد ذلك بقليل، دخل يسوع في يوم السبت مجمع الناصرة، فقُدِّم إليه الكتاب المقدس (سفر إشعياء النبي) ليقرأ. ولما فتح السفر قرأ بصوت عالٍ الفصل الذي تكلم فيه هذا النبي عن المسيا: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ، وَلِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ» (لوقا 4: 18-19، نقلاً عن إشعياء 61: 1-2). ثم طوى السفر وسلمه للخادم، وبدأ يقول لهم: «إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ» (لوقا 4: 21). أليس واضحاً أن السيد لم يرد أن يقول لهم إلا أن النبوة قد تمت فيه؟ وهذا أيضاً ما فهمه السامعون وقتذاك، لأنهم إذ امتلأوا غضباً من هذه التصريحات، أرادوا أن يلقوه من على جبل عقاباً له على هذا الكلام الذي اعتبروه تجديفاً (لوقا 4: 29) (يوحنا فم الذهب، تفسير إنجيل لوقا، الفصل 4).
3. حديثه مع رسولي يوحنا المعمدان
في أحد الأيام، أرسل يوحنا المعمدان -وهو في سجنه- اثنين من تلاميذه إلى السيد يسألانه: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟». وفي تلك الساعة شفى كثيرين من المرضى، وأجاب مقتبساً آية أخرى من إشعياء تتعلق بالمسيا: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ الْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ» (لوقا 7: 19-23، نقلاً عن إشعياء 35: 5-6). ويظهر لنا السيد هنا أنه في إثبات شخصه كمسيا لم يكتف بمجرد الكلام، وإنما زوَّد البرهان بالمعجزة (أغسطينوس، تفسير إنجيل لوقا، الفصل 7).
4. في الهيكل
وفي دفاع السيد عن أعماله، رجع مرة أخرى إلى هذا الأمر. في هذه المرة لا يتكلم السيد مع صديق، وإنما مع اليهود الأعداء. قال له اليهود: «إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جِهَارًا». فأجابهم يسوع مشيراً إلى تصريحاته السابقة: «إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. الأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي» (يوحنا 10: 24-25). «إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ» – هكذا أجابهم الرب. ماذا قال لهم إذاً دليلاً على كونه المسيا؟ يكفي لنا أن نلقي نظرة على الإصحاحات السابقة لنعرف بيان ذلك، ذلك ما قاله تماماً لليهود في نفس المكان في الأيام السابقة:
- «تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا 7: 16).
- «إِنَّكُمْ تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَنَّنِي أَتَيْتُ. وَمِنْ ذَاتِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ… أَنَا مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا 7: 28-29).
- «أَنَا أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا 7: 33).
- «يَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا 8: 18).
- «الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ، وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ، هذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ» (يوحنا 8: 26).
- «الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي… أَنَا أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ الَّذِي سَمِعْتُهُ مِنَ اللهِ» (يوحنا 8: 29، 40).
- «أَنَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَأَتَيْتُ، لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ هُوَ أَرْسَلَنِي» (يوحنا 8: 42)
5. في عمواس
تذكر أخيراً المحاورة التي دارت بين يسوع وتلميذي عمواس، وتصريح السيد: «أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ! أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟». ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب (لوقا 24: 25-27). وهنا يؤكد يسوع أن المسيا هو المسيح الذي سبق وتحدث الأنبياء عن آلامه! إننا نستطيع أن نذكر بعض الاقتباسات الأخرى، ولكننا نجدها أكثر بعداً.
ثم إننا نريد الآن أن نظهر ليس أن يسوع فقط هو المسيح (المسيا)، وإنما ابن الله. إن الاقتباسات التي أوردناها تكفي لإظهار أن يسوع هو المسيا، وقد كانت تصريحاته تُفهم هكذا، حتى أن اليهود عندما فهموا هذا أرادوا أن يرمونه من على الجبل أو يرفعوا حجارة ويرجموه كمختلس للقلب (لوقا 4: 29؛ يوحنا 10: 31).
المسيح يؤكد ألوهية شخصه
تمييز لاهوتية الرسالة عن ألوهية الشخص
إننا لم نثبت في الجزء السابق ألوهية شخصية المسيح، وإنما فقط لاهوتية الديانة التي أسسها. أثبتنا أنه مُرسل من الله بديانة للأرض. وفي الواقع، يمكن للديانة أن تكون إلهية بدون أن يكون مؤسسها على الأرض هو الله.
فالديانة الموسوية مثلاً ديانة إلهية، دون أن يفكر أحد إطلاقاً في أن ينسب الألوهية لموسى. إنما يكفي لإثبات صحة هذه الديانة أن الرجل موسى كان موكلاً من الله لتأسيسها. وقد أثبتنا أن المسيحية إلهية عندما أثبتنا التفويض الإلهي للمسيح (خروج 3: 14؛ يوحنا 8: 58).
ربما يقول البعض: يكفينا أن المسيح قد أثبت لاهوتية رسالته، أما عن ألوهية شخصه فيمكننا الاعتماد فيها على أقوال الكنيسة ما دام لها الحق في التعليم. ولكننا لا نود أن نقنع بجواب غير كامل. نريد أن نسأل: «ماذا قال المسيح في هذا الموضوع؟»
لذلك في حديثنا عن لاهوت المسيح، سنثبت رأي المسيح نفسه. سنظهر ليس فقط أن المسيح هو الله، وإنما أيضاً أن المسيح أثبت أنه هو الله.
أدلة إثبات ألوهية شخص المسيح
ولإثبات هذا، من الطبيعي البدء بالمواقف التي قال فيها المسيح إنه ابن الله. ولكن هذا الموضوع كثر فيه النقاش، لذلك نود البدء بمناقشة أقل جدلاً. إن يسوع فعل أكثر من تسمية نفسه ابن الله. إنه أعلن بكلامه وأعماله لاهوته هو نفسه.
لذلك سنتقدم بهذه الإثباتات الثلاثة:
أ. إن المسيح تكلم كإله.
ب. وكان يتصرف كإله.
ج. وإنه فوق ذلك دعى نفسه ابن الله.
البرهان الأول: المسيح تكلم كإله
إن كلمات سيدنا تعطينا في هذا الموضوع تعاليم كثيرة:
اتحاد المسيح بالله في الطبيعة والأفعال
أ. في الطبيعة: قال «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا 10: 30)، «الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يوحنا 14: 9)، «أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ» (يوحنا 14: 10). ومعنى هذا أنه يقول: أنا صورة الآب الحية ورسم جوهره. من رأى الآب فقد رآني في أصلي، ومن رآني فقد رأى الآب في صورته (يوحنا فم الذهب، تفسير إنجيل يوحنا، الفصل 14).
ب. في الأفعال: لإثبات أنه اتحد ذاتياً مع الآب في أفعاله، نأخذ مثلاً قصة شفاء المقعد التي حدثت في يوم سبت. لقد لام اليهود يسوع على هذا (كسر السبت)، فقال لهم: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ» (يوحنا 5: 17). أما اليهود ففهموا المعنى تماماً أن يسوع بهذا الأسلوب يعادل نفسه بالله، لأنهم -كما يقول الإنجيلي- كانوا يطلبون أن يقتلوه «لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضًا إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلًا نَفْسَهُ بِاللهِ» (يوحنا 5: 18). ولكن هذا لم يمنعه من تفسير وتقوية تصريحه السابق، فقال لهم: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنَّ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذلِكَ» (يوحنا 5: 19). إن يسوع بهذا وحد عمله في عمل الله، وهكذا أعلن أنه الله (أثناسيوس الرسولي، ضد الأريوسيين، الكتاب الثالث، الفصل 25).المسيح كالأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس
من تعاليم السيد ينتج أنه يوجد في الله ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس، وهي لم تُذكر معاً فحسب كما في العماد، وإنما ذكرت أيضاً منفصلة.
أ. عندما كان المسيح يتكلم عن الآب كان يميز نفسه عنه: «أَبِي… وَأَنَا…»، «أَنَا أَطْلُبُ مِنْ أَبِي…»، «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ»… إلخ (يوحنا 10: 30؛ 14: 16؛ متى 26: 39).
ب. وعندما كان يتكلم عن الروح القدس كان أيضاً يميز نفسه عنه: «رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي سَأُرْسِلُهُ…»، «وَإِنْ لَمْ أَذْهَبْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي»… إلخ (يوحنا 16: 7، 26؛ 15: 26).
ج. وبالعكس، عندما كان السيد يتكلم عن الابن لم يميز نفسه أبداً عنه. كان يقول «الآب وأنا»، «الروح القدس وأنا»، ولم يقل مطلقاً «الابن وأنا». وإذا أضفنا إلى هذه الملاحظة أن السيد المسيح كان يتكلم دائماً عن أبيه، ثبت لنا أنه كان يقدم نفسه للعالم كابن الله – الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس (غريغوريوس اللاهوتي، الخطب اللاهوتية، الخطبة الثالثة).صفات إلهية أعلنها المسيح لنفسه
أ. الأزلية والأبدية: إنه يقول لليهود: «قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا 8: 58). نلاحظ أنه لا يقول «أنا كنت»، لأنه بالنسبة لله يختفي عامل الزمن. هكذا خاطب الله موسى قبلاً (خروج 3: 14). وأيضاً في صلاته قبل العشاء الرباني يقول: «وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ» (يوحنا 17: 5). ثم هو -له المجد- يعد كنيسته بأنه سيكون معها إلى انقضاء الدهر (متى 28: 20).
ب. كل القدرة: أعلن لنفسه كل القدرة، وأنه السيد بالنسبة للناس في الحياة الطبيعية والروحية:- في الحياة الطبيعية: «كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الابْنُ أَيْضًا يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ» (يوحنا 5: 21). وفي كلامه عن حياته هو يقول: «أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا» (يوحنا 10: 17-18). كما قال عند إقامة لعازر: «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ» (يوحنا 11: 25).
- في الحياة الروحية: «مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يوحنا 6: 54)، كما قال: «مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يوحنا 11: 25).
ج. كلية العلم: كان يعرف أفكار الناس وأسرارهم. وفي ذلك يقول القديس مرقس: «وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هذَا هكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟». فللوقت شعر يسوع بروحه أنهم يفكرون هكذا في نفوسهم، فقال لهم: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟» (مرقس 2: 6-8). ولم يعلن يسوع علمه فقط بأمور الأرض، وإنما بالعلوم الخاصة بالله نفسه. قال: «لاَ أَحَدَ يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدَ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (متى 11: 27).
د. الوجود في كل مكان: قال لنيقوديموس: «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ» (يوحنا 3: 13). فيسوع يؤكد هنا أنه في نفس الوقت في السماء وعلى الأرض. كيف نستطيع إذن إنكار لاهوته؟ (أثناسيوس الرسولي، ضد الأريوسيين، الكتاب الأول، الفصل 42).
البرهان الثاني: المسيح تصرف كإله
إن أعماله كانت برهاناً على لاهوته.
قبول التكريم الإلهي
أ. السجود: أراد يسوع أن يُكرم كما يُكرم الله، وهكذا يسجد له، فقال: «لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَدًا، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ» (يوحنا 5: 22-23). من أجل هذا قبل السيد تكريم السجود من الأبرص (متى 8: 2) والرئيس يايرس (متى 9: 18) ومن الرسل والذين كانوا في السفينة بعد المشي على الماء (متى 14: 33)، كما قبل السجود من المريمتين (متى 28: 9) ومن التلاميذ بعد القيامة (متى 28: 17)، ومن الإنسان المقيد بروح نجس في كورة الجدريين (مرقس 5:6)، ومن المولود أعمى (يوحنا 9: 38).
وهنا نورد أن كلمة السجود لم تكن في الكتاب المقدس خاصة فقط بالتكريم الإلهي، وإنما أحياناً كانت تحمل معنى التكريم البشري. ولكن إن كان ذلك صحيحاً في العهد القديم، فإن السجود في العهد الجديد كان خاصاً بالله وحده (تكريماً للاهوت) – «لِلرَّبِّ إِلَهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (متى 4: 10). هكذا قال السيد المسيح مجيباً على تجربة الشيطان. وهذا ما قاله أيضاً عندما قبل السجود. إنه إن لم يكن يريد به إثبات لاهوته، إذن لرفضه كما رفض القديس بطرس سجود كرنيليوس وقال له: «قُمْ، أَنَا أَيْضًا إِنْسَانٌ» (أعمال 10: 26). وهذا أيضاً ما فعله القديسان بولس وبرنابا عندما أراد أهالي مدينة لسترا أن يقدموا لهما أحد فروض العبادة، إذ مزقا ثيابهما وقالا: «أَيُّهَا الرِّجَالُ، لِمَاذَا تَفْعَلُونَ هذَا؟ نَحْنُ أَيْضًا بَشَرٌ تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُمْ» (أعمال 14: 14-15).
وفي الرؤيا، عندما أراد القديس يوحنا الإنجيلي أن يسجد للملاك، منعه قائلاً: «انْظُرْ، لاَ تَفْعَلْ! لأَنِّي عَبْدٌ مَعَكَ وَمَعَ إِخْوَتِكَ… اسْجُدْ لِلَّهِ» (رؤيا 22: 9). ويسوع أكثر قداسة من الجميع، ما كان ليسمح لأحد أن يسجد له إذا كان يرى في نفسه أنه مجرد إنسان.
توجد أيضاً قطعة في الإنجيل تعتبر حاسمة في هذا الموضوع: إنها قول القديس توما الرسول ليسوع المسيح: «رَبِّي وَإِلَهِي» (يوحنا 20: 28). إن السيد لم يقبل هذه العبارة فقط بدون احتجاج، وإنما أثبتها أيضاً وعاتب توما على أنه لم يفعل هذا إلا بعد أن رأى (يوحنا فم الذهب، تفسير إنجيل يوحنا، الفصل 20).
ب. الإيمان: إن الله وحده هو المستحق لإيماننا. ولكن يسوع طلب ذلك لنفسه أيضاً. قال لنيقوديموس: «الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللهِ الْوَحِيدِ» (يوحنا 3: 18). وقال للمولود أعمى الذي شفاه: «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ؟». فأجاب: «يَا سَيِّدُ، أُومِنُ». «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ». فقال: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ!». وسجد له (يوحنا 9: 35-38).
وأخيراً في الحديث بعد العشاء الرباني، طلب أيضاً من تلاميذه الإيمان به كإيمانهم بالله، وشكا من اليهود الذين لا يؤمنون به: «أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ فَآمِنُوا بِي… أَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟… آمِنُوا لِأَجْلِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا… الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا… لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالًا لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ. وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا…» (يوحنا 14: 1، 10-12؛ 15: 24).
ج. الرجاء: وهي صفة إلهية أخرى، طلبها يسوع لنفسه أيضاً بالتساوي. فقال: «لاَ أَحَدَ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا 14: 6)، لأنه هو الطريق والحق والحياة. ولهذا يجب الصلاة باسمه على يقين أن بهذه الطريقة تستجاب الصلاة (يوحنا 14: 13-14؛ 15: 16).
د. المحبة: طلب يسوع أن يكون محبوباً من الجميع، وأكثر من الجميع: «مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوْ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي» (متى 10: 37). هكذا قال السيد كما يخبرنا القديس متى. ويضيف القديس لوقا على كل هذا محبة الإخوة والأخوات والنفس أيضاً (لوقا 14: 26). أن يطلب مثل هذه المحبة يؤكد لاهوته، لأن الله وحده هو صاحب الحق في أن يطلب مثل هذا. لأنه -كما يقول بعض المفسرين- لا يوجد شخص يستطيع الإنسان أن يحبه أكثر من أبيه وأمه وأولاده وبناته وإخوته وأخواته ونفسه إلا الله. ولا يستطيع أحد أن يطلب مثل هذا إلا الله، وإلا يسوع المسيح الذي طلب هذا وأعلنه وحصل عليه، إذ كان يجذب إليه الجميع (يوحنا 12: 32). هذا بالحقيقة جعل نفسه مكان الله (أغسطينوس، تفسير إنجيل متى، الفصل 10).المسيح يأمر كإله
كان يأمر الناس ليس كنائب عن الله، وإنما بصفته الشخصية: فقال لهم: «اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ… وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ» (متى 28: 18-20). أليس هذا دليلاً على ما دفع إليه من السلطان الكلي في السماء وعلى الأرض؟
وليس هذا فقط، وإنما كان يأمر الملائكة هكذا أيضاً: «يُرْسِلُ ابْنُ الإِنْسَانِ مَلاَئِكَتَهُ…» (متى 13: 41).
وأخيراً فإنه لما سن الشريعة الجديدة، فعل ذلك باسمه، ونلاحظ أنه لم يبدل فقط بعض نقاط هامة في قوانين موسى مقدماً ذلك كإرادة الله نفسه، وإنما بدل تلك الشريعة بصفته الشخصية وبسلطته هو نفسه: «قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ… أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ» (متى 5: 21 وما يتبعها). إن الله وحده هو الذي يقدر أن يعدل في شريعة الله (يوحنا فم الذهب، تفسير إنجيل متى، الفصل 5).المسيح يقضي كإله
إنه لم يمارس فقط السلطة التشريعية كإله، وإنما أيضاً السلطة القضائية: يحكم ويغفر ويدين كإله.
أ. كان يغفر كإله: لا شك أن الكنيسة تعلن لأولادها القدرة على غفران الخطايا، ولكنها لا تملك ذلك الحق من نفسها، وإنما بتفويض من الوحيد الذي له حق الغفران، وهو الله. أما يسوع فأعلن قدرته على هذا العمل من نفسه. إن المرأة الخاطئة أظهرت له بعملها دليلاً على محبتها، فغفر لها من أجل ذلك (لوقا 7: 47). بل إنه ذهب إلى حد فعل المعجزات من أجل إثبات حقه في الغفران. قال للمفلوج: «مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ». ولما فكر الكتبة في قلوبهم: «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هذَا هكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ؟» أجاب: «لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا» (وبالتالي يكون هو الله)، «أَقُولُ لَكَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ» (مرقس 2: 5-11).
وأخيراً فإن اللص اليمين يتوسل إليه طالباً غفرانه: «اُذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». وإنه أعطى له غفرانه قال له: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 42-43). ولم يقل «مع الله»، لأنه هو الله (أغسطينوس، تفسير إنجيل لوقا، الفصل 23).
ب. كان يحكم كإله: إنه يعلن أنه هو الذي سيأتي محاطاً بملائكته القديسين ليدين الجنس البشري كله، وهو الذي سيحكم على الناس إما بالنعيم الأبدي أو الهلاك الأبدي (متى 25: 31-46). أليست هذه أعمالاً إلهية يعلنها السيد المسيح لنفسه دون أية إشارة أو رمز إلى تفويض من أيٍّ كان نوعه؟ إن يسوع إذ يخص نفسه بالقدرة على إدانة الجميع – دون تفويض – إنما يثبت بهذا لاهوته (غريغوريوس اللاهوتي، الخطب اللاهوتية، الخطبة الرابعة).
البرهان الثالث: المسيح دعى نفسه ابن الله
إن يسوع فعل أكثر من تسمية نفسه ابن الله، فقد أعلن ذلك صراحة في مواقف عديدة. على سبيل المثال، عندما سأله رئيس الكهنة أثناء محاكمته: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟»، أجاب يسوع: «أَنْتَ قُلْتَ. وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَابِ السَّمَاءِ» (متى 26: 63-64). هذا التصريح أثار غضب رئيس الكهنة، الذي اعتبره تجديفاً، مما يؤكد أن اليهود فهموا أن يسوع يدعي ألوهيته (يوحنا فم الذهب، تفسير إنجيل متى، الفصل 26).
خاتمة: تأكيد المسيح لألوهيته
إن السيد المسيح لم يكتفِ بإثبات لاهوتية رسالته من خلال تصريحاته ومعجزاته التي أكدت أنه المسيا المنتظر، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بإعلان ألوهية شخصه. من خلال كلامه، أفعاله، وقبوله للتكريم الإلهي، أظهر يسوع أنه واحد مع الآب، يملك صفات إلهية مثل الأزلية، كلية القدرة، كلية العلم، والوجود في كل مكان، وأنه الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس. هذه الأدلة تجعل من المستحيل إنكار ألوهية المسيح بناءً على تعاليمه وأعماله.
قائمة المراجع
- الكتاب المقدس: العهد القديم والجديد، ترجمة فان ديك.
- أثناسيوس الرسولي. ضد الأريوسيين. الكتاب الأول، الفصل 13؛ الكتاب الثالث، الفصل 25.
- يوحنا فم الذهب. تفسير إنجيل لوقا. الفصل 4، 7.
- يوحنا فم الذهب. تفسير إنجيل يوحنا. الفصل 10، 14، 20.
- يوحنا فم الذهب. تفسير إنجيل متى. الفصل 5، 26.
- أغسطينوس. تفسير إنجيل متى. الفصل 10.
- أغسطينوس. تفسير إنجيل لوقا. الفصل 7، 23.
- غريغوريوس اللاهوتي. الخطب اللاهوتية. الخطبة الثالثة، الرابعة.