المراحل التاريخية للكنيسة 

الكنيسة، بحسب الإيمان الأرثوذكسي، هي أيقونة الثالوث القدوس ومركز الخليقة. فهي حاضرة في الزمن وجزء من التاريخ، لكنها أيضًا تتجاوز الزمن لأنها تعبّر عن التدبير الإلهي للخلاص. وقد مرت الكنيسة بعدة مراحل تاريخية ولاهوتية، تكشف عن حضور الله وتدبيره عبر العصور. هذه المراحل هي كالتالي:

كنيسة الأبكار

تبدأ قصة الكنيسة منذ خلق الكائنات العاقلة (الملائكة). يصف الكتاب المقدس هذه الكنيسة الأولى بقوله:

«قد أتيتم إلى جبل صهيون، إلى مدينة الله الحي، أورشليم السماوية، وعلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات».

ففي البداية، كان مجتمع الملائكة كاملاً في وحدة المحبة الإلهية. لكن سقوط قسم من هذا المجتمع أدخل التاريخ في مسار جديد، إذ بدأ التمايز بين الطاعة والتمرد. وهكذا يمكن النظر إلى هذه المرحلة باعتبارها التمهيد الأول لتاريخ الكنيسة، التي تمتد منذ خلق الملائكة وحتى السقوط.

 كنيسة الحياة الفردوسية

المرحلة الثانية ترتبط بآدم وحواء في جنة عدن، حيث كانت البشرية الأولى في شركة كاملة مع الله. لكن عندما اختارا العصيان، دخل الفساد والموت إلى العالم، وبدأت مسيرة الإنسان في التغرّب عن الله. ومع أن الكنيسة لم تختفِ، إلا أن شكلها تبدّل من شركة فردوسية إلى مسيرة خلاصية تحتاج إلى الفداء.

 كنيسة شعب الله المختار

تمثّل هذه المرحلة تاريخ إسرائيل كشعب مختار، كان الله يتجلى له عبر الظهورات الإلهية في العهد القديم، مثل استضافة إبراهيم للثلاثة رجال، أو ظهور الله في السحاب أثناء خروج الشعب من مصر. كان هذا التاريخ ليس مجرد أحداث سياسية، بل تاريخ تدبير إلهي حي.

لقد كان شعب الله في هذه المرحلة «نورًا وملحًا للأرض»، وجسرًا يربط بين الله والعالم، ومقدمة لكنيسة الأمم التي ستتجلى في يوم الخمسين.

كنيسة الروح القدس

تبدأ هذه المرحلة مع حلول الروح القدس على التلاميذ في يوم الخمسين، حين تأسست الكنيسة في صورتها الكاملة. إنها كنيسة الروح القدس، التي من خلالها صار للإنسان رجاء ثابت للعودة إلى حضن الآب.

في هذه الكنيسة يتحقق الانفتاح الشامل على جميع الشعوب، فهي كنيسة للجميع بلا تمييز، لأن الإنسان مخلوق على صورة الله. وتوضح قصة يونان النبي هذه الحقيقة بعمق، إذ لم يرغب في تبشير نينوى، لكن الله علّمه أن رحمته تشمل الجميع، فقال له بعد يباس اليقطينة إنه كما حزن عليها، فالله بالأولى يرحم «شعبًا كثير العدد (١٢٠ ألف نفس غير الحيوانات الكثيرة)».

هذا الانفتاح هو جوهر كنيسة الروح القدس التي تتجاوز الانغلاق والعنصرية. ويشرح القديس بولس هذه الرؤية في رسالته إلى رومية (الأصحاح 11)، حيث يرى دخول الأمم كجزء من الزيتونة، أي جسد الكنيسة. ويؤكد أن البقاء في الكنيسة مرتبط بالثبات في حياة الشركة.

أما على مستوى الحياة الروحية، فإن الجهاد والنصرة هما عنصران لا ينفصلان. فالكنيسة «مجاهدة ومنتصرة معًا من بدايتها وحتى المنتهى». وإن لم تعِ الكنيسة نصرتها على الشر وتتجاوز حدودها الزمنية، تفقد مسارها نحو الكمال.

 الكمال الأخروي للكنيسة

المرحلة الأخيرة هي الاكتمال النهائي، حين تنتهي آلام الخليقة ويُختَم تاريخ التدبير الإلهي. هذا الكمال هو دخول الكنيسة في مجد الملكوت السماوي. وكما يشرح ديونيسيوس الأريوباغي، فإن الشركة في مجد الله هي «حركة الكائنات نحو أعماق الله اللانهائية».

ويقول القديس مقاريوس:

«المسيح رئيس الكهنة الحقيقي للخيرات العتيدة، تواضع وانحنى على النفوس المصابة ببرص الخطية وهو يدخل إلى خيمة جسدها، ليشفيها ويبرئها من أمراضها. هكذا يتمكن الشخص من الدخول إلى كنيسة القديسين السماوية».


صفات الكنيسة

في قانون إيمان نيقية نعترف بالكنيسة بأنها: واحدة – مقدسة – جامعة – رسولية. هذه الصفات ليست أفكارًا نظرية، بل خبرات حيّة لجسد المسيح.

أولاً: الكنيسة واحدة

ظهر هذا التعبير في كتابات الآباء منذ القرن الثاني. قال القديس إغناطيوس الأنطاكي:

«في الجسد الواحد للكنيسة».

وقال القديس إيريناؤس:

«كما أن الشمس وهي مخلوقة من الله هي واحدة، وهي نفسها في كل المسكونة، هكذا نور كرازة الحق (المشرق من الكنيسة الواحدة)، يُضيء على كل الذين يرغبون أن يحصلوا على معرفة الحق».

أساس هذه الوحدة هو الافخارستيا. إذ يشرح الرسول بولس: «فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسد واحد لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد». فالمسيح هو «الخبز الواحد»، ومن خلال الشركة في هذا السر تتجلى وحدة الكنيسة. ولهذا يؤكد القديس يوحنا ذهبي الفم:

«إن تقديم الذبيحة في أماكن كثيرة لا يعني أن هناك مسحاء كثيرون، بل أن المسيح واحد في كل مكان، فهو هنا بكامله، وهناك بكامله أيضًا، إذ هو جسد واحد».

حتى الانقسامات الظاهرة لا تلغي هذه الوحدة الجوهرية، لأنها وحدة لاهوتية مؤسسة على المسيح، لا على العلاقات الاجتماعية. ولذلك ظل الرسول بولس يرى كنيسة كورنثوس واحدة رغم الانقسامات، وكذلك القديس كليمنضس الروماني دعاها «كنيسة واحدة».

كما أن الأسقف يلعب دورًا محوريًا في حفظ هذه الوحدة، إذ يقول القديس إغناطيوس:

«حيث يكون الأسقف هناك يجب أن تكون الرعية، وبدون الأسقف لا يجوز العماد ولا ولائم المحبة…»

ويصفه بأنه «النموذج المرئي للأسقف غير المرئي، الذي هو المسيح».

ثانيًا: الكنيسة مقدسة

القداسة ليست صفة خارجية، بل هي عطية من الله. فالكنيسة مقدسة لأن مصدرها إلهي، وهي «الكون الجديد في المسيح». واشتراك الإنسان في الكنيسة يعني السير في طريق القداسة «لأنه مكتوب كونوا قديسين لأني أنا قدوس».

هذه القداسة لا تخص أفرادًا فقط، بل تمتد لتشمل الكون كله، لأن الكنيسة تحتضن الخليقة كلها في سر الخلاص.

ثالثًا: الكنيسة جامعة

أول من استخدم مصطلح «الكنيسة الجامعة» هو القديس إغناطيوس الأنطاكي، إذ قال:

«حيث يكون المسيح هناك تكون الكنيسة الجامعة».

وقد استعمل هذا المصطلح كثير من الآباء مثل إيريناؤس، يوستينوس، أثناسيوس، يوحنا ذهبي الفم، كبريانوس، كيرلس الأورشليمي، وترتليانوس.

الجامعة تعني الكنيسة التي تقوم على وحدة الإيمان والاجتماع حول جسد المسيح، وتضم في حضنها الكنائس المكانية. وهي ليست محدودة بمكان أو زمان، إذ يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:

«الكنيسة الجامعة ليست موجودة في كل المسكونة فقط، لكنها تمتد إلى كل الأزمنة».

ويشرح القديس كيرلس الأورشليمي:

«الكنيسة تدعى جامعة لأنها تمتد في كل العالم من أقاصي الأرض إلى أقاصيها… وتخضع كل الجنس البشري للعبادة الصحيحة… وتملك في داخلها كل فضيلة ممكن تصورها»[4].

رابعًا: الكنيسة رسولية

رسولية الكنيسة تعني أن إيمانها مستمد من الرسل، الذين تسلموا الكلمة من المسيح وسلموها للكنيسة. هذا التسليم كان في البداية شفهيًا، ثم كُتب في العهد الجديد. «وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات» (أع 2: 42).

الهدف من الرسالة الرسولية هو بنيان جسد المسيح وتحقيق وحدانية الإيمان حتى «نصل إلى قياس قامة ملء المسيح» (أف 4: 13). ولا يمكن وجود كنيسة مستقيمة الرأي دون هذا التسليم. كما لا يمكن أن يوجد تسليم رسولي حقيقي خارج الكنيسة الجامعة.

يقول القديس إيريناؤس:

«حيث تكون الكنيسة، هناك يكون روح الله، فهناك الكنيسة وكل عمل النعمة. لأن الذين لا يشتركون في الروح القدس، لا يغتذون من ثدي أمهم ولا يرتوون من النبع الفياض الخارج من جسد المسيح».


خاتمة

هكذا تكشف لنا مراحل الكنيسة وصفاتها عن تاريخ الخلاص الممتد من الخليقة إلى المجد الأبدي.

فمن كنيسة الملائكة، إلى كنيسة الفردوس، إلى شعب الله المختار، إلى كنيسة الروح القدس، وصولاً إلى الكمال الأبدي، تسير الكنيسة في مسار واحد يقوده الروح القدس نحو ملكوت الله.

والكنيسة، باعتبارها واحدة، مقدسة، جامعة، رسولية، ليست مجرد مؤسسة بشرية، بل هي جسد المسيح الحي، الحاضر في العالم والممتد إلى الأبد.


المراجع

  1. Γρηγορίου Νύσσης, εξήγησης ακριβής εις το άσμα των ασμάτων, PG 44,1049C.

  2. Ν.Α. Ματσουκα, Δογματική και συμβολική θεολογία, Θεσσαλονίκη 1992, σɛλ. 377.

  3. Γ. Ι. Μαντζαρίδη, κοινωνιολογία του χριστιανισμού, Θεσσαλονίκη 1990, σɛλ 164-165.

  4. Ι. Ζησιούλα, Η ενότης της εκκλησίας εν τη θεία ευχαριστία και τω επισκόπω κατα του τρείς πρώτους αιώνας, σελ.2.

  5. Γ. Ι. Μαντζαριδη, Η αρχή της εκκλησιαστική ενότητος κατα τους πατέρας της εκκλησίας μέχρι του τρίτου αιώνας, Θεσσαλονική 1974, σελ.7.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى