خلق الإنسان على صورة الله ومثاله
تتحدث رواية سفر التكوين عن خلق الإنسان بحسب الصورة والمثال ” وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا”(تك ٢٦:١ ). وسواء في النص العبري الأصلي أو الترجمة السبعينية، فهناك ملمحاً مشتركاً يجمع بينهما وهو اختلاف الإنسان عن الكائنات غير العاقلة في أمرين أساسيين:
۱ – أن الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله.
٢ – أنه أخذ سلطانا من الله لكى يسود على الكون.
ولهذا فإن الإبداع الإنساني مرتبط بهذا المعنى أن الإنسان ” مخلوق على صورة الله “. وأيضًا السقوط الناتج عن مخالفة وصايا الله يتعلق بسلوك الإنسان طبقاً لنفس المعني، أن الإنسان ” مخلوق بحسب الصورة”.
إن تعبير ” صورة الله ” هو معنى سائد في التعاليم اللاهوتية، ويوجد في مواضع قليلة في العهد الجديد لكنها أساسية. فالتعليم الكتابي في توافق كامل مع التعليم اللاهوتى، ينسب ” الصورة ” للأقنوم الثاني في الثالوث القدوس. فالمسيح يُدعى ” صورة الله “، ” بكر كل خليقة “، ” وبهاء مجد الله “(عب ٣:١ )، “الذي وهو بهاء مجده” وأيضا ” الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله “(٢ کو ٤:٤ ) . وأيضًا في رسالته إلى كولوسي يقول الرسول بولس : ” الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة ” (کولوسی ٥:١)
إذن فالمسيح (الكلمة المتجسد ) هو الصورة الحقيقية والطبيعية للآب. التعاليم اللاهوتية عن ” الصورة ” كمفهوم أنثروبولوجي، حددت ثلاثة معان للصورة والمثال
۱ – الصورة تُعلن عن العلاقة الراسخة بين الإنسان والله.
٢ – الصورة هنا تستبعد أى صلة طبيعية في هذه العلاقة، وتقر بالاختلاف الجذرى بين الخالق والمخلوق. ولهذا فإن التعبير الصحيح هو أن الإنسان خُلق بحسب الصورة وليس هو صورة الله. “فالكلمة” فقط هو صورة الله.
٣ . هناك حركة ونمو واكتمال للإنسان في علاقته بالله وعندما يصل الإنسان إلى حالة الكمال فإنه يصل إلى المثال. هذه الحالة ناتجة عن عطية نعمة يمنحها الخالق للمخلوق.
التعاليم اللاهوتية الآبائية في مجملها ترى معنى خلق الإنسان على “صورة الله” هو أن الله قد خلقه بنفس عاقلة حرة. يقول القديس غريغوريوس النيسي [ إن أراد أحد أن يعرف كيف خلق الإنسان بحسب صورة الله ومثاله، فليبحث في تكوين طبيعة نفسه العاقلة، وليكن هدفه أن يعرف أقسامها بالتدقيق، وأقسام أقسامها، وكلماتها ، طرقها، وحداتها، تميزاتها، تفردها ووحدتها، ثالوثيتها كيف أنها واحدة وتعتبر ثلاثة أقسام، وهي واحدة في ثلاثة، بحسب صورة الله ومثاله ومن المؤكد أنها واحدة في الجوهر، لكن ليست واحدة بحسب أقسامها الثلاثة][1]. بينما يشير أبيفانيوس وايريناؤس إلى أن الخلق بحسب الصورة يشمل الإنسان كله ، أى في الوحدة النفسية الجسدية.
وعليه فسواء قيل إن الخلق بحسب الصورة، ينسحب على عمل النفس العاقلة باعتبارها الجزء الأسمى في الإنسان، أم أنه ينسحب على الإنسان كله، فإنه لا يُلاحظ أى اختلاف جذري فيما بين الرؤيتين.
الإنسان المخلوق بحسب الصورة، لديه حرية كاملة في أن يختار طريق الحياة أو أن يتجه نحو الموت والعدم فالأمر لا يتعلق بعلاقة أخلاقية أو قانونية، بل بعلاقة حياة ونمو ومسيرة نحو القداسة والكمال. وهذا يحدث لأن العلاقة بين الله والكون هي علاقة شركة. فالكون لكى يوجد ويحيا ويكمل يجب أن يكون في حالة شركة مع الله ، وغياب هذه الشركة يقود كل هذا إلى العدم.
أقطاب اللاهوت المدرسى في الغرب اعتبروا أن الشركة بين الله والكون أمر غير مقبول ورأوا في الصورة والمثال موضوعًا يدخل في إطار الوضع الأخلاقى والقانونى وليس في بعدها الكياني. فالعلاقة بين الله والإنسان تتم في إطار أخلاقى وقانونى، وأن خضوع الإنسان، يضيف له عطية المثال كمكافأة، أى أن هذه العلاقة لا تفهم في إطار شركة وحياة وبناء على ذلك إذا فقد الإنسان المثال فهو يفقد فقط شيئًا مضافًا.
أما الرأى البروتستانتى فقد رفض هذا التمييز، ورأى أن تعبير بحسب الصورة يتطابق مع المثال نفسه، لأن الأمر يتعلق بحرية الإنسان أن يقبل الخضوع أو لا يقبله. وهكذا عندما تُفقد الصورة يضيع معها المثال. لكن البروتستانتية بقيت محافظة على شكل العلاقة بين الله والإنسان في الإطار الأخلاقى والقانونى أيضاًً.
هكذا يظهر مدى الاختلاف الواضح بين التعاليم اللاهوتية الأرثوذكسية التي ترى الخلق بحسب الصورة والمثال في إطار شركة الإنسان مع الله، والتي تُعطى لوجوده هدف وقيمة ومعني، وبين التعاليم اللاهوتية الغربية سواء المدرسي منها أو البروتستانتي والتي ترى أن الخلق ” بحسب الصورة “والمثال ينحصر في بعده الأخلاقي والقانوني فقط.
الخطية الأولى ومشكلة الشر
شغلت مسألة الخطيَّة الأولى وسقوط الإنسان حيزًا كبيرًا في الفكر الآبائي، وقد تناولها الآباء من خلال عقيدة الخلق من العدم. فلكي يوجد الإنسان ويصير له كيان ويتمتع بالحياة، لابد أن يكون له شركة مع الله مانح الحياة. وكما يقول القديس أثناسيوس إن سقوط الإنسان قد صار بسبب أن طبيعة الإنسان قد أتت من العدم وبناء على ذلك فإن طبيعة الإنسان ليست عديمة التغيّر بحسب الجوهر، بل على العكس هى متغيرة بحسب طبيعتها. فالارادة الحرة للإنسان هى التي دفعته نحو التحوّل إلى الشر. وبعبارة أخرى فإن رفض الشركة مع الله والانحصار في الذات قاد إلى توقف المسيرة نحو الكمال الذي كان الله يريده للبشر.
ولهذا فالإنسان في الفردوس لم يفقد نوعًا من الصلاح، كان يجب عليه أن يستعيده، لكنه فقد الشركة مع الله ففقد بنوته لله الذي هو قصد الله من خلق الإنسان، كما يشير القديس يوستينوس بقوله : [الله خلق الإنسان على مثاله حيًا لا يموت حرًا من المعاناة، واشترط عليه أن يحفظ وصاياه ويثبت أهليته أن يدعى ابنا له ولكن الإنسان فعل فعل آدم وحواء فجلب الموت على نفسه ] وأضاف مفسرا المزمور الثاني والثمانين “أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلى كلكم لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون قم يا الله دن الأرض ، فيقول إن هذا المزمور يظل يشهد على أن جميع الناس يستحقون أن يكونوا آلهة وأن كل منهم سيدان ويُحكم عليه كما حكم على آدم وحواء.
إذن فالخطية الأولى أحدثت شرخا في علاقة الشركة بين الإنسان والله. ولهذا كان يجب أن يزول هذا الشرخ وتعود علاقة الشركة إلى سابق عهدها. لهذا فقد أكد الآباء على إن التجسد كان لازماً لخلاص البشرية حيث عجز الإنسان الساقط عن استعادة علاقته بالله بسبب الموت الذي دخل إلى البشرية بالخطية. فكان لابد أن توهب له الحياة مرة أخرى. ويُعد القديس يوحنا ذهبي الفم واحد من أهم الآباء الذين شددوا وأكدوا على عقيدة الخلق من العدم، وذلك في مواجهة الفكر اليوناني الذي كان يُنادي بأزليَّة الكون. وقد تساءل قائلاً: [كيف يمكن أن يُشكل شيء من مادة أزلية؟ لأن أزلية المادة دليل على عدم تغيرها، ومن ناحية أخرى المادة تفني وتزول، وهذا يعني أن فنائها هو دليل على عدم أزليتها. إذن فقد خلق الله كل شيء من العدم] (العظات التسع عن الخلق في تفسيره لسفر التكوين) .
وبحسب رؤية الآباء فإن الخلاص من الموت هو مساو تماما للخلاص من الخطيَّة. ولهذا يقول القديس إيريناؤس [ولأن الموت ملك في الجسد، فكان من الضروري واللازم ان يبطل الموت وان يحرر الإنسان من قبضته بواسطة جسد آخر، ولذلك تجسد الكلمة لكي بواسطة جسده يقضي على الخطية في الجسد، ويُبطل الموت الذي ملك على الجميع].
إذن الخطية هي كل مخالفة تُرتكب ضد إرادة الله وبناء عليه تصبح خطية الإنسان هي الفشل في تحقيق الهدف الأساسي الذي من اجله خلفه الله، أي التمتع بالمجد الإلهي. وبالطبع إرادة الله لا تبتغي إنهاء حياة الإنسان، وإلا فلماذا خلقه؟
وأيضًا الخطيَّة تُمثل رفض لوصايا الله، ولا يوجد تناقض بين وصايا الله وخير الإنسان لأن الله لا يوصى إلا بما يقود الإنسان لعمل الخير والتمتع بهبة الحياة. هذا يعنى أن الإنسان يختار بملء إرادته بين الحياة بحسب عطية الله وبين الموت عندما يقرر الابتعاد عن الله. كما أن رواية سفر التكوين عن الخلق والسقوط تُعطى تفسيراً لواقع الخطية من خلال عرض قصة السقوط بأمثال، مثلما فعل المسيح له المجد، عندما ذكر مثل الابن الضال، الذي هو على النقيض من قصة آدم وحواء، فبينما يخرج آدم وحواء من الفردوس، أى من الحياة مع الله، يعود الابن الضال إلى بيت أبيه بعدما تيقن أن الموت الحقيقي هو في البعد عن مصدر الحياة ومعطى الحياة هذا يعنى أن مسئولية مغادرة البيت الأبوى تقع على عاتق الإنسان وعودته أيضًا إلى بيته مسألة تخص إرادته الحرة، لكن يظل الله هو الآب الحنون المحب الذي ينتظر أبنائه، ويغفر لهم تعدياتهم ويعيدهم إلى الحياة مرة أخرى.
إن الهدف الحقيقي الذي كانت رواية الخلق والسقوط تسعى للتأكيد عليه هو أن الخطية في جوهرها، محاولة للاكتفاء بالذات. إنها إرادة الإنسان بأن يكون هو نفسه المنبع الأول لكل شئ ومصدره، عوض أن يكون في تواصل مع هذا المنبع الذي يستمد منه وجوده وكيانه واستمراره .. هذه الاكتفائية التي تدفع الإنسان إلى اعتبار ذاته مصدرًا لكل شئ هي التي عبّر عنها سفر التكوين بعبارة ” معرفة الخير والشر”، “تكونان كالله عارفين الخير والشر “. والمقصود هنا ليس التمييز بين الخير والشر، الذي هو من خصائص العقل الممنوح للإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، بل المقصود هو سلطان تقرير ما هو الخير وما هو الشر، وأيضًا المعرفة الإختبارية للشر. وفي هذا يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لا ينبغي لنا أن نعتمد على شهادة الشيطان في أن الأكل من الشجرة سوف يهب الإنسان معرفة الخير والشر]. ويؤكد بأن المقصود بالخير في رواية سفر التكوين هو طاعة الوصية، والمقصود بالشر هو عصيانها، وعلى هذا الأساس فإن معرفة آدم للشر معناها المعرفة الإختبارية، ويوضح القديس يوحنا ذهبي الفم ذلك بأمثلة ، فيقول 1 إن قايين كان عارفا بأن قتل أخيه شر، لكنه نال المعرفة الإختبارية لهذا الشر بإرتكابه هذا الجرم، وهذا ظهر لما أحس بالخوف. يقول أيضا الإنسان يعرف ماهية المرض، لكن حين يختبره، تنتقل المعرفة من معرفة نظرية إلى معرفة إختبارية “. لكن الإنسان لا يستطيع في الحقيقة أن يبلغ ملء وجوده ،وحياته إلا من خلال الله واهب الوجود والحياة، فوجود الإنسان واستمراره في الحياة يعتمدان على الله مانح الحياة.
أما في العهد الجديد فهناك إشارات لموضوع الخطية الأولى في رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية، يقول ” من أجل ذلك كأنما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت هكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع”. يقول أيضا : “الخطية وهى متخذة فرصة بالوصية أنشأت فى كل شهوة. لأن بدون الناموس الخطية ميتة. أما أنا فكنت بدون الناموس عائشا قبلاً. ولكن لما جاءت الوصية عاشت الخطية فمت أنا”.
في الاشارة الأولى يؤكد على أن الموت اجتاز إلى جميع الناس، لأن الجميع أخطأوا بسبب القطع الإرادى لرباط الشركة بينهم وبين الله، ونشأت حالة أو مناخ من عدم المحبة، بسبب هذه الذاتية المريضة التي قادت الإنسان إلى الإعتقاد بإمكانية الحياة بمعزل عن الله مُعطى الحياة.
الاشارة الثانية تُعيد للأذهان حالة آدم وحواء ، اللذان كانا في جنة قبل الخطية، أى في الحياة الحقيقية، وهنا يشير النص إلى حالة الإنسان قبل الخطية. والمجرب سواء في سفر التكوين أو في الرسالة إلى رومية، هو عامل شرير خارج عن إرادة الإنسان يُرمز إليه بالحيَّة في رواية سفر التكوين، وجسد الخطية عند الرسول بولس. لكن تظل مسئولية الإنسان فيما يخص تغرّبه عن الله وابتعاده عن مصدر حياته ووجوده، مسئولية شخصية أى أنها تعتمد على إرادته الحرة في الاختيار، فإما أن يختار طريق الحياة ليحيا، وإما أن يختار طريق الموت المؤدي للفناء والهلاك الأبدى. ولذلك يرى آباء الكنيسة الشرقية أن مسئولية الخطية هى مسئولية شخصية. على خلاف الكنيسة الغربية التي ترى أن الإنسان وارثاً للخطية، أى أن الخطية انتقلت بالوراثة إلى كل البشر.
اللاهوت الآبائى رأى الخطية الأولى كمرض أصاب طبيعة الإنسان. وقد أكد القديس أثناسيوس: [على أن التجسد كان ضروريًا لأن التوبة لم تكن تكفى لرفع الفساد الذي أصاب طبيعة الإنسان نتيجة سقوطه]. التعاليم الآبائية لا تُشير إلى موضوع وراثة الذنب، بل إلى وراثة الفساد والموت اللذين دخلا إلى العالم[3]، وذلك بعكس اللاهوت الغربي الذي شدّد على فكرة وراثة الذنب وهى فكرة تأتى في اتجاه مضاد تمامًا للتقليد الأرثوذكسى الذي يرى في سلوك الإنسان الحر واختياره طريق المعرفة الذاتية، من خلال تجربة الفردوس (الاختيار بين شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشر) صورة لكسر الوصية وتشويه للعلاقة بين الله والإنسان. لأن المعرفة الذاتية هي معرفة غير كاملة، وبدلاً من أن يسلك الإنسان غير الكامل طريق الكمال، نجده يتمرد ويتخيل نفسه مثل الله ” وتكونان كالله عارفين الخير والشر ” . وبناء عليه فإن الأمر لا يتعلق بمخالفة أخلاقية، لكنه يتعلق بمقارنة مجحفة بين الكائن المخلوق المحدود وبين الله غير المحدود وغير المدرك ، إذن فالأمر يتعلق برفض إرادي لهذه الشركة المحيية. عودة الحياة للإنسان مرَّة أخرى كان يتطلب تحررا من الخطية وخلاصاً من الموت، ولما كان الإنسان غير قادر أن يصنع هذا بذاته، كان مجىء المسيح أمرًا لازمًا، كما يقول القديس كيرلس الاسكندرى [كان من غير الممكن أن يخلص الإنسان وأن يتحرر من الخطية والموت، بدون مجىء المسيح]. والسبب وراء عدم قدرة البشر على التحرر من قيود الفساد والموت، أنهم تجردوا من عمل النعمة لأنها إنتزعت منهم ، هكذا يصف القديس أثناسيوس حالة آدم وذريته بعد السقوط: [ الذين نزعت منهم النعمة التي سبق أن أعطيت لهم وهى مماثلة صورة الله]. ويؤكد القديس كيرلس الاسكندرى على هذه الحقيقة أيضًا، قائلاً: [ لأنه من غير الممكن لنفس الإنسان التي لا تثبت في نعمة الروح القدس وفي المسيح أن تفعل الصلاح وتنجو من فخ الشيطان]. وهذا ما أشار إليه القديس إيريناؤس بقوله: [إن مفارقة نعمة الروح القدس لآدم ونسله قد جعلت نفوسهم في حالة موت. وقد أراد الشيطان أن يُميتهم بحسب الجسد لكنه لم ينجح في مسعاه].
إلا أنه قد نجح بعد ذلك في أن يقتل هابيل البار بواسطة قايين وكانت هذه هي أول جريمة قتل جسدية في العالم. وهكذا ملكت الخطية على الجميع من خلال العمل المشترك بين الشيطان وأعوانه من الملائكة الساقطين وإستجابة الأشرار من البشر لهذه الأفكار والأعمال الشريرة وهنا سمح الله بالموت وفناء الإنسان، لكي لا يبقى الشر خالدًا، ومن ناحية أخرى لكي يعيد خلق الانسان من جديد في شخص “الكلمة المتجسد” الذي جاز الموت وقام حيا لكي يُبطل سلطان الموت، ويُحيّ الإنسان إلى الأبد.
وقد اختلف التعليم اللاهوتي الأرثوذكسى عن التعليم الغربي في التفسير المتعلق بدور الشيطان. بداية من أغسطينوس فصاعدًا، أُعتبر الشيطان أداة عقابية على مخالفة الإنسان لوصية الله.
بينما يؤكد التعاليم الأرثوذكسي على أن الإنسان كان ضحية لغواية الشيطان، كما تذكر الليتورجيا ” وعندما خالفنا وصيتك بغواية الحية سقطنا من الحياة الأبدية ونُفينا من فردوس النعيم ” إذن فالسقوط من الحياة الأبدية قد تم بغواية من الشيطان. التجربة الشيطانية تُشكل البداية لاقتراف الخطأ كما يصف الاصحاح الثالث من سفر التكوين هذه الحقيقة. فالخطية ترتبط بحضور الشيطان، فهو مضاد لخطط الله.
هكذا فإن التعليم الأرثوذكسى لا يرى الشر كعقاب لمخالفات أخلاقية أو خروج على نظام قانوني، بل يراه كمرض وغياب للصلاح لأن الشر ليس له كيانا، والله لم يخلق شيئًا شريراً ، فكل ما خلقه الله كان حسنًا جدا . يقول القديس باسيليوس: [ إن كان الله مُسببًا للشرور فهذا يعني أن الله ليس صالحاً. فالموت على سبيل المثال يأتي من قبل الله، لكنه ليس شر، بل يصبح شرا فقط في حالة موت الخاطيء والموت بالنسبة للخاطيء الذي رحل عن هذا العالم يعتبر بداية الجحيم والهاوية. وأيضًا ما يُلاقيه الإنسان من آلام في الهاوية ليس الله هو المتسبب فيها، بل الإنسان نفسه، لأنه كان في مقدوره أن يختار بين فعل الخطية أو رفضها، وكان في إمكانية الخطاة الإبتعاد عن فعل الشر، وتجنب أية نكبات]. ثم يُضيف قائلاً : [ مثلما نَصف الطبيب بأنه مُحسن وكريم، حتى ولو تسبب في إيلام الجسد(لأنه يُحارب المرض وليس المريض)، هكذا الله إذ هو صالح، يُدبر أمر خلاصنا من خلال جملة من الأمور التي قد تبدو صعبة ومؤلمه. فنحن لا نلوم الطبيب ولا نتهمه بأي إتهام عندما يقوم ببتر جزء من أعضاء الجسد ، بل نعطيه أيضًا أجرًا أو مكافأة ، وندعوه مخلصًا لعمله، لأنه يوقف المرض عندما يظهر في جزء صغير من الجسد ، حتى لا ينتشر في كل الجسد]. وفي كل مرة يفقد الإنسان هدفه نحو تتميم عمل الصلاح، فإنه يوجد في حالة خداع وفقدان للهدف الحقيقي، فيصنع ما يعتقده هو أنه صالح، فيمارس أعمالا تقوده إلى العدم. الرؤية الأرثوذكسية هنا أيضًا بشأن مشكلة الشر تختلف عن الرؤية الفلسفية، على الرغم من التشابه الخارجى الذي قد يبدو بينهما فالتعاليم الأرثوذكسية تتحدث عن الشرَّ كعدم أو كغياب للصلاح هكذا أيضًا الفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة، ومع هذا فإن هذا الشبه الملحوظ هو شبه لغوى فقط.
العدم في الفلسفة غير مرتبط بالخلق، أما في التعليم اللاهوتي الأرثوذكسي فلكى تكتشف معنى العدم لابد أن تفهم معنى الخلق، أى أن العدم يُفهم بالمقارنة بالله المعطى الوجود والحياة. بينما الفلسفة ترى أن العدم حقيقة موجودة، وعادةً ما تُدعى بالحقيقة المادية. في كل مرة تصير فيها الحقيقة الغير مادية أسيرة للجمود المادى والكثافة المادية يوجد الشر والحالة التقليدية المعروفة عند أفلاطون هي سقوط النفوس، فقد علّم بأن النفوس عندما سقطت حبست في أجساد.
بينما الرؤية الأرثوذكسية ترى أن المادة أيضًا صالحة[4] وأن الشر يحدث بفعل ارادة الإنسان الحرّة في ترك الصلاح الإلهي وسلوك طريق آخر يرسمه الإنسان لنفسه بمعزل عن الله معطى الحياة ومصدر كل صلاح.
- “خلق الإنسان على صورة الله ومثاله” للقديس غريغوريوس النيسي، إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، ترجمة د. سعيد حكيم، ص ١٥.
- “ Karl Barth “the Doctrine of Creation – the creator and his creature-“Vol III, part3, 1968, P.19-30.
- Κυρίλλου Αλεξανδρείας. Εις την προς ρωμαίους Επιστολή PG74, 789
- Ειρηναίου, Έλεγχος και Ανατροπή της ψευδωνύμου γνώσεως P.G 7, 505A.