الحجاب أو حامل الأيقونات
كان القداس الإلهي قبل مجمع نيقية سنة ٣٢٥م يُمارس بكل دقائقه الطقسية منظوراً من الشعب. ثم دخلت فكرة الرهبة والخوف من السر المقدَّس والتي بدأت في سوريا أولاً – كإحدى سمات الطقس الأنطاكي – إذ أن كلمة “المقدَّس” في السريانية تعني دائماً «الخطير». ولأن الكهنة – بحكم شخصياتهم المقدسة – كانوا مصونين من رهبة الحضور أمام السر المقدس بخلاف الشعب، فقد وضعت ستارة (أي حجاب) تفصل بينهم وبين الشعب، كما كان حجاب العهد القديم يفصل بين القدس وقدس الأقداس.
هذه الستارة التي عرفت في الفترة المبكرة جدا من تاريخ الكنيسة كانت تسدل على أربعة أركان المذبح في وقت محدد من الصلوات الليتورجيَّة، لاسيما عند بداية القسمة. ولقد شاعت هذه الستارة في كلا الكنيستين القبطية والأرمينية، إلى جانب الكنيسة السريانية الأنطاكية.
ثم ظهر في الكنيسة القبطية في العصر الفاطمي الحاجز الخشبي المشغول حاويا فراغات كثيرة، وهو حاجز لا يحجب الهيكل عن الكنيسة بل يفصل بينهما فحسب. ويذكر يوسابيوس القيصري (٢٦٠- ٣٤٠م) المؤرخ أن الكنيسة الكبيرة في مدينة صور بفلسطين كان لها مصبعات من الخشب المشغول بدقة فنية تثير دهشة الناظرين.
أما أول مرة نقابل فيها الحجاب المبني في الكنيسة، ليفصل بين هيكلها وصحنها فكان في كنيسة أجيا صوفيا بالقسطنطينية، والتي بناها الإمبراطور جوستنیان (٥٢٧۔ ٥٦٥م) في القرن السادس الميلادي. وكان منظر الحجاب في الكنيسة اليونانية مشابها للمناظر الخلفية للمسارح اليونانية، إذ أن الطقس اليوناني قد أخذ بالفعل شيئاً من صفات الدراما. وهذا الحجاب كان مصنوعاً من الفضة، مقسم إلى أقسام طولية محفور عليها أيقونات للسيد المسيح وقديسين آخرين.
ويذكر جور Goar أن شكل هذا الحاجز قد شاع منذ القرن الثامن الميلادي، ثم أدخلت عليه تعديلات لتوفير فراغ أكثر لتركيب الصور كرد فعل فني حاد معارض لحرب الأيقونات في الكنيسة اليونانية. وهو ما يؤكده دكتور بورمستر HE. Burmester. بقوله إن الإيقونستات بوضعه الراهن والمسدود تماماً، وعليه أيقونات القديسين قد ظهر بدءًا من القرن الثامن أو التاسع في الكنيسة البيزنطية كرد فعل لحرب الأيقونات في العالم البيزنطي.
ويذكر البطريرك إغناطيوس أفرام الثاني بطريرك الكنيسة السريانية الأنطاكية أنه ليس من عادة السريان أن يضعوا فوق أبواب الهياكل الثلاثة التي تفصل الهياكل عن الخوروس صور الرسل والقديسين كما شرع اليونان يفعلون منذ ظهور هرطقة محاربي الأيقونات.
إلا أن الأب جريجوري دكس G. Dix يقول: “إن الأيقونستات“ قد ظهر أولا في شمال سوريا في أواخر القرن الرابع الميلادي وسرعان ما انتشر في الكنيسة الشرقية والغربية. وسواء هذا أو ذاك فلم يكن الحجاب الذي تعلق عليه الصور أو الأيقونات قبطيا في الأصل.
ومع هذا التطور السريع في شكل هذا الحاجز أو الحجاب، إلا أنه ظل يُصنع في كنيسة مصر من الخشب المشغول المزيّن بزخارف من الأرابيسك الصعب التركيب، أو من الأشكال الهندسية بديعة الجمال، ومطعم بصلبان ونجوم من العاج، منحوتة بدقة عجيبة، دون اهتمام بترك مساحات فيه لتركيب الأيقونات عليها. وفي ذات الوقت كان يمكن أن يُحفر على هذا الحجاب المصنوع من الخشب المنقوش صور بعض القدّيسين، وذلك لغاية القرن الحادي عشر. وفي منتصف هذا الحاجز باب الهيكل، وهو بضلفتين تفتحان إلى داخل الهيكل عند بدء الخدمة، وهما من ذات الخشب المشغول، والمطعم بدقة عالية تدعو إلى التأمل. وهو ما نجده حتى اليوم في كنيستي أبي سرجة والعذراء بحارة زويلة. ولا يتجاوز الزمن الذي أقيمت فيه هذه الحواجز القرن العاشر، ولابد أنه قد وضع في مكانه بالكنيسة قبل ذلك مبكرا بقرن آخر من الزمان.
ويحتفظ المتحف القبطي بباب كنيسة الست بربارة، يعود تاريخه إلى القرن الرابع الميلادي. وبأعلى كل من مصراعيه نقش بارز يمثل السيد المسيح داخل إكليل من الغار يحمله ملاكان، وعلى جانبيهما اثنان من الإنجيليين، وفي وسط أحد المصراعين مارمرقس الإنجيلي، وفي منتصف الآخر ماربطرس، وتحت كل منهما رسم السيد المسيح محاطاً بالاثنى عشر رسولاً وفيه أيضا لوحة تمثل السيد المسيح ممتطيا جحشا داخلاً أورشليم، وأمامه أشخاص يلقون ثيابهم تحت أرجل الجحش وعليها نصوص يونانية من القرن الخامس.
ثم بعد ذلك كان الحجاب يُصنع من الخشب المشغول المطعم بالعاج والأبنوس بالتبادل كتحفة فنية رائعة. وعلى جانبي بابه الرئيسي كانت توجد نافذتان صغيرتان تستخدمان لمناولة المؤمنين من الأسرار المقدسة حتى لا تخرج المقدَّسات خارج الهيكل. وكانتا تستخدمان أيضا المراقبة أبواب الكنيسة في عصور الاضطهاد. ثم علقت أيقونات بعض القدّيسين أعلى هذا الحجاب الخشبي المشغول والمطعم بالعاج.
أي أن التقليد القبطي ظل يكتفي بنقش بعض أيقونات السيد المسيح والقديسين على الحاجز الخشبي المشغول ذات الفراغات التي لا تحجب رؤية الهيكل، سواء بالحفر أو بالبارز . ثم كانت المرحلة التالية حينما علقت الأيقونات المرسومة – وليس المنقوشة على الخشب – في أعلى الحجاب الخشبي المشغول ليظل بفراغاته كاشفاً للهيكل المقدس.
أما نماذج الأيقونستات ذات المدخل المنخفض، فهي ليست إلا تطويراً لنظام أقدم زمناً ، أي أن هذه المداخل المنخفضة هي أكثر حداثة. لأن كنائس الأديرة ولاسيما أديرة القديس أنبا مقار، والسيدة العذراء السريان، والقديس أنبا بيشوي، نجد فيها أن باب الهيكل يُفتح ليكشف تماماً كل الهيكل عند بدء الخدمة وأن الحروف السريانية المدونة على العارضة العليا لأبواب الكنيسة الكبرى بدير السريان تحدد تاريخ هذه الأبواب بما لا يتجاوز سنة ٧٠٠ ميلادية.
ولم يعتد السريان والأرمن بوضع الأيقونات على الحجاب. ولازال الحجاب عند الأرمن عبارة عن ستارة فقط. أما الموارنة وتحت تأثير اللاتين فلا يستعملون حجاباً أو حامل أيقونات.
وابتداء من القرن الرابع عشر وأوائل الخامس عشر أو قبل ذلك بقليل، صار حامل الأيقونات معروفا ومستخدماً في كافة الكنائس الشرقية، وصار هذا الحاجز حائطاً من الخشب أو الحجارة لتعليق الأيقونات عليه. ومن هنا كان اسمه، فهو في اليونانية eikovmotions (إيقونستاسز) أي حامل الأيقونات فوجود أيقونات القديسين بين الهيكل (أي السماء)، وبين ساحة الكنيسة (أي الأرض) هو لإظهار هؤلاء القديسين شفعاء للكنيسة التي على الأرض عند تلك التي في السماء.
ولقد كان لتأثير الفن في العصر الإسلامي على أحجبة الكنائس والحشوات الخشبية شأناً واضحاً. ومن ذلك حجاب بكنيسة العذراء بحصن دير القديس أنبا مقار ، وبعض حشوات تزين أحجبة الهياكل الثلاثة بكنيسة أنبا مقار بوادي النطرون، وحجاب كنيسة الست بربارة. هذا بخلاف أحجبة وحشوات أخرى بالعديد من الكنائس والأديرة، وكثير منها محفوظ بالمتحف القبطي مزيَّن بزخارف نباتية وهندسية وبخاصة الأطباق النجمية المطعمة بمواد غالية الثمن. وتتبع هذه التحف الخشبية وغيرها المراحل المختلفة لتطور فن الحفر على الخشب في العصر الفاطمي. وفن الحفر والتطعيم بمواد مختلفة في العصرين المملوكي والعثماني. وكذلك تشير جدران الكنائس بالفسيفساء الرخامية إلى مدى الاستفادة من فنون العصرين المذكورين.
فالكنيسة القبطية لم تعزل نفسها بعد الفتح الإسلامي، ولم يتخذ الأقباط موقفا عدائيا ممن أحاط بهم وإن استفادة المسلمين من فن الأقباط في البداية أعقبه تأثير فني إسلامي على كنائس وأديرة الأقباط.
والكنيسة القبطية ليس لديها ترتيب محدد لوضع أيقونات القديسين على الحجاب أو حامل الأيقونات باستثناء أيقونة السيد المسيح عن يمين الداخل إلى الهيكل من بابه الملوكي، وأيقونة السيدة العذراء تحمل الطفل يسوع على يسار الداخل إلى الهيكل، وبذلك تجلس الملكة عن يمين الملك في مواجهة الشعب.
وفي كثير من الكنائس القبطية تكون أيقونة القديس يوحنا المعمدان إلى جوار أيقونة السيد المسيح مباشرة، لأنه السابق الصابغ. وإلى جوار أيقونة السيدة العذراء أو بعدها بقليل تكون أيقونة رئيس الملائكة ميخائيل كما في كثير من الكنائس القبطية. وعدا ذلك فيمكن وضع أي أيقونات لملائكة أو لقدّيسين، ولاسيما لقدّيس الكنيسة التي تسمّى على اسمه.
أما ترتيب أيقونات القديسين بحسب ترتيب كتابي دورتي عيدي الصليب والشعانين فلربما يكون هو الترتيب الأوفق، إلا أنه لا يمثل التقليد القبطي القديم بثرائه وغناه الليتورجي، حيث أن دورة عيدي الصليب ودورة عيد الشعانين وما يقرأ فيها من فصول من الأناجيل المقدسة أمام أيقونات القديسين ما هي إلا أحد الممارسات الطقسية التي عرفتها بعض الأماكن في مصر، وهي الممارسة التي سادت، حيث جمدها ظهور المطابع، وطبعها في كتاب ابتداء من سنة ۱۹۲۱م.
إن الإيقونستات أو حامل الأيقونات بأيقونات القديسين عليه يؤكد وحدة الكنيسة التي في السماء مع نظيرتها التي على الأرض في الصلاة والتسبيح للمسيح الإله. فأيقونات القديسين هي الجانب المنظور لأعضاء الجسد غير المنظور، جسد المسيح الواحد.
والأيقونات المقدَّسة في الكنيسة قد تكرست بالصلاة وبالدهن بالميرون المقدس الذي هو ختم الروح من يد الأسقف. وتقبل الأيقونة وقت تكريسها نفخة الروح القدس ليعمل الرب بها للشفاء واستجابة الصلاة وبهذا الطقس تكون للأيقونة صفة الأقداس في الكنيسة، ويصير لها هيبة المذبح. وبذلك يجب السجود أمامها، وتوقيرها، وتقديم البخور أمامها.
إن التطلع إلى الأيقونة رجاء، وتقبيلها إيمان وإيقاد الشمعة أمامها صلاة، والكل معا هو كمال الحب ، حب البنين للكنيسة وعريسها، وحب المسيح وعروسته لبنيها.
وتدلي السُرُج (القناديل) الموقدة أمام أيقونات القديسين تعلن أنهم قد أكملوا المكتوب “أنتم نور العالم”. والشمعة الموقدة أمام أيقونة السيد المسيح تعلن أنه هو النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت إلى العالم. أما وضع مصابيح كهربائية على الحجاب في مواجهة المصلين فهو ما يتنافى مع الذوق الديني، والوقار اللائق بأماكن العبادة.
وعن القناديل الجميلة التي رأها المؤرخ الفريد بتلر في الكنائس معلقة أمام الأيقونات المقدَّسة، فيتحدَّث عنها، ولكن مع شعور بالأسى والحسرة فيقول: أما القناديل والأضواء الخاصة بالكنائس القبطية فهي متعدّدة وجميلة بحيث يتطلب عرضا مسهباً.
وفي البداية أذكر – وأنا في شديد الأسف والحسرة – القناديل القديمة المصنوعة من الزجاج المطلي بالتصميمات الرائعة من الميناء ومجموعات الكتابة العربية المنقوشة بأجمل الألوان. وأيضا تلك التي تنتمي إلى أعمال فناني القرن الثالث عشر والتي كانت معلقة يوما ما أمام الهيكل في العديد من الكنائس القبطية، ولكنها اختفت الآن كلية، ولم يتبق منها إلا عينة واحدة أو اثنتان يمكن مشاهدتهما في المتحف البريطاني ومتحف ساوث كنسنجتون Kensington ، ولكل قنديل ثلاثة مقابض لكي يعلق بها، وهي تشكل إطاراً يدخل فيه وعاء الزيت.
أما تأثير النور الذي يشع منه فقد كان ينتشر ناثرا كافة ألوان المينا في بهاء عظيم. ومازال نفس هذا القنديل المصنوع من الزجاج غير المزخرف، موجوداً في كنيسة أو كنيستين كما هو الحال بكنيسة أبي سرجة، حيث يخفونه ولا يستخدمونه سوى مرة واحدة في السنة في يوم الجمعة العظيمة. كما يوجد قنديل آخر بكنيسة ست مريم بدير أبي سيفين. وقد زينت كنائس أديرة الصحراء والعديد من المساجد القديمة في القاهرة بهذه القناديل الفخمة. ولكن قبل الحرب بقليل رفعت كافة هذه القناديل حسب أوامر رياض باشا رئيس الوزراء آنئذ. وتم تخزينها في صناديق ووضعت في المكتبة العامة وهي مصنفة الآن تحت رقم ۸۰ بمتحف الفن الإسلامي.
أما القناديل الزجاجية التي على شكل الفنجان والسلطانية ذات الحافة، والتي تعلق بواسطة السلاسل، فإنها شائعة في الكنائس القبطية، وهي تعلق أمام الصور وحاجز المذبح أو في الشرقية.
ولحامل الأيقونات ثلاثة أبواب، الأوسط فيها يُدعى الباب الملوكي – “Royal Door”، وخروج الأسقف من الهيكل عبوراً بهذا الباب لقراءة الإنجيل المقدَّس رمز لنزول المسيح له المجد إلينا على الأرض لدعوتنا للخلاص والبشارة بميراث ملكوت السموات المعد لنا.