المسيح في صلاته من أجلنا
[كل صلاة صلاها المخلّص إنما قد صلاها بالنيابة عن طبيعة الإنسان]
القديس أثناسيوس
[نحن الذين كنا فيه نصلی بصراخ شدید ودموع ونطلب أن يبطل سلطان الموت]
القديس كيرلس الكبير
تدعونا الكنيسة المقدسة أثناء الصوم الكبير إلى أن نوجه أنظارنا نحو المخلص الذي انفرد من أجلنا أربعين يوماً وأربعين ليلة على الجبال العالية» ليقدم الصوم والصلاة الدائمة بالنيابة عن البشرية كلها التي كان يحملها في ذاته، أو على الأقل كان يمثلها بنوع فريد.
تعالوا انظروا مخلصنا محب البشـــر الصـالح
صـنع فعــل الصـــوم مـع عظـم تواضــعه
فــوق الجبـال العاليــة بانفــراد جســـدي
وعلمنـــا المســــير لكي نسير مثله
ذكصولوجية الصوم المقدس
وإن كان الإنجيليون لم يذكروا شيئاً عن صلاة الرب على مدى هذه الأربعين يوماً والأربعين ليلة، إذ اعتبروا هذا أمراً مفروغاً منه إلا أنهم عادوا وأكدوا بإلحاح وتكرار في مناسبات عديدة محبة الرب للاعتزال في الجبال والمواضع المنفردة لقضاء الليل كله في الصلاة لله أبيه.
وقبل أن نعرض تفسير الآباء لصلاة الرب من أجلنا، يليق بنا أن نسترجع أولاً آيات الإنجيل التي تصف لنا الرب يسوع مقبلاً على الصلاة في كل مناسبة، ومسرعاً إلى المواضع المنفردة ليمارس، بـــلا مانع، حديثه السري مع الآب:
١ – أثناء معموديته: «وإذ كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليـــه الروح القدس بهيئة جسمية…» (لو ٢١:٣و ٢٢).
۲ – بعد شفاء حماة سمعان: «وفي الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك فتبعه سمعان والذين معه ولما وجدوه قالوا له إن الجميع يطلبونك» (مر ۱ : ٣٥ – انظر أيضاً لو ٤٢:٤).
۳ – بعد شفاء الأبرص: «فذاع الخبر عنه أكثر. فاجتمع جموع كثيرة لكي يسمعوا ويشفوا به من أمراضهم. أما هو فكان يعتزل في البراري ويصلي» (لو٥ :١٦,١٥).
٤ – قبل اختيار الرسل: «وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة الله. ولما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر…» (لو١٢:٦).
٥- عند سماعه بقتل يوحنا المعمدان: «فلما سمع يسوع انصرف من هناك في سفينة إلى موضع خلاء منفردا» (مت ١٣:١٤).
٦ – بعد معجزة إشباع الجموع: « وبعد ما صرف الجموع صعد إلى الجبل منفرداً ليصلي. ولما صار المساء كان هناك وحده» (مت ٢٣:١٤ ، انظر أيضا مر ٦: ٤٦ ويو ٦: ١٥).
– قبل سؤاله التلاميذ عما يقول الناس عنه: «وفيمـا هـو يصلي على انفراد كان التلاميذ معه فسألهم فسألهم من تقول الجموع إني أنا» (لو ۱۸:۹)
۸ – في حادثة التجلي: «وفيمـا هـو يصلي صارت هيئـة وجهـه متغيرة ولباسه مبيضاً لامعاً» (لو ۹: ٢٩).
۹ – قبل تعليمه الرسل الصلاة الربية: «وإذ كان يصلي في ،موضع لما فرغ قال واحد من تلاميذه يا رب علمنا أن نصلي كما علم يوحنا أيضاً تلاميذه» (لو ١:١١).
۱۰ – في أيامه الأخيرة في أورشليم: «وكان في النهار يُعلم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يُدعى جبل الزيتون» (لو ۳۷:۲۱)
۱۱ – بعد العشاء الأخير يوحنا ١٧ كله.
۱۲ – صلاة الرب في جسيماني: «وإذ كان في جهاد، كان يصلي بأشد الحاجة. وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض» (لو ٤٤:٢٢ ، انظر أيضاً مت ٣٦:٢٦-٤٤ ، مر٣٢:١٤-٣٩، وقارن مع يو ١٢ : ٢٧ و ٢٨ وعب ٥ : ٧-١٠).
والآباء في تفسيرهم لصلوات الرب من أجلنا – كما أيضاً في تفسيرهم الجميع أفعال الرب في حياته الأرضية – ينتحـون عـادة أحد المعاني التالية:
١ – المسيح كان يصلى كمثال لنا.
۲ – المسيح كان يصلي كشفيع لنا، أو كرئيس كهنة، أو كمن ينوب عن البشرية كلها ويتكلم عنها أمام الآب.
٣- المسيح كان يصلي كمن يحتوينا في نفسه.
١ – المسيح كان يصلي كمثال لنا
قدم المسيح لنا كل أفعاله الأرضية لتصير لنا نموذجاً أعلـى ونبراساً للسلوك الروحي. وهذا المعنى سنجده بكثرة في كتابات الآباء، وكثيراً ما يستشهدون في ذلك بما قاله بطرس الرسول إن الرب «قد ترك لكم مثالاً لكي تتبعوا خطواته» (۱بط ۲ : ۲۱)، وبما قاله بولس الرسول: «كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح» (اكو١:١١).
يقول القديس كيرلس الكبير في تفسيره لإنجيل لوقا (١٢:٦) «وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي وقضى الليل كله في الصلاة لله»:
[كل ما فعله المسيح إنما كان من أجل منفعتنـا نجـن والخير الذين يؤمنون به. فهو يقدم لنا أفعاله لتصير لنا بنوع ما نموذجاً للسلوك الروحي، حتى ينهضنا كعبادٍ حقيقيين. فلننظر إذا إلى هذا النموذج وإلى هذا المثال الذي قدمه لنا المسيح بأفعاله، لنرى كيف ينبغي أن نقدم طلباتنا الله :
إننا يجب أن نصلي سراً وفي الخفاء وبدون أن يرانا أحد،
لأن هذا هو القصد من ذهاب يسوع إلى الجبل وحده ليصلي في خلوة. وهذا أيضاً هو ما علمنا إياه قائلاً: «وأما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعـك…» (مت ٦:٦). ثم يجب أن نصلي غير طالبين المجد الباطل، بل رافعين أيادٍ طاهرة بينما ينطلق الفكر إلى العلاء إلى مستوى الرؤيا الإلهية، وذلك بامتناعـه عـن كل طياشة وانفصاله عن كل اهتمام عالمي.
وينبغي أن نسعى في ذلك بلا شبع وبدون توان أو صغر نفس بل بنشاط واجتهاد ومثابرة غير عادية. فإنك قد سمعـت ليس فقط أن المسيح صلى بل أنه قضى الليل كله في الصلاة… فقد قضى ربنا يسوع المسيح الليل كله في الصلاة الله أبيه في السموات متبادلاً معه الحديث بطريقة لا ينطق بها وفائقة للعقل وهو وحده يعرفها، غير أنه في ذلك أيضاً قد جعل نفسه مثالاً لنا مُظهراً لنا ما يلزم لخلاصنا ومعلماً إيانا كيف ينبغي أن نرفع صلواتنا باستقامة بلا عيب].
باترولوجيا جريكا (٥٨٠:٧٢)
ويقول أيضاً في تفسيره لصلاة الرب أثناء معموديته: «وإذ كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس» (لو ۳ : ۲۱):
[ فلكي يعرفنا ما هي قوة المعمودية المقدسة وما أعظم ما ربحناه حينما اقتربنا إلى هذه النعمة؛ بدأ بنفسه هذا الفعل (الصلاة) بأن صلى في لحظة معموديته حتى تتعلم أنت أيها الحبيب أن الصلاة بلا انقطاع هي أكثر عمل لائق بالذين استحقوا مرة أن ينالوا المعمودية المقدسة ].
(تفسير لو ۳ : ۲۱ ، ب. ج ٥٢٤:٧٢)
أي إن قوة المعمودية (الولادة الجديدة – التبني) هي الدخول في علاقة مستمرة بالآب السماوي، بالصلاة الدائمة على مثال علاقة الابن الوحيد بأبيه السماوي.
وفي تفسيره لإنجيل متى (مت ٢٣:١٤): “بعدما صـرف الجمـوع صعد إلى الجبل ليصلي. ولما كان المساء كان هناك وحده”، يقول القديس كيرلس
[إنه قد صلى إلى المساء ليظهر لنا أنه ينبغي ألا نمل سريعاً بـل أن نستمر ونثابر ونظهر طول الأناة في الصلاة ].
(ب. ج ٤١٧:٧٢)
فالمسيح قد صار لنا مثالاً حياً للاستمرار في الصلاة والمثابرة فيها، وكذلك لتقديمها بشدة وبتركيز
[إنه يحثنا أن نوجه صلواتنا بشدة (أو بتركيز) نحو الله وأن نجعل الطلبة ترتفع إليه بدون انقطاع. فقد علمنا ذلك لما قدم في أيام جسده طلبـات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت» (عب ٧: ٥]
(عن الإيمان القويم إلى الملكات : ٣٩، ب. ج ١٣٨٩:٧٦)
[ ففي كل مناسبة إذا نحن نراه يصلي على انفراد لكي تتعلم أنت أيضاً أنه يجب عليك أن تتبادل الحديث مع الله الفائق لكل شيء بفكر غير طائش وبقلب منجمع].
(تفسير لو ۳۹:۲۲، ب. ج ۹۲۱:۷۲)
۲ – صلوات الرب كشفيع ورئيس كهنة من أجلنا
المسيح كان يصلي كشفيع لنا أو كرئيس كهنة أو كمن ينوب عن البشرية كلها ويتكلم عنها أمام الآب. وهذا المعنى أقوى من المعنى السابق، لأن المسيح لم يأتِ فقط ليكون مجرد صورة خارجية نتمثل بها، بل ليتحد بصميم طبيعتنا ويشفع فينا من داخل طبيعتنا الساقطة وكأنه واحد منا يمثلنا ويتكلم باسمنا أمام الآب.
يقول القديس كيرلس الكبير في كتابه «في تجسد الوحيد»:
[لو لم يكن لتجسد الوحيد غاية أخرى إلا لأن يظهر للذين على الأرض دون أن يمد طبيعة الإنسان بشيء آخر، أفلا يكون الأحرى بنا أن نوافق بدعة الدوسيتيين؟!].
(ب. ج ۱۲۱۲:٧٥)
ويقول في تفسيره لإنجيل القديس متى:
[“وبعد ما صرف الجموع صعد إلى الجبل منفرداً ليصلي، ولما صار المساء كان هناك وحده” (مت ٢٣:١٤). إنه يصلي ليس كمن يعوزه شيء إذ هو الإله، بل بصفته رئيس كهنة يرفع التوسلات التي من أجلنا].
(ب. ج ٤١٧:٧٢)
وفي تفسيره لإنجيل يوحنا يقول بنفس المعنى:
[إنه يقوم بدور الوسيط ويقدمنا إلى حضرة الآب، فنحن لا نستطيع أن ندنو إلى الله الآب سوى بواسطة الابن وحده «لأن به لنا كلينا قدوماً في روح واحد إلى الآب» (أف ۱۸:۲) بحسب المكتوب. ولذلك قال أيضاً: «أنا هو الباب… وأنا هو ،الطريق، لا يأتي أحد إلى الآب إلا بي» (يو ٧:١٠ و ٦:١٤)… فإنه بحق لقبه كوسيط ورئيس كهنة وشفيع هو يرفع إلى الآب الطلبات من أجلنا لأنه هو نفسه دالتنا كلنا التي بها نتقدم إلى الآب].
(يو ١٦ : ٢٤ ب . ج ٧٤: ٤٦٠ و ٤٦١)
وفي رده على ثيئودوريت بخصوص الحرم العاشر، يقول:
[لقد بكى بشرياً لكي يجفف دموعك، ولما خاف خوفاً بحسب التدبير تاركاً جسده ينفعل بما يخصه فهذا لكي يملأنا شجاعة… وقيل إنه ضعف بحسب الناسوت لكي يبطل ضعفك، وقدَّم طلبات وتضرعات للآب لكي يجعل أذن الآب صاغية لصلواتك أنت أيضاً.]
(ب. ج . ٧٦: ٤٤١)
هنا نبدأ تلمح معنى جديداً أقوى من مجرد الشفاعة بالسؤال والطلب ويمكننا أن نسميه الشفاعة بالوضع أو بالفعل الخلاصي، أي إن المسيح صلى وهو في وضع الإنسان لكي يجعل أذن الآب صاغية لصلوات كل إنسان.
و نفس هذا المعنى – أي صلاة المسيح كفعل خلاصي – نجده بوضوح أكثر في صفحة بديعة من كتاب «الكنز في الثالوث» للقديس كيرلس الكبير :
[حينما يسأل الابن شيئاً من الآب كمثل قوله: «أيها الآب مجد ابنك»، ويُقال إنه يناله منه لا يكون ذلك بسبب اعتيازه – بصفته اللوغس – إلى المجد أو إلى أي شيء آخر. وإنما يفعل ذلك من أجل التدبير أي من أجلنا)، فهو يناله بشـرياً أخذه شكل مشابهتنا، وأما هو فكـامل كإله.
فحيث أن الإنسان، بإمكانياته الذاتية، حتى وإن نال شيئاً من الصالحات من الله فهو يفقده سريعاً – فإن هذا هو تماماً ما قد أصاب آدم حتى وُجد بسبب المعصية عارياً من النعمة المعطاة له من قبل – لذلك كان من الضروري أن كلمة الله غير المتغير يطلب من الله، بعد أن صار إنساناً ، المواهب الآتية من عند الآب لكي تُحفظ هذه المواهب ثابتة ومستقرة في طبيعتنا، إذ أنه هو غير متغير وغير متقلب. فمنذ أن وُجدت النعمة في المسيح كبداية جديدة لنا، فهي تبقى لنـا فيـه باستقرار وهـو يشعها فينا بالمشابهة لأننا نحن جميعاً كائنون فيه بسبب أنه صار إنساناً ولبس نفس الجسد الذي لنا…
فهو يسأل إذاً من أجلنا أشياءَ وينالها من الآب، وإنما يقتنيها من جهة أخرى كإله. ]
فمن هذا القول نفهم أن الرب في طلبه المجد من الآب (يو ١٧ : ١) كان بحسب الظاهر يطلبه لنفسه، ولكنه في الحقيقة كان يطلبه لنا نحن فيه لأن الكلمة كان في ذاته غير محتاج إلى هذا الطلب إذ كان يقتني المجد الكامل من قبل تأسيس العالم. وتأكيداً لهذا المعنى يستطرد القديس كيرلس قائلاً:
[ فليس اللوغوس (الكلمة) إذا هو الذي ينال، إذ أنه كامل كما أن الآب الذي ولده كامل أيضاً، بل نحن الذين فيـه ننــال لمـا لبس الجسد الذي لنا].
[المسيح يقول في موضع «أيها الآب مجد ابنك»، وهو في ذلك يظهر طالباً المجد مع أنه هو نفسه رب المجد، إذ يقول بولس عن قوم «أنهم لو علموا لَمَا صلبوا رب المجد اكو ٨:٢) وأما أن الابن كان يقتني المجد من قبل أن يطلبه من الآب، فهو نفسه يعلمنا ذلك بوضوح قائلاً: «أيها الآب مجد ابنك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم» (يو ٥:١٧). فإن كان يصرح أنه يقتني المجد من قبل كون العالم ثم يطلبه الآن كمن لا يقتنيه فهو إذن يفعل ذلك من أجلنا، وطلبتنا نحن هي التي صارت فيه مستدعية المجد على طبيعة الإنسان. فواضح إذا أنه قد نطق بما يناسب الإنسان ليس لما كان الكلمة خارجاً عن الجسد قبل أن يسكن فيه بل لما صار إنساناً داعياً نحونا العطايا التي من عند الآب].
(ب. ج ٣٨٤:٧٥-٣٨٨)
«طلبتنا نحن هي التي صارت فيه»، أي إن صلواتنا نحن هي التي كانت ترتفع مـن فـم المسيح بل من قلبه، بل من روحه. وهذا يدعونـا إلى تقديم بقية أقوال القديس عن وجودنا السري داخل الرب أثناء رفعه الصلاة من أجلنا.