الآريوسية
مع بداية القرن الرابع جاء آريوس وهو ليبي المنشأ، إلى مصر حيث رسم كاهنًا سنة ٣١٠م على إحدى كنائس الأسكندرية، وبسبب تعاليمه غير الأرثوذكسية حرمه مجمع مكاني بالأسكندرية سنة ۳۲۰م برئاسة ألكسندروس الأسكندرى رئيس الأساقفة آنذاك، فلجأ إلى نيقوميدية، حيث كان صديقا لأسقفها يوسابيوس النيقوميدى، وبدأ في نشر أفكاره وتعاليمه في مختلف الكنائس الشرقية والغربية. وكان أريوس قد علّم في مدرسة أنطاكية تحت مظلة مديرها لوكيانوس الذي لقب بأريوس السابق على ظهور أريوس.
وقد أكد آريوس في تعاليمه أن “الكلمة” مخلوق من العدم، قد خلقه الله قبل كل المخلوقات وأعطاه سلطانا أن يخلق جميع المخلوقات. ولهذا فهو كائن وسط بين الله والمخلوقات. ويقول إنه من الممكن أن ندعو “الكلمة ابن الله، لكن البنوة الإلهية ليست إلا تبنيًا ، فهو ليس من جوهر الله. وفكرة التبني هذه قد إستقاها آريوس عن بولس الساموساطى، الذي كان ينادي بأن يسوع هو مجرد إنسان متحد بالله . فقد تبناه الله وأعطاه سلطان وقوة من أجل تتميم رسالته. . وبناء على ذلك فهو يرفض حقيقة أن الابن مولود من الآب قبل كل الدهور. ويقول آريوس أيضًا ، [بما أن الابن مخلوق، فهو مُعرّض بحسب طبيعته للخطية، لكنه استطاع أن يحيا حياة القداسة والنقاوة والكمال، ولم يسقط في الخطية. فهو أدنى من الله، لكنه أقدس من كل المخلوقات.]
ووفقاً لأريوس أيضًا، فإن الله صار أبًا عندما أراد أن يخلق العالم، عندئذ خلق كائنًا واحدًا، هذا الكائن أسماه الابن، ويُسمى استعاريًا “الكلمة” أو “الحكمة”. هكذا فبحسب تعاليم آريوس تُوجد
حكمتان:
١ – قوة الله الواحدة الكاملة.
٢ – وكائن إلهي ذاتي واحد، هذا الكائن هو الحكمة الذي جاء إلى الوجود من العدم. ومن ثمّ فهو مخلوق. يقول : [ الله وحده كان وحده، دون أن يكون هناك الكلمة أو الحكمة.. ومن بعد ذلك أراد أن يخلقنا، وعندئذ تحديدا خلق شخصاً وهو الذي دعاه الكلمة والابن، وذلك كي يخلقنا بواسطته].
لقد كان أريوس إنتقائيا في إستشهاده بآيات الكتاب المقدس وكتابات الآباء. نذكر على سبيل المثال أن أوريجينوس كان قد تحدث من قبل عن خضوع الابن في سياق حديثه عن ” ميلاد الكلمة الأزلي”، الا أن آريوس كان قد فهم عبارة “خضوع الإبن” على انها إثبات بأن الإبن مخلوق، وبالتالي فهو لم يولد أزليًا من الآب. وإن كان قد اضطر فيما بعد أن يُقر ” بالميلاد قبل كل الدهور” مفسراً ذلك بأنه يعني فقط الزمن الذي سبق خلق العالم. لكنه في كل الأحوال ينتهي إلى نتيجة محددة وهي رفضه التام لألوهية الابن. أيضا يعتبر أن معرفة الابن معرفة محدودة، لأنه لا يرى الآب ولا يعرفه، بل من الممكن أن يتحول ويتغير كما يتحول ويتغير باقي البشر. يقول: [مثل جميع الكائنات، هكذا أيضًا الكلمة ذاته قابل للتغيير والتحول بحسب الطبيعة ولكن بنفس إرادته المطلقة، طالما أنه يرغب في أن يبقى صالحا... حينئذ عندما يريد فإنه في استطاعته هو أيضًا أن يتحوّل مثلنا، حيث إن طبيعته قابلة للتغير]. هذا التعليم يقود إلي نتيجتين:
١ – رفض الإيمان بالثالوث، لأن بحسب تعاليم آريوس، الآب وحده هو الأزلي
٢ – أن خلاص الإنسان يعتمد على البعد الأخلاقي فقط، فبقدر تقدم الإنسان وسموه في طريق الفضيلة، بقدر وصوله إلى حالة الكمال.
وقد رد الآباء على هذه الأضاليل، مؤكدين على مساواة الابن للآب في الجوهر، وعلى حقيقة التجسد الإلهي وخلاص الإنسان. يقول القديس أثناسيوس : [ إن كان يُقال عن الله إنه ينبوع حكمة وحياة، كما جاء في سفر إرميا ” تركوني أنا ينبوع المياه الحية ” (إر١٣:٢)، وأيضًا ” أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك يخزون. والمتمردون عليك في تراب الأرض يُكتبون لأنهم تركوا الرب ينبوع الحياة” (إر ۱۲:۱۷-۱۳) وقد كتب في باروخ ” إنكم قد هجرتم ينبوع الحكمة” (۱۲:۳) ]. هذا يعني أن الحياة والحكمة لم يكونا غريبين عن جوهر الينبوع بل هما خاصة له، ولم يكونا أبدا غير موجودين، بل كانا دائمًا موجودين. والآن فإن الابن هو كل هذه الأشياء، وهو الذي يقول : ” أنا هو الحياة ” (يو ٦:١٤) ، وأيضاً ” أنا الحكمة ساكن الفطنة ” (أم۱۲:۸).
(وهنا يتساءل القديس أثناسيوس) كيف إذن لا يكون كافرًا مَنْ يقول ” كان وقت ما عندما لم يكن الابن موجودًا ؟” لأن هذا مثل الذي يقول تماماً : ” كان هناك وقت كان فيه الينبوع جافًا خاليًا من الحياة ومن الحكمة ” ولكن مثل هذا الينبوع لا يكون ينبوعا. لأن الذي لا يلد من ذاته لا يكون ينبوعا. ولما كان الينبوع أزليا، فبالضرورة يجب أن تكون الحكمة أزلية أيضًا، لأنه من خلال هذه الحكمة خُلقت كل الأشياء، كما يرتل داود في المزامير ” كلها (أي الأعمال) بحكمة صُنعت ” (مز ٢٤:١٠٤). ويقول سليمان: ” أسس الأرض بالحكمة وبالفهم هيأ السموات” (أم١٠:٣). ونفس هذه الحكمة هو الكلمة. وكما يقول يوحنا : ” كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان ” (يو ١: ٣ ) . وهذا “الكلمة” هو المسيح، لأنه يوجد ” إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن “به اكو ٦٨). فإن كانت كل الأشياء قد خُلقت به، فهو لا يمكن أن يكون بين جميع الأشياء. فالذي يتجاسر أن يقول عن ذلك الذي ” به خُلقت الأشياء ” إنه واحد من بين جميع هذه الأشياء فبالتأكيد أنه يفكر نفس هذه الأفكار عن الله نفسه ” الذي منه جميع الأشياء “. (ثم يضيف قائلاً) ” بما أن الآب كائن هكذا يكون الحق (أي الابن) لأنه إن لم يكن الابن موجودًا قبل أن يولد ، فلا يكون الحق موجودًا في الله دائما وليس من الصواب أن نقول مثل هذا القول، لأنه بما أن الآب كائن فالحق موجود فيه دائما الذي هو الابن الذي قال: ” أنا هو الحق ” (يو ١٤: ٦) . والكيان الموجود يجب أن يكون في نفس الوقت هو الشكل المعبر والصورة. لأن صورة الله ليست مرسومة من الخارج، بل أن الله نفسه هو والدها، والتي فيها ينظر هو ذاته ويبتهج بسببها، كما يقول الابن ” كنت أنا بهجته ” (أم ۸: ۳۰ س)].
وقد رد مجمع نيقية الذي إنعقد عام ٣٢٥م بحضور ٣١٨ أسقفًا، ممثلين لجميع الكنائس على مزاعم آريوس مفندا آرائه الهرطوقية واحدة تلو الأخرى. فبينما كان آريوس يقول إن الابن مخلوق – يرد المجمع بأنه مولود غير مخلوق وأنه مساو للآب في الجوهر معلنا بوضوح ألوهية المسيح، الكلمة المتجسد ، الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس. وبعد مناقشات طويلة، أصدر المجمع قرارًا بحرمه وتجريده.
- المقالة الأولي ضد “الأريوسيين” للقديس أثناسيوس الرسولي