التعليم عن الكنيسة
ماهية الكنيسة:
الكنيسة بحسب تعبير الأسقف كاليستوس وير: «تقف عند نقطة تقاطع الدهر الحاضر والآتى وتعيش في الاثنين معا»، فهي ليست مجرد مؤسسة أو جماعة بشرية، بل حضور إلهي يلد حياة جديدة في العالم. الكنيسة شاهدة لسر الحياة التي استُعلنت في المسيح، ومن خلالها يتمم الله خلاص العالم. قول القديس كبريانوس: «لا خلاص خارج الكنيسة» لا يُفهم على أنه تقييد لقدرة الله، بل كتأكيد أن الكنيسة هي المكان الذي فيه يتحقق الخلاص، فالكنيسة هي التي تحفظ الإيمان وتقدمه من خلال التعليم والأسرار وأيضًا من خلال حياة الشركة.
الكنيسة حاضرة في العالم دون أن تنتمي إليه، فهي تعلن عن الملكوت الآتي، وتوحد البشر في جسد واحد حي، حيث ترتفع الإنسانية إلى مقام جديد في الروح القدس. وكما يقول الأب جورج فلورفسكي، في الكنيسة: «ترتفع الإنسانية إلى مقام آخر، وتبدأ حياتها بنمط جديد وتصبح الحياة الجديدة الحقة والكاملة والجامعة ممكنة في وحدة الروح برباط السلام».
الكنيسة: الخليقة الجديدة
الكنيسة هي فلك المحبة وموضع الحياة الجديدة بالروح القدس. فبينما يتجه العالم نحو التحلل، تعيد الكنيسة ربطه بالله وتمنحه معنى وغاية. داخلها يتأسس مجتمع الشركة الذي فيه يُشفى الإنسان من أنانيته ويصير شخصًا محبًا على مثال المسيح. إنها أيقونة الثالوث لأنها تعكس محبة الأقانيم وعلاقتهم الحية. الانضمام للكنيسة عمل حر من الإنسان، لكنه في جوهره ثمرة لعمل الروح القدس.
حياة الكنيسة غير منظورة لأنها حياة إلهية، لكنها تتجلى من خلال تجديد أعضائها الذين يشتركون في بناء جسد المسيح. والكنيسة بهذا المعنى تمتد عبر الزمان والمكان: فهي على الأرض وفي السماء معًا.
يبقى أن تؤكد على أن الكنيسة لا تتطابق مع ملكوت الله، لكنها تتجه نحوه.
تطور مصطلح «الكنيسة»
أصل الكلمة في اليونانية القديمة يشير إلى اجتماع سياسي، يُعقد في المدن للتشاور والنظر في بعض الأمور التي تخص هذه المدن.
أما في العهد القديم فدلّت على اجتماع ديني لعبادة الله. فكلمة كنيسة تقابل في العبري كلمة “qahal” والتي يُشار إليها في سفر التثنية في وصف اجتماعات جبل حوريب. أو تُشير إلى اجتماع الشعب في أرض الميعاد. وقد استخدمت كلمة كنيسة أيضًا للتعبير عن الاجتماع الليتورجى للشعب وذلك في فترة الملوك، وفترة ما بعد السبى أيضا.
ومصطلح (εκκλhσίa) كنيسة يأتى من الفعل (εκκaλω) بمعنى أدعو لأمر ما. ودعوة شعب الله تتم من خلال مبادرة إلهية، إنها دعوة مقدسة للاجتماع أمام الرب، كما ورد في لاويين 23: 3.
وفي العهد الجديد، ظهر المصطلح بوضوح في قول المسيح: «على هذه الصخرة أبني كنيستي».
وترد كلمة كنيسة في العهد الجديد بمعنى محفل ديني، على سبيل المثال: رسالة بولس الرسول الأولى إلى كورنثوس، وأيضًا في أعمال الرسل، وفي رؤيا يوحنا، استخدمت كلمة كنيسة بصيغة المفرد والجمع وهي تعلن على سبيل الحصر عن إجتماعات تخص كنيسة محددة أو اجتماعات للعبادة.
واستخدم العهد الجديد الكلمة للدلالة على جماعات المؤمنين المحليين (كما في كورنثوس) وكذلك على الكنيسة الجامعة.
الكنيسة ليست مكانًا أو مؤسسة فحسب، بل شعب الله المدعو للاجتماع أمام الرب، حيث يعمل الروح القدس فيهم ويؤسس شركة الحياة الجديدة.
التحديد العقيدي للكنيسة
الآباء لم يقدّموا تعريفًا نظريًا للكنيسة، بل وصفوها عبر الصور الكتابية: العريس والعروس، الكرمة والأغصان، الراعي والخراف، الهيكل والمسكن. في اللاهوت المعاصر تُعرَّف الكنيسة أحيانًا ككاتدرائية مقدسة أو جماعة شركة أو كيان سرائري، لكن جوهرها الحقيقي هو أنها جسد المسيح وملؤه، حضور المسيح الممتد في الزمن.
فالكنيسة ليست مجرد جماعة بشرية، بل اتحاد بالمسيح. ومنذ التجسد، لا يمكن تصور الكنيسة بدون الرأس، أي المسيح.
الكنيسة والأسرار
السر هو تلاقي المرئي وغير المرئي. الله واهب الحياة هو مصدر هذه الوحدة، وهدف الإنسان هو الاتحاد به، وهذا لا يتحقق إلا في شركة الكنيسة. هكذا يقول القديس مقاريوس:
«إن الطبيعة البشرية، إن بقيت عارية وبنفسها فقط ولم تنل الاتحاد والشركة مع الطبيعة الإلهية، فإنها لا تستقيم أبدا ولا تكتمل، بل تظل عارية ومستحقة اللوم في طبيعتها الخاصة .. هكذا مسرة الله أن يأتى من السماء المقدسة ويأخذ طبيعتك العاقلة، فهو أخذ جسدا من الأرض ووحده بروح إلهى حتى تستطيع أنت (الأرضى) أن تنال الروح السماوى. وحينما تصير لنفسك شركة مع الروح وتدخل الروح السماوى في نفسك، فحينئذ تكون إنسانًا كاملاً في الله»(العظات الخمسون، العظة 30).
الأسرار هي الوسائط المنظورة التي تُمنح من خلالها النعمة غير المنظورة.
من يحصر نظره في الشكل الخارجي يفوته عمق السر. الأسرار هي نوافذ يدخل منها النور الإلهي إلى العالم.
النعمة لا تعمل آليًا، بل تحتاج إلى تجاوب الإنسان. لذلك قد يبقى بعض الأعضاء بلا ثمر إن لم يستجيبوا.
المعمودية: الميلاد الجديد
المعمودية هي الخليقة الثانية، فيها يولد الإنسان ميلادًا جديدًا ويتحد بالمسيح. إنها ليست مجرد فعل رمزي، بل عمل خلاصي يعيد الطبيعة إلى أصلها. وهي تربط الإنسان بالحياة الأبدية منذ الآن، وتُكمل بنعمة الروح القدس في سر الميرون.
الإفخارستيا: قلب حياة الكنيسة
الإفخارستيا هي سر قداسة الكنيسة ووحدتها. فيها يتغذى الجسد الواحد من جسد المسيح ودمه، ويتحقق التواصل بين السماء والأرض. ليست الإفخارستيا حدثًا يُقام مرة واحدة، بل عطية مستمرة تمنح القوة لحياة الشركة.
كل مرة يُقام فيها هذا السر، تتجدد مائدة العشاء السري، ويُعلن حضور المسيح الحي في وسط كنيسته.
الإفخارستيا والمحبة
لا يمكن فصل الإفخارستيا عن المحبة. فالمسيح أحب خاصته حتى المنتهى، ومن هذا الحب وُلد السر. لذلك لا يُقدَّس الجسد والدم إلا بعد قبلة السلام التي تعبّر عن وحدة القلب. الإفخارستيا تلزم المؤمن بمحبة القريب وخدمته.
كما يوضح القديس يوحنا ذهبي الفم: «للكنيسة مذبحان: الأول داخلها، والثاني هو الفقراء في الخارج».
الإفخارستيا وحياة الشركة
الشركة في الإفخارستيا ليست رفاهية، بل ضرورة وجود الكنيسة كجسد واحد حي. لذلك كانت الكنيسة الأولى تعتبر من لا يتناول بانتظام منفصلًا عن الحياة الكنسية. فبالإفخارستيا تتحقق وحدة الجسد وتُكسر الفردية.
القديس إيريناؤس يشبّهها بـ«النسمة التي تهب الحياة للأعضاء»، وهي «دواء للخلود» كما قال الآباء. الإفخارستيا تحقق أعمق اتحاد بين المؤمن والمسيح، روحًا وجسدًا.
المحبة كختم الشركة
الثبات في المسيح هو الطريق الوحيد للمحبة الحقيقية. فالمحبة ليست فرضًا خارجيًا، بل عطية داخلية من الروح القدس. أعطى المسيح وصيته الجديدة للمحبة في لحظة تأسيس سر الإفخارستيا، رابطًا بين الذبيحة والمحبة.
هكذا تصير الكنيسة جماعة محبة متجسدة في العالم، تكشف طبيعة الحياة الجديدة في المسيح وتشهد لها أمام العالم.
✅ خلاصة:
الكنيسة ليست مبنى أو مؤسسة، بل سر اتحاد بين الله والإنسان في جسد المسيح. الأسرار ليست طقوسًا شكلية، بل وسائط للنعمة والحياة. والإفخارستيا هي قلب الكنيسة النابض، التي منها تنبع المحبة والشركة، وبها تعلن الكنيسة عن ملكوت الله وسط العالم.