إلى الشباب: رسائل في كلمات 

كونوا رجالاً

كتب الرسول بولس إلى أهل كورنثوس فقال: «كُونُوا رِجَالاً. تَقَوَّوْا» (1كو 16: 13). وليس من شك في أن للرجولة أعباءً وتكاليف، لأن الرجولة ليست قوة بدنية تتمثل في الجسم، أو مظهراً خارجياً يكمل باكتمال السن، بل هي قوة روحية تتجلى في النفس، وتترجم عنها أعمال الفرد ومظاهر سلوكه.

ولكم رأينا بين الشباب من يكون في مظهره رجلاً تاماً، ولكن رجولة جسمه تحتج على طفولة أعماله! فهل علم هؤلاء أن مقياس الرجولة إنما هو مدى استعداد الإنسان لتقبل ما تتطلبه حياة القوة من تكاليف وأعباء؟ … إن المسيحية هي ديانة القوة، فليس بمسيحي كل من تضعف في نفسه معاني الرجولة، أو تمحى من شخصيته دلائل القوة.

أما هذه القوة التي تستلزمها حياة الرجولة، فهي أن يرغم الإنسان نفسه على أن يتحكم في أهوائه وشهواته، فلا ينزل عند حكمها، ولا يستسلم لها، بل يقول لها: «لا» في وقت لا تجد فيه عند الآخرين غير كلمة «نعم»!

لنكن رجالاً إذن، ولنعلم أن الشدائد والمحن إنما هي امتحان لرجولتنا، ومن المحنة جاء الامتحان!

اغمضوا عيونكم

العين هي أسرع الحواس استجابة، فكل شهوة تطوف بالإنسان غالباً ما يكون مردها إلى البصر. وإذا كانت الخطيئة سلسلة متصلة الحلقات، فإن أولى حلقاتها إنما هي النظرة الطائشة.

إن من العبث أن نتوهم أن في وسعنا رؤية الشر والاستمتاع بالمناظر المغرية، دون أن يؤثر ذلك في نفوسنا أو دون أن نحرك له ساكناً. وإذن فخير ما يفعله المرء أن ينحو ببصره عن الصور الخليعة، وأن ينأى بنفسه عن ضروب الشهوة بكافة أنواعها.

وإذا كان القديس أوغسطينوس قد سمى الشهوة عموماً باسم “شهوة العين“، فما ذلك إلا لأنه أدرك كيف أن العين تغافل الضمير أحياناً، فتدس له الخطيئة في صورة جميلة فاتنة…

إذن، «اغْمِضُوا عُيُونَكُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الشَّرِّ» (إش 33: 15)، وتذكروا أن من المحال أن يكون للنظرة الطائشة عاقبة أخرى غير السقوط. ثم اعلموا في النهاية أن شهوة العين لا يمكن أن يترتب عليها سوى الهلاك، لأنه «هَلْ يُمْكِنُ الإِنْسَانُ أَنْ يَأْخُذَ نَاراً فِي حِضْنِهِ وَلاَ تُحْرَقَ ثِيَابُهُ؟ أَوْ يَمْشِيَ عَلَى الْجَمْرِ وَلاَ تَكْتَوِيَ رِجْلَاهُ؟» (أم 6: 27-28).

لا تستثقلوا وصاياه

يقول يوحنا الرسول: «إِنَّ وَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً» (1يو 5: 3). فإن الله لا يطالبنا بما هو دون استطاعتنا، بل هو يريدنا أن نصلح من نفوسنا. ولما كان الغرض من الوصايا إنما هو السمو بالنفس الإنسانية، فإن من المستحيل أن تكون ثقيلة على الطبيعة البشرية الراغبة حقاً في السمو. ولو كانت هذه الوصايا تجاري النفس في ميولها التي لم تهذب، وتسايرها في نزعاتها التي لم تتعدل، لبطل أن تكون وصايا. ولكنها وصايا لأنها تريد أن تأخذ بيد الإنسان في السبيل المؤدي إلى الخير، وتهدف إلى تنمية ما في الروح الإنسانية من نزوع إلى التسامي والارتقاء.

لقد زعموا أن الإنسان شرير بطبعه، وأن لا أمل في صلاح الإنسان، ولكن الواقع أن بذور الخير كامنة في النفس الإنسانية. وما علينا إلا أن نقضي على العوامل الخارجية التي تحول دون ظهور الخير، حتى يتجلى المعدن الحقيقي لتلك النفس الإلهية التي كثيراً ما يعلوها الصدأ، فيخفي حقيقتها. وإذا عرفنا نفوسنا على حقيقتها، فعندئذ يكون في وسعنا أن نهتف مع الرسول قائلين: «إِنَّ وَصَايَاهُ لَيْسَتْ ثَقِيلَةً». ولكن يجب أن نتذكر أن ما يجعلنا نستثقل تلك الوصايا، إنما هو تلك السلاسل الثقيلة التي كثيراً ما تقيدنا بالعالم الشرير الذي خلقناه بأيدينا.

حددوا موقفكم

كثيراً ما يحاول المرء أن يجمع بين طرفين لا سبيل إلى الجمع بينهما، متناسياً أن النور والظلام لا يجتمعان. فهل علمنا أن مثل هذه المحاولة إن هي إلا عبث لا طائل تحته؟ لقد قالها رب المجد كلمة صريحة لا لبس فيها ولا غموض: «مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ» (مت 12: 30). فمن واجبنا إذن أن نحدد موقفنا في صراحة وصرامة، حتى نستطيع من بعد أن نهب أنفسنا تماماً للطرف الذي آثرناه.

إن أحداً لا يستطيع أن يعبد سيدين. إذا أردنا أن نكون مع المسيح، كان علينا أن نتنكر لكل ما هو في جوهره عداوة لله. أما أن نحاول التزام الحياد، فذلك ما لا يرتضيه المسيح، لأن الانصراف عن جمع الأنصار لا يقل عن العمل على تفرقة الأنصار! وليس أبعد عن روح المسيحية من تلك الديانة السلبية التي تتمثل في الانطواء على الذات، دون المشاركة مع الآخرين، كأن من الممكن للإنسان أن يحيا لنفسه، مكتفياً بذاته، غير مكترث بغيره…

ولكنها فضيلة زائفة تلك التي تلتزم موقفاً سلبياً لا أثر فيه للتضامن والتعاون والعمل المشترك. فمن ظن أن في هذا الموقف السلبي معنى الفضيلة، فقد غابت عنه حقيقة الفضيلة المسيحية الصحيحة. وإذن فمن واجبنا أن نحدد موقفنا نهائياً، فلا نتذبذب بين اليمين والشمال، بل نقف حسمًا على طرف واحد، ونخلص له إلى النهاية.

لا تدينوا غيركم

ليست هذه رسالة جديدة، فإن الحكم على الآخرين بالباطل قد عُرف منذ عُرِف الشر والاغتياب والفكر الخبيث… ولكن كل فكرة سوء تطوف بخاطر المرء عن غيره من الناس هي في حد ذاتها جريمة نكراء… فليس أبعد عن روح المسيحية من تلك النزعة الخبيثة التي تريد أن تملأ العالم بالأفكار الشريرة عن الناس في مناسبة وفي غير مناسبة.

ولماذا يجعل المرء من نفسه حكماً على الآخرين، وهو لا يعرف نياتهم، ولا يستطيع أن يجزم بأفكارهم؟ بل لماذا ننشر فيما حولنا جوّاً ردياً مسمماً، تشيع فيه أفكار السوء وأحاديث الشر؟

أليس من الخير لنا وللآخرين أن ننشر فيما حولنا جوّاً جميلاً محبباً، تشيع فيه أفكار الخير وأحاديث المحبة؟ ألا يكون عالمنا أنصع وأزهى، لو سرت في أنحائه أمواج الفكر الطاهر وإشعاعات النفس النقية؟.. إن عالمنا ينشد الصفاء والسكينة، فمن تحدثه نفسه بأن يدين غيره، أو أن يسيء إلى الآخرين، إنما يعمل بذلك على تلويث جو يحرص الجميع على تنقيته حتى يكون صافياً!..

ضمدوا جراح الآخرين

هل تذوقتم حلاوة الإحسان إلى الآخرين، وعذوبة العطف على المتألمين؟ إن السامري الصالح الذي ضمد جراح ذلك المسكين الذي التقى به في الطريق، قد شعر بأنه إذا لم يضمد جراح ذلك الرجل، فسوف يمشي على الأرض مقرحاً بقرحة خفية. وما يجب أن نعجب لما فعله هذا السامري الصالح، بل العجيب أن يكون هناك طريق آخر يسلكه غير الذي سلك!

وهل ننسى أننا جميعاً أعضاء كثيرة في جسد واحد؟ بل هل ننسى أن المجتمع هو وحدة كبيرة تضم أفراداً كثيرين يجب أن يجمعهم رباط واحد من التعاون والمحبة والوفاق؟

إن المحبة ليست قانوناً دخيلاً على العالم (كما قد يتوهم البعض)، بل هي شريعة مشتقة من نظام الوجود نفسه. ولو كان قانون الوجود التنابذ والتنافر والشقاق، لما استقامت الحياة، ولما بقي حي على ظهر الأرض. ولكن الخالق الذي أوجد الانسجام في الوجود وأودع الاتفاق في الطبيعة، هو الذي جعل من المحبة قانون الحياة البشرية. وإذن فشريعة المحبة منتزعة من صميم الطبيعة الإنسانية. وليس علينا إلا أن نختبر بأنفسنا جمال المحبة، وعذوبة التعاطف، لكي ندرك تماماً كيف تتفق هذه العواطف الكريمة مع النفس الإنسانية النقية… ضمدوا إذن جراح الآخرين، وتذوقوا بأنفسكم كم يجد الإنسان من لذة في أن يبذل من نفسه للآخرين.

كلمات مضيئة

  • قيل لأحد القديسين: “ما هي القداسة؟” فقال: “أجَزْتَ في أرض فيها شوك؟” فقال: “نعم”، فقال: “كيف كنت تصنع؟” فقال: “كنت أتوقى”. قال: “فتوقَّ الخطايا“.
  • قيل لأحد القديسين: “متى عيدك؟” قال: “كل يوم لا أعصي الله فيه فهو يوم عيد“.
  • من لا يعتني بطهارة داخله لا يستطيع أن ينتصر على الشهوات، ومن ينقي داخله لا تستعبده شهوة ما.
  • من يصرف كل وقته في الأعمال العامة، ولا يخصص وقتاً لرياضته الروحية للصلوات والقراءات التي تسمو بروحه.. للاعترافات والتناول، لا يصلح لخدمة المجتمع ولا يخلص نفسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى