يوسف الشاب الناجح
مقدمة: رحلة يوسف من الذل إلى المجد
هذا شاب مدلل يحبه أبوه أكثر من إخوته، ويصنع له قميصًا ملونًا (تكوين 37: 3)، فيغار منه إخوته ويلقونه في البئر (تكوين 37: 24)، ثم يباع كعبد ذليل في أرض غريبة (تكوين 37: 28). ولكننا نراه بعد سنوات قليلة في قمة المجد (تكوين 41: 42). فكيف وصل إلى ذلك؟
لم يرفعه إنسان إلى هذا المركز، حتى الشخص الذي قدم له خدمة نسيه عندما اقترب من فرعون (تكوين 40:23). ولم يكن له مال يسنده، حتى قميصه الملون جردوه منه (تكوين 37:23). ولم تكن له وسائل ملتوية للوصول إلى النجاح، بل إنه في أمانته ليقبل السجن على أن يتنازل عن تلك الأمانة الكاملة (تكوين 39: 20).
إذن ما هو سر نجاحه؟
إن قصة هذا الشاب الجديرة بأن يقرأها كل شاب، وأن نتصفح الفصول الأخيرة من سفر التكوين، التي تضمنت قصة حياته، ليرى أسس هذا النجاح (يوحنا فم الذهب، تفسير سفر التكوين، الفصل 39).
المواهب: أساس النجاح
كان يوسف ذا مواهب نافعة، كان يستطيع أن يدير الأعمال التي توكل إليه بحكمة وتدبير. فهو في بيت رئيس الشرطة، كل ما يصنع كان ينجح فيه. ولذلك وكله على بيته ودفع إلى يده كل ما كان له. ومنذ أن تسلم هذه الأموال، نمت وازدادت في البيت وفي الحقل. لهذا وثق فيه سيده المصري، فترك كل ما كان له في يده، «وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ يَعْرِفُ شَيْئًا إِلَّا الْخُبْزَ الَّذِي يَأْكُلُ» (تكوين 39: 6).
ونراه أمام فرعون بعد أن سمع الحلم، يشير عليه مشورة الإداري الحكيم، لإنقاذ البلاد من تلك المجاعة التي تتهدده. «فَحَسُنَ الْكَلَامُ فِي عَيْنَيْ فِرْعَوْنَ وَفِي عُيُونِ جَمِيعِ عَبِيدِهِ» (تكوين 41: 37). وهكذا جعله على بيته، وسلطه على كل أرض مصر، «فَخَلَعَ فِرْعَوْنُ خَاتِمَهُ مِنْ يَدِهِ وَجَعَلَهُ فِي يَدِ يُوسُفَ» (تكوين 41: 42). وفي هذا الوقت، نرى يوسف يبدأ عمله بجد واجتهاد. فبمجرد أن خرج من لدن فرعون، نراه يجتاز في كل أرض مصر، ويضع النظام المتقن لجمع الغلال حتى لا تضيع. وبفضل إدارة يوسف الحكيمة، «كَانَ جُوعٌ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ. وَأَمَّا جَمِيعُ أَرْضِ مِصْرَ فَكَانَ فِيهَا خُبْزٌ. وَجَاءَتْ كُلُّ الأَرْضِ إِلَى مِصْرَ إِلَى يُوسُفَ لِتَشْتَرِيَ قَمْحًا» (تكوين 41: 54-57).
وفي السجن، نرى موهبة الإدارة هذه تجعله نافعًا وتدنيه من النجاح. فنحن نرى رئيس بيت السجن يدفع إلى يده إدارة كل شيء في السجن، فكان يدبر أمور جميع الأسرى الذين في بيت السجن، وكل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل. «وَلَمْ يَكُنْ رَئِيسُ بَيْتِ السِّجْنِ يَنْظُرُ شَيْئًا البَتَّةَ مِمَّا فِي يَدِهِ، فِيمَا كَانَ يَصْنَعُ، وَالرَّبُّ مَعَهُ» (تكوين 39: 23).
إن الغرور الخالي من الموهبة قد حكم على نفسه بالبقاء على هامش الحياة، إن العالم لا يحتاج إليه، لأنه غير نافع في شيء. أما ذاك الذي ينمي مواهبه – في صمت وعزلة – ويصقلها ويدربها، فلا بد أن يأتي دوره، ولا بد أن يدعى ليقدم الخدمات التي يستطيع أن يقوم بها (يوحنا فم الذهب، تفسير سفر التكوين، الفصل 41).
لقد طالت الأيام على يوسف في السجن، وحسب الجميع أنه نسي وأنه حكم عليه بالبقاء في هذا السجن إلى النهاية. ولكن هنا تبدو موهبة أخرى ليوسف، تخرجه من السجن، لأن العالم احتاج إليه. فقد حدث بعد سنتين أن فرعون رأى حلماً، فدعا جميع سحرة مصر وجميع حكمائها وقص عليهم حلمه، فلم يكن من يفسره لفرعون. حينئذ تظهر أهمية يوسف وأهمية مواهبه: لقد تذكر رئيس سقاة فرعون أن سجيناً كان معه في الأسر، عبر له عن حلماً حلمه، وأن التعبير كان صادقاً دقيقاً. فتحدث بهذا الأمر إلى فرعون. «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ وَدَعَا يُوسُفَ، فَأَسْرَعُوا بِهِ مِنَ السِّجْنِ. فَحَلَقَ وَأَبْدَلَ ثِيَابَهُ وَدَخَلَ عَلَى فِرْعَوْنَ» (تكوين 41: 14) وفسر الحلم.
قيمة الفرد في مواهبه، هذا درس يقدمه ذلك الشاب الناجح.
الاجتهاد: مفتاح الإنجاز
كان يوسف مجتهداً في عمله – لقد كان موهوباً، فهل اعتمد على ذكائه، وانصرف إلى الكسل والتواني؟ لو كان قد عمل ذلك، فما كان أبعدَه عن النجاح. ليس شيء ينمي الموهبة كاستغلالها، كالعمل.
في بيت سيده، نراه مجتهداً، يركز كل تفكيره في عمله لا يصرفه عنه أي أمر. وحينما تحاول سيدته أن تصرفه عنه، لم يكن قط يلتفت إليها، إنه يؤدي عمله بذهن صافٍ وغيرة. «وَكَانَ يُوسُفُ ابْنَ ثَلاثِينَ سَنَةً لَمَّا وَقَفَ قُدَّامَ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ. فَخَرَجَ يُوسُفُ مِنْ لَدُنْ فِرْعَوْنَ وَاجْتَازَ فِي كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ» (تكوين 41: 46). يؤدي واجبه باجتهاد، يجتاز في كل البلاد، ولا يدخر جهداً بل يعمل كل ما يستطيع من أجل إتمام الواجب عليه. وهو يجمع الطعام، وهو يشرف بنفسه على توزيع القمح. إنه لا يترك عمله ويعتمد على معاونيه، بل يعمل بيديه: «وَفَتَحَ يُوسُفُ جَمِيعَ مَا فِيهِ طَعَامٌ وَبَاعَ الْمِصْرِيِّينَ» (تكوين 41: 56). وحينما جاء إخوته ليشتروا من مصر، رأوا يوسف هو «المُسَلَّطُ عَلَى الأَرْضِ، وَهُوَ الْبَائِعُ لِكُلِّ شَعْبِ الأَرْضِ» (تكوين 42: 6).
جزء يسير من النجاح – ذكاء وموهبة – أما الباقي فهو مجهود وتركيز وعرق جبين.
الثمر: الإنتاجية والهدف
كان يوسف مثمراً – كتب القديس بولس لأهل مدينة كورنثوس يقول: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ، وَلَكِنَّ وَاحِدًا يَأْخُذُ الْجِعَالَةَ؟ هَكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا… فَإِذًا أَنَا أَرْكُضُ هَكَذَا: لَيْسَ كَغَيْرِ يَقِينٍ. هكَذَا أُضَارِبُ: لَيْسَ كَمَنْ يَضْرِبُ الْهَوَاءَ» (1 كورنثوس 9: 24-26).
ولم يكن يوسف يجتهد ويبذل مجهوداً لكي يذهب مع الهواء، بل كان على الدوام منتجاً مثمراً. كانت لديه المواهب، وكان يبذل المجهود، ولكنه كان يهدف إلى غاية وكان يصل إليها. في بيت سيده «كُلُّ مَا كَانَ يَصْنَعُ كَانَ الرَّبُّ يُنْجِحُهُ بِيَدِهِ» (تكوين 39: 3). ومن حين وكله على بيته امتدت أموال سيده ونمت. وفي السجن «كُلُّ مَا كَانَ يَصْنَعُهُ كَانَ الرَّبُّ يُنْجِحُهُ» (تكوين 39: 23). ولقد أنقذ مصر وما حولها من الهلاك. إنه يشعر بذلك وهوذا يتحدث إلى إخوته فيقول: «أَرْسَلَنِيَ اللهُ قُدَّامَكُمْ لِيَجْعَلَ لَكُمْ بَقِيَّةً فِي الأَرْضِ، وَيَسْتَبْقِيَ لَكُمْ نَجَاةً عَظِيمَةً» (تكوين 45: 7).
كان يوسف يجتهد لكي يصل إلى هدفه، ولم تكن جهوده قط مبعثرة بلا غاية. كان يركض هكذا: ليس عن غير يقين كأنه يضارب في الهواء. إن الثمرة تملأ قلب صاحبها أملاً وفرحاً وتزيده تمسكاً بعمله، تجعله يضاعف مجهوده. «الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِالابْتِهَاجِ. ذَاهِبِينَ يَذْهَبُونَ وَيَبْكُونَ حَامِلِينَ الْبِذَارَ. وَآتِينَ يَأْتُونَ بِالابْتِهَاجِ حَامِلِينَ حُزَمَهُمْ» (مزامير 126:5-6).
قوة النفس: الصمود أمام التحديات
كان يوسف صاحب نفسية قوية – لقد ألقي في السجن بأيد قاسية لا ترحم، ولم تكن تلك الأيدي إلا إخوته (تكوين 37: 24). وإنه ليحرم والده ويُلقى في أرض غريبة… يباع – وهو الولد العزيز المدلل، ابن الشيخوخة – كعبد ويذهب إلى بيت غريب لِيَخْدِم فيه (تكوين 37: 28).
ورغم كل ذلك تبقى ليوسف قوة داخل نفسه لكي يؤدي عمله وينجح فيه. وتبقى له قوة ليقف أمام امرأة سيده يكلمها كلام الحكمة والعقل: «هُوَذَا سَيِّدِي لاَ يَعْرِفُ مَعِي مَا فِي الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَا لَهُ قَدْ دَفَعَهُ إِلَى يَدِي. لَيْسَ هُوَ فِي هذَا الْبَيْتِ أَعْظَمَ مِنِّي» (تكوين 39: 8-9).
وهل تأثرت علاقته بالله من جراء كل ذلك؟ على العكس. لم يعط قط فرصة للضعف أن يصل إلى ضميره. إن المتاعب كثيراً ما تكون سبيلاً للانهيار وفقدان الحياة المقدسة وضعف الإيمان، ولكن يوسف لم يكن من هذا النوع: كانت نفسه صلبة قوية. كان رجلاً ليقف أمام امرأة سيده ويهتف: «كَيْفَ أَصْنَعُ هذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟» (تكوين 39: 9). وحينما اشتدت التجربة وقست، كانت له القوة النفسية لكي ينزع نفسه ويترك ثوبه ويهرب ويخرج إلى خارج (تكوين 39: 12).
ولكن متاعب يوسف لا تقف: هوذا ينزل إلى السجن مظلوماً مفترى عليه، متهماً بأشنع التهم (تكوين 39: 20). ولكنه لا يتزعزع. إنه يستطيع أن يتكيف مع كل ظرف ومع كل طارئ. إن في نفسه من القوة التي تمكنه من أن يتولى عملاً آخر وأن يخلص في هذا العمل من جديد وأن ينجح فيه – بل إن لديه من القوة ما يمكنه من أن يعزي الآخرين ويشجعهم. وإنك لتراه بعد سنتين من أسر طويل خشن وأيام متشابهة كئيبة… تراه قادراً بنعمة الله على أن يشير على فرعون وعلى أن يفسر حلمه (تكوين 41: 16). وحينما يتولى مسئوليته العظمى، كان يبدو كما لو كان آتياً لتوه من بيت هنيء أو من معهد تعلم فيه أصول الإدارة وطرق التدبير: صفاء في التفكير ودقة في التنفيذ ومجهود يبذله في سخاء… يبدو أن مواهبه تنمو وسط الأشواك (يوحنا فم الذهب، تفسير سفر التكوين، الفصل 39).
هذا هو الرجل الذي يصر على أن ينجح – مهما كانت الظروف.
معاملة الناس: الخدمة والتعاطف
كان يوسف قادراً على معاملة الناس – إنه رجل ذو مواهب ممتازة – وهو أيضاً مجتهد ثم هو ينجح بالفعل ويثمر – فهل يؤثر ذلك على علاقاته بالناس؟
وهو يرتقي سريعاً: فبمجرد أن دخل منزل المصري، لم يكن معه شيء إلا الخبز الذي يأكل (تكوين 39: 6). وحينما وصل إلى السجن، دفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى الذين في بيت السجن، وكل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل – ولم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئاً البتة مما في يده (تكوين 39: 22-23)… فهل يتعالى عليهم وهم أسرى وهو المتسلط عليهم؟
حدث أن ساقي ملك مصر والخباز أذنبا إلى سيدهما ملك مصر. فسخط فرعون على خادميه رئيس السقاة ورئيس الخبازين. فوضعهما في حبس بيت رئيس الشرطة في بيت السجن، المكان الذي كان يوسف محبوساً فيه. فأقام رئيس الشرطة يوسف عندهما (تكوين 40: 1-3).
ماذا صنع لهما يوسف: الابن المدلل الذي وصل في بيت رئيس الشرطة إلى قمة النجاح، والذي وكل إليه أمر السجن؟
لقد «خَدَمَهُمَا» (تكوين 40: 4).
تعبير موجز بليغ. إن أحزانه لا تمنعه أن يخدم الآخرين.
وحدث أن حلم كلاهما حلماً في ليلة واحدة: ساقي ملك مصر وخبازه المحبوسان في بيت السجن. فدخل يوسف إليهما في الصباح، ونظرهما وإذا هما مغتمان. فسأل خادمي فرعون اللذين معه في حبس بيت سيده قائلاً: «لِمَاذَا وَجْهَاكُمَا مُكْمِدَانِ الْيَوْمَ؟» (تكوين 40: 7). فقالا له: «حَلَمْنَا حُلْمًا وَلَيْسَ مَنْ يُعَبِّرُهُ». فقال لهما يوسف: «أَلَيْسَتْ لِلَّهِ التَّعَابِيرُ؟ قُصَّا عَلَيَّ» (تكوين 40: 8).
إنه لا يطيق أن إنساناً يعيش معه وهناك شيء يؤلمه. بل بمجرد أن رأى وجهيهما متغيرين سارع إلى السؤال عن السبب. وهو يسهل لهما الأمر: «لاَ تَخَافَا. هَلْ لِلَّهِ تَعَابِيرُ؟ قُصَّا عَلَيَّ» (تكوين 40: 8-9).
هذه شخصية اجتماعية. تضرب لنا مثلاً صالحاً في كيفية الحياة مع الناس. حينما تحدث الرب له المجد عن الصوم قال: «وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهَنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ» (متى 6: 17-18).
وكأن السيد يقول: ليكن كل ذلك في داخلك لكي تظهر أمام أبيك الذي في الخفاء… أما أمام الناس فلا تكن عابساً ولا تغير وجهك، بل ادهن رأسك واغسل وجهك، واظهر أمامهم فرحاً مسروراً مستعداً لأن تشاركهم وأن تخفف عنهم.
إن الحياة مليئة بالألم، ومهمة صاحب النفس النبيلة هي في أن يخفف منها لا أن يزيد عليها.
ولقد كان يوسف يعرف أن يصنع ذلك (يوحنا فم الذهب، تفسير سفر التكوين، الفصل 40).
الأسرة: الوفاء والحنان
كان يوسف باراً بعائلته، وإن الفصول التي تتحدث لنا عن معاملته لإخوته ولأبيه لتكشف لنا عن قلب رقيق ونفس عالية. جاء الإخوة يطلبون منه طعاماً فعرفهم، ولكنه لم يشأ أن يكشف لهم عن شخصيته مباشرة. بل قال للذي على بيته: «أَدْخِلِ الرِّجَالَ إِلَى الْبَيْتِ وَاذْبَحْ ذَبِيحَةً وَهَيِّئْ، لأَنَّ الرِّجَالَ يَأْكُلُونَ عِنْدِي فِي الظُّهْرِ» (تكوين 43: 16). فلما جاء سأل عن سلامتهم، وقال: «أَسَالِمٌ أَبُوكُمُ الشَّيْخُ الَّذِي قُلْتُمْ عَنْهُ؟ أَحَيٌّ هُوَ بَعْدُ؟» (تكوين 43: 27). فقالوا: «عَبْدُكَ أَبُونَا سَالِمٌ، هُوَ حَيٌّ بَعْدُ».
«فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ بِنْيَامِينَ أَخَاهُ ابْنَ أُمِّهِ، وَقَالَ: أَهذَا أَخُوكُمُ الصَّغِيرُ الَّذِي قُلْتُمْ لِي عَنْهُ؟» (تكوين 43: 29). واستعجل يوسف لأن أحشاءه حنت إلى أخيه، فطلب مكاناً ليبكي فدخل المخدع وبكى هناك. ثم غسل وجهه وخرج وتجلد وقال: «قَدِّمُوا طَعَامًا» (تكوين 43: 31). ثم أعطاهم ما طلبوا، ولكنه إذ أراد أن يجعلهم يعودوا وضع طاسه في عدل بنيامين ثم أرسل إليهم من أرجعهم إليه. وحينما وقف يهوذا يشرح أمامه كيف أن أباهم شيخ وانه لو أخذ بنيامين سيصيبه الشر، لم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده.
«فَصَرَخَ: أَخْرِجُوا كُلَّ إِنْسَانٍ عَنِّي. فَلَمْ يَقِفْ أَحَدٌ مَعَهُ حِينَ عَرَّفَ يُوسُفُ إِخْوَتَهُ بِنَفْسِهِ. وَأَطْلَقَ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ» (تكوين 45: 1-2). وقال يوسف لإخوته: «أَنَا يُوسُفُ. أَحَيٌّ أَبِي بَعْدُ؟» (تكوين 45: 3). فلم يستطع إخوته أن يجيبوه بشيء، لأنهم ارتاعوا منه.
وإذ وجد أنهم خائفون قال لهم: «أَنَا يُوسُفُ أَخُوكُمُ الَّذِي بِعْتُمُوهُ إِلَى مِصْرَ. وَالآنَ لاَ تَتَأَسَّفُوا وَلاَ تَغْتَاظُوا لأَنَّكُمْ بِعْتُمُونِي إِلَى ههُنَا، لأَنَّهُ لاسْتِبْقَاءِ حَيَاةٍ أَرْسَلَنِيَ اللهُ قُدَّامَكُمْ… فَالآنَ لَيْسَ أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمُونِي إِلَى ههُنَا بَلِ اللهُ» (تكوين 45: 4-8). وطلب منهم أن يصعدوا ويحضروا أباه. ثم وقع على عنق بنيامين أخيه وبكى، وبكى بنيامين على عنقه، وقبل جميع إخوته، وبكى عليهم.
ثم حضر الجميع. وأدخل يوسف يعقوب أباه وأوقفه أمام فرعون… إنه يفتخر به. وأسكنهم في مصر، وأعطاهم ملكاً في أرض مصر في أفضل الأرض، في أرض رعمسيس. «وَعَالَ يُوسُفُ أَبَاهُ وَإِخْوَتَهُ وَكُلَّ بَيْتِ أَبِيهِ بِطَعَامٍ حَسَبَ الأَوْلاَدِ» (تكوين 47: 12).
بل عند موت يعقوب وقع يوسف على وجهه وبكى عليه وقبله. وأمر عبيده الأطباء أن يحنطوا أباه. فحنط الأطباء إسرائيل، وبكى عليه المصريون سبعين يوماً. ثم صعد ليدفن أباه كما أوصاه، وصعد معه جميع عبيد فرعون وجميع شيوخ أرض مصر. وصعد معه مركبات وفرسان، فكان الجيش كبيراً جداً.. فأتوا إلى بيدر أطاد الذي في عبر الأردن وناحوا هناك نوحاً عظيماً وشديداً جداً. وصنع لأبيه مناحة سبعة أيام.. ثم دفنه في مغارة حقل المكفيلة كوصيته (تكوين 50: 1-13).
وهوذا إخوته يرون أن أباهم قد مات. وأخذوا يتساءلون عما سيصنعه بهم. وقالوا: «لَعَلَّ يُوسُفَ يَضْطَهِدُنَا وَيَرُدَّ عَلَيْنَا جَمِيعَ الشَّرِّ الَّذِي صَنَعْنَاهُ بِهِ» (تكوين 50: 15). فأوصوا يوسف قائلين: «أَبُوكَ أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ قَائِلًا: هَكَذَا تَقُولُونَ لِيُوسُفَ: آهِ اصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ إِخْوَتِكَ وَخَطِيَّتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ صَنَعُوا بِكَ شَرًّا. فَالآنَ اصْفَحْ عَنْ ذَنْبِ عَبِيدِ إِلَهِ أَبِيكَ» (تكوين 50: 16-17).
فبكى يوسف حين كلموه.. فأتى إخوته أيضاً، ووقعوا أمامه وقالوا: «هَا نَحْنُ لَكَ عَبِيدٌ» (تكوين 50: 18). فقال لهم يوسف: «لاَ تَخَافُوا. أَنَا أَعُولُكُمْ وَأَوْلاَدَكُمْ» (تكوين 50: 21). فعزاهم وطيب قلوبهم.
نعم؛ لقد نبع نجاح يوسف من أعماق نفسه. وإن هذه النفس النبيلة، التي تنطوي على هذا اللطف والمحبة والحنان، الجديرة حقاً بالنجاح الذي وصلت إليه.
«أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ» (خروج 20: 12). هذه أول وصية بوعد. «وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ، وَلاَ سِيَّمَا أَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ» (1 تيموثاوس 5: 8). هذا هو تعليم الكتاب المقدس (يوحنا فم الذهب، تفسير سفر التكوين، الفصل 45).
الشركة مع الله: سر النجاح
«كَانَ الرَّبُّ مَعَهُ» (تكوين 39: 3). في هذه الكلمات القليلة الموجزة، يلخص الكتاب المقدس سر نجاح يوسف. كان الرب مع يوسف، فكان رجلاً ناجحاً.. ورأى سيده أن الرب معه، وأن كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده. «فَوَجَدَ يُوسُفُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ وَخَدَمَهُ، فَأَقَامَهُ عَلَى بَيْتِهِ، وَدَفَعَ إِلَى يَدِهِ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ. وَكَانَ مِنْ حِينِ أَقَامَهُ عَلَى بَيْتِهِ وَعَلَى كُلِّ مَا كَانَ لَهُ، أَنَّ الرَّبَّ بَارَكَ بَيْتَ الْمِصْرِيِّ بِسَبَبِ يُوسُفَ» (تكوين 39: 4-5).
وفي السجن، «كَانَ الرَّبُّ مَعَ يُوسُفَ، وَبَسَطَ إِلَيْهِ لُطْفًا، وَجَعَلَ نِعْمَةً لَهُ فِي عَيْنَيْ رَئِيسِ بَيْتِ السِّجْنِ» (تكوين 39: 21). ولم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئاً البتة مما في يده، لأن الرب كان معه، ومهما صنع كان الرب ينجحه.
وإن يوسف ليقر بهذا ويؤمن به. فحينما قص عليه الأسيران حلميهما، نراه – قبل أن يبدأ التفسير – يقول: «أَلَيْسَتْ لِلَّهِ التَّعَابِيرُ؟» (تكوين 40: 8). وكأنه يقول: إني سأستطيع أن أوضح لكما شيئاً، فما ذاك إلا عن طريق موهبة الله لي. ويتكرر الموقف أمام فرعون، فحينما قال له: «أَنَا سَمِعْتُ عَنْكَ قَوْلًا: إِنَّكَ تَسْمَعُ أَحْلَامًا لِتَعَبِّرَهَا». فأجاب يوسف: «لَيْسَ لِي. اَللهُ يُجِيبُ بِسَلاَمَةِ فِرْعَوْنَ» (تكوين 41: 15-16).
وانظر إليه أمام إخوته، إنه يعترف بالفضل كله لله: «لاَ تَتَأَسَّفُوا وَلاَ تَغْتَاظُوا لأَنَّكُمْ بِعْتُمُونِي إِلَى ههُنَا، لأَنَّهُ لاسْتِبْقَاءِ حَيَاةٍ أَرْسَلَنِيَ اللهُ قُدَّامَكُمْ… فَالآنَ لَيْسَ أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمُونِي إِلَى ههُنَا بَلِ اللهُ. وَهُوَ قَدْ جَعَلَنِي أَبًا لِفِرْعَوْنَ، وَسَيِّدًا لِكُلِّ بَيْتِهِ، وَمُتَسَلِّطًا عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ» (تكوين 45: 5-8). وحينما فكر إخوته في أنه سيغدر بهم، تفيض روح الخشوع من حديثه: «لاَ تَخَافُوا! لأَنَّ هَلْ أَنَا مَكَانَ اللهِ؟ أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا» (تكوين 50: 19-20).
بل حتى عند موته، لا ينسى إنه من شعب إسرائيل. إن كل غنى مصر لا يلهيه عن الأرض التي وعد الله بها إبراهيم. لقد أبى أن يبقى في أرض فرعون، رغم ما نال فيها من مجد ومن عظمة، مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله، حاسباً عار المسيح أعظم من خزائن مصر. إن حديثه الأخير ليظهر لنا رجلاً تقياً، لم ينس قط كلام الله. إنه يقول لإخوته: «أَنَا أَمُوتُ، وَلكِنَّ اللهَ سَيَفْتَقِدُكُمْ وَيُصَعِدُكُمْ مِنْ هذِهِ الأَرْضِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي حَلَفَ لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ». وَاسْتَحْلَفَ يُوسُفُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلًا: «اللهُ سَيَفْتَقِدُكُمْ فَتَصْعَدُونَ بِعِظَامِي مِنْ ههُنَا» (تكوين 50: 24-25).
لهذا فإن القديس بولس يضع اسم ذلك الشاب، وسط أسماء أبطال الإيمان العظام، فيقول: «بِالإِيمَانِ يُوسُفُ عِنْدَ مَوْتِهِ ذَكَرَ خُرُوجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَوْصَى مِنْ جِهَةِ عِظَامِهِ» (عبرانيين 11: 22).
كان الرب مع يوسف فكان رجلاً ناجحاً. ولكن المسألة لها وجه آخر – لقد كان يوسف مع الرب. اقترب إلى إلهه فاقترب هذا منه. وانه في وقت التجربة القاسية لا يذكر إلا شيئاً واحداً، علاقته بإلهه. فبعد أن فشل الإقناع الهادئ، والحديث عن سيده وعن الثقة التي وضعها فيه، بعد أن لم يجد كل ذلك، يصرخ يوسف ويقول: «كَيْفَ أَصْنَعُ هذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟» (تكوين 39: 9). وإن الرب ليقترب من كل من يتقدم إليه. «مَنْ يُقْبِلُ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا» (يوحنا 6: 37).
خاتمة: يوسف نموذج النجاح
هذا هو الشاب الناجح
إنه مثل عال لكل من أراد النجاح. وإن حياته ترسم الطريق إليه واضحاً. ما أصدق ما قاله يعقوب عنه حين كان يموت:
«يُوسُفُ غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ،
غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ عَلَى عَيْنٍ.
أَغْصَانٌ قَدِ ارْتَفَعَتْ فَوْقَ الْحَائِطِ.
فَمَرَّرُوهُ وَرَمَوْهُ وَاضْطَهَدُوهُ أَرْبَابُ السِّهَامِ.
وَلَكِنْ ثَبَتَتْ بِمُتَانَةٍ قَوْسُهُ،
وَتَشَدَّدَتْ سَوَاعِدُ يَدَيْهِ» (تكوين 49: 22-24).
قائمة المراجع
- الكتاب المقدس: العهد القديم والجديد، ترجمة الفان ديك.
- يوحنا فم الذهب. تفسير سفر التكوين. (الفصول 39، 40، 41، 45).