صوت حبيبي هوذا آت طافرًا على الجبال
«صوت حبيبي هوذا آت
طافرًا على الجبال، قافرًا على التلال» (2: 8)
«حبيبي هو شبيه بالظبي أو بغفر الأيائل
هوذا واقف وراء حائطنا،
يتطلَّع من الكُوى يُوصوص من الشبابيك» (2: 9)
کلام نشيد الأنشاد كلام شعري بالدرجة الأولى، ليس فقط من جهة الوزن والقافية، ولكن بالأكثر من جهة صياغة المعاني، فكثيرا ما نجد فيه المعنى الواحد يُعبّر عنه بعبارتين مترادفتين الواحدة تلو الأخرى وهذا الأسلوب مألوف عموما في الكتابات العبرية.
نلاحظ أيضًا أن الآية ٨ تتكوّن من مقاطع صغيرة متتالية، تُعبر عن نبض القلب، وكأنها خفقات قلب ينبض بالحب صوت حبيبي… هوذا آت… طافرًا على الجبال … قافرًا على التلال ! وكأنها نبضات قلب هذا الأسلوب يتكرر في مواضع كثيرة في نشيد الأنشاد.
«صوت حبيبي»
المسيح يأتينا بصوته. صوت المسيح صوت مُحيي . وهو نفسه قال: «تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحييون» (يو ٥: ٢٥).
ولكي يُبيّن لنا حقيقة هذا الكلام أوضحها بطريقة عملية في ثلاثة مواقف:
+ « لعازر هلُمَّ خارجًا» (يو ١١: ٤٣)، فقام وخرج الميت حيا.
+ «أيها الشاب لك أقول قم» (لو ٧ : ١٤)، فقام الشاب وجلس.
+ «يا طليثا قومي» (مر ٥: ٤١)، فقامت الصبية.
هذا هو «صوت حبيبي» الصوت المُحيي .
«هوذا آت»
هذه العبارة فيها ملخص المسيحية كلها. فقد كان شعار المسيحيين الأوائل هو «ماران أثا»، أي «الرب آت». نجدها مثلاً في نهاية الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس (١كو ١٦: ٢٢). لقد كانوا دائمًا يُسلّمون على بعض ويُشجعون بعضهم بعضا بهذه العبارة ماران ،أنا الرب يأتي. الرب يأتي باستمرار، بحينًا مستمرًا. هذا هو في الحقيقة عمق الإنجيل البشارة المُفرحة: أن الرب يأتي، أن الرب جاء وهو يأتي ويستمر محيفه بصفة دائمة.
يقول ق. يوحنا كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله. وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد، فليس من الله» (١يو ٤: ٢). مجيء المسيح إلينا هو جوهر المسيحية وتمايزهـا عـن بقية الأديان. فالله ليس نقطة ثابتة وعلينا نحن أن نتحرك نحوه. في المسيحية الله هو الذي يتحرك، هو الذي فيه ديناميكية لا تنتهي، وهو الذي يأتي إلينا في وضعنا الراهن.
سأل أحد الصحفيين الأجانب أبانا الروحى مرة قائلاً: «قل لنا ماذا عملت لكي تصل إلى الله»، فأجاب أبونا قائلاً «أنا لم أعمل شيئًا. أنا لم أصل إلى الله ولكنه هو الذي جاء إلى! ليس المطلوب أن نعمل شيئًا نصل به إلى الله، وكأنه هو نقطة ثابتة بعيدة عنا يلزم أن نتحرّك نحن إليها. بل هو الذي يتحرّك إلينا بصفة مستمرة. هذه هي البشارة المُفرحة هذا هو جوهر الإنجيل: أن الله تجسّد، أن الله جاء إلينا».
«هوذا آتِ». الله هو الذي فيه الديناميكية المُستمرة، وما هو عكس ذلل مُستحيل، ذلك لأني أنا تراب ،وعدم فكيف تتصوّر أن نقطة عدم هي التي يكون فيها ديناميكية تُمكّنها من أن تعبر المسافة التي تفصلها عن الله؟ فأن تصل إلى الله من نفسها هو أمرٌ مُستحيل.
في أديان أخرى يعتقد البراهما والبوذيون أن عليهم أن يتنشكوا ويعملوا ما لا يعمل لكي يصلوا إلى حالة انعدام الوجود فيدخلوا في المُطلق، في الله . لكن هذا ليس طريقنا. طريقنا عكس ذلك: الله هو الذي يأتي إلينا، هو الذي يطلبنا أكثر مما نطلبه نحن هو الذي يسعى إلينا، بل ويجري وراءنا كما سنرى في الشطرين التاليين:
«طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال»
المسيح يجري على الجبال ويقفز على التلال. هذا يعني أنه يعبر كل العقبات التي تفصلنا عنه، وهذا هو عمق حقيقة التخسد. المزمور الأساسي في صوم الميلاد والذي يتكرر كثيراً سواء قبل الإنجيل أو في التسبحة يقول: «طأطأ السموات ونزل وضباب تحت رجليه ركب على كروب ،وطار وهف على أجنحة الرياح» (مز ۱۸: ۹-۱۰). ما معناه؟ معناه أنه عبر المسافة المهولة التي تفصلنا عنه. هذا هو ما تعنيه العروس عندما تقول: «طافرًا على الجبال، قافرًا على التلال». والمسيح نفسه أحب أن يُشبه نفسه بالراعي الذي يكون له مائة خروف ، فإذا ضل أحدهم، يترك التسعة والتسعين الآخرين على الجبال ويذهب وراء الضال حتى يجده (مت ۱۸: ۱۲).
«حبيبي هو شبيه بالظبي أو بغفر الأيائل» (۲: ۹)
الظبي وغفر الأيائل هما مثال الجري السريع جدا. فالعروس تقصد هنا أن تقول: يجري بسرعة كبيرة جدًا. لماذا؟ إنه يجري ورائي. إنه مشتاق إلينا، إنه يجري وراء الضال، إنه يسعى إلينا باهتمام شديد وفي ديناميكية مستمرة لا تنقطع، يشتهي خلاصنا أكثر مما نشتهيه نحن.
جري المسيح وراءنا هو تعبير عن شدة اشتياقه إلينا واشتهائه خلاصنا مكتوب في مثل الابن الضال أنه «إذ كان لم يزل بعيدًا، رآه أبوه، فتحنن وركض ووقع شدة على عنقه وقبله» (لو ۱٥: ۲۰). كلمة «ركض» تعني جرى… جرى من اشتياقه إلى ابنه إلى ابنه الضال. هذا هو الله في تعامله معنا. إنه يجري ويجري من شدة اشتياقه إلينا : ركض ووقع على عنقه وقبله»! هذا هو معنى «حبيبي هو شبيه بالظبي أو بغفر الأيائل».
«هوذا واقف وراء حائطنا،
يتطلع من الكوى، يُوصوص من الشبابيك»
مع شدة اشتياق المسيح إلينا، إلا أنه رقيق جدا في تعامله معنا، ويستحيل أن يقتحم حرية الإنسان الحائط الذي يقف وراءه هو حائط الإرادة الحرة. فلا يمكن للمسيح مع كل حبّه لنا، أن يقتحم إرادة الإنسان الحُرّة. إنه يأتي ويقف وراء الحائط، يتطلَّع من الكوى، يُوصوص من الشبابيك، يترقب أي مبادرة حسنة من جهتنا، ولكنه لا يريد أن يقتحم السور، فهو يقف «وراء حائطنا»، ينتظر أن نفتح له بإرادتنا الحرة.
المسيح يقول: «هنذا واقف على الباب وأقرع إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه» (رؤ ٣: ۲۰) فهو لا يقدر – أو بالأصح لا يريد بسبب حبه – أن يقتحم علينا المكان، بل يقف وراء الباب، يقف وراء «حائطنا، يتطلع من الكوى، يُوصوص من الشبابيك». عبارة يتطلَّع من الكوى، يُوصوص من الشبابيك» تُعبر عن شدة ترقيه واشتهائه لأقل مبادرة حسنة من جهتنا يقول سفر إشعياء النبي: «ولذلك ينتظر الرب ليتراءف عليكم» (إش: ۳۰: ۱۸). هذا يعني أن الرب يشتهي أن يتراءف علينا، ولكنه لا يقدر دون أن نفتح له نحن وتُمكّنه، لذلك فهو ينتظر، ينتظر أن نُعطيه نحن فرصة: «لذلك ينتظر الرب ليتراءف عليكم».
رقيق جدًا هو الله في تعامله مع الإنسان الذي خلقه، وهو يحترم جدا حرية خليقته، لأنها مخلوقة على صورة الله ومثاله. ومن أكرم صفات هذه الصورة هي حرية الإرادة. ولهذا فإن الله يحترم حرية الإرادة الموضوعة في الإنسان لأنها سمات صورة من الله. «ولذلك ينتظر الرب ليتراءف عليكم» يعني أنه يشتهي أن يتراءف علينا ونحن الذين نمنعه هو ينتظر أي مبادرة حسنة من جهتنا حتى تمكنه من أن يتراءف علينا هوذا واقف وراء حائطنا، يتطلّع من الكوى، يُوَصوص من الشبابيك».
انظروا ما أطيب الرب وكم يشتهي خلاصنا أكثر مما نشتهيه نحن!
بالحق إن الله – كما يقول أبونا الروحي -«لا يحتاج أن نتودد نحن إليه، بل هو الذي يتودد إلينا» وينتظر فقط أن نتجاوب معه، أن نفتح له الباب!