لأن صوتكِ لطيف ووجهك جميل
«قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي،
يا حمامتي في محاجى الصخر في ستر المعاقل،
أريني وجهكِ أسمعيني صوتكِ
لأن صوتكِ لطيف ووجهك جميل»
(٢: ١٣-١٤)
نلاحظ أولاً في هاتين الآيتين من جهة الإنشاء والإيقاع أن كلام الحبيب للعروس يأتي في مقاطع قصيرة متتالية، وكأنها نبضات قلب متقطعة تُبيَّن اشتياق العريس للعروس ، وكأنها موزونة بنبضات قلبه مع كل نبضة من القلب يخرج مقطع من هذه المقاطع.
«قومي»
المسيح هو «القيامة والحياة»، ولهذا فكلمة «قومي» تنبع من صميم كيانه ولها مفعول نافذ. فهو عندما قال للشاب الميت : «أيها الشاب لك أقول قُمْ!» قام في الحال (لو ٧: ١٤) وعندما قال «يا صبيَّة قومي» قامت في الحال (٥٤:٨). وهكذا عندما قال «قُمْ ، احمل سريرك وامش» (يو ٥: ٨ ؛ لو ٥: ٢٤).
إنه صوت المسيح الذي قال عنه: «تأتي ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون» (يو ٥: ۲٥). والآن كلَّما نقرأ الكلمة، يكون صوت المسيح حاضرًا، لأن الكلمة هي كلمة الله، والمسيح هو كلمة الله. هكذا كلَّما نقرأ كلمة الله يكون صوت المسيح حاضرًا وأمـره نـافـذ المفعول، فيُقيمنا : «تأتي ساعة وهي الآن…»
من أجمل أناشيد الكنيسة الأولى ما ذكره بولس الرسول في رسالته إلى أفسس:
+ «استيقظ أيها النائم وقم من بين الأموات فيُضيء لك المسيح» (أف ٥: ١٤).
هذه الدعوة للقيامة لا تُوجّه فقط للأفراد بل أيضًا للكنيسة ككل. فالمسيح لا يأمرنا بالقيامة فقط كأفراد ولكنه يأمرنا أيضًا ككنيسة . ونجد هذا المعنى متكرّرًا في سفر إشعياء:
+ «انهضي انهضي قومي يا أورشليم التي شربتِ مـن يـد الـرب كأس غضبِهِ ثُفلَ كأس الترنّح شربتِ مصصت» (إش ٥١: ١٧).
+ «استيقظي استيقظي البسي عزّك يا صهيون البسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة» (إش ٥٢: ١).
+ «قومي استنيري لأنه قد جاء نورُكِ ومجد الرب أشرق عليكِ» (إش ٦٠: ١).
هذه الآيات جاءت في سفر تعزية إسرائيل الذي هو الجزء الثاني من سفر إشعياء وهي من النبوات التي تُقرأ في ليلة عيد القيامة إنها توضح المعنى الكنسى لقول المسيح «قومي يا حبيبتي». وأمره سواء لنا كأفراد أو ككنيسة هو أمر نافذ المفعول، وليس مجرد دعوة بالكلام، ولكن مع الكلام تدخلنا قوة القيامة إذا ما سمعنا صوته بإيمان.
«يا حبيبتي»
«ليس لأحدٍ حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه» (يو ١٥: ۱۲). لا يوجد أحدٌ على الأرض أحب حبيبته كما أحبَّنا المسيح، كما أحبّ المسيح كنيسته .ق بولس اعتبر أن هذا الحبَّ يُضرب به المثل، لذلك عندما قال «أيها الرجال أحبُّوا نساءكم» أضاف «كما أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها» (أف ٥: ۲٥) فيليق جدا بالمسيح أن يُسمّي النفس البشرية أو يُسمّي الكنيسة يا حبيبتي»، هذا يحق له لأنه أسلم نفسه لأجلها.
«قومي يا حبيبتي يا جميلتي يا حمامتي…»
يلاحظ هنا أن ضمير الملكية يتكرر ثلاث مرات كما تستعمله العروس أيضًا: «أنا لحبيبي وحبيبي لي» (٦: ٣). فالمسيح قد افتدانا بدمه، وضمير الملكية يُبين أننا صرنا ملكًا له «شعب اقتناء» كما يقول بطرس الرسول (۱بط ۲: ۹)، وقد اقتبس هذه العبارة من العهد القديم: «شعبك الذي اقتنيته» (خر ١٥: ١٦ بحسب السبعينية). وكذلك يقول ق بولس: «كنيسة الله التي اقتناها بدمه» (٢٠: ۲۸) أي التي صارت ملكًا خاصا له بثمن دمه. كما يقول أيضًا: «الذي بذل نفسه لأجلنا لكي… يُطهِّر لنفسه شعبًا خاصًا غيورًا في أعمال حسنة» (تي ٢: ١٤). فقوله «لنفسه» وقوله شعبًا خاصًا يُبيّن أننا صرنا ملكًا خاصا له. فنحن للمسيح لحبيبنا: «لستم لأنفسكم، لأنكم قد اشتريتم بثمن، فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي الله» (١كو ٦: ٢٠). والقديس بطرس يقول بنفس المعنى: «عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب… بل بدمٍ كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح» (۱بط ۱: ۱۸-۱۹). فالمسيح قد اشترانا ولم نَعُد لأنفسنا بل قد صرنا له.
«يا جميلتي»
هذه العبارة تتكرر كثيرًا في نشيد الأنشاد، وفي كل مرة تقابلنا يجب أن نتذكر أول مرة ذكرت في النشيد: «أنا سوداء وجميلة» (١: ٥) النفس البشرية سوداء من نفسها، ولكنها تكون جميلة فقط بانعكاس جمال المسيح عليها. نحن من أنفسنا ليس فينا شيء صالح، كما يقول بولس الرسول: «فإني أعلم أنه ليس ساكن في أي في جسدي، شيءٌ صالح» (رو ۷: ۱۸) ، ولكن أي شيءٍ صالح فينا هو منه هو: «أي شيءٍ لك لم تأخذه؟ وإن كنتَ قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟» (١كو٤: ٧). فأي صلاح فينا هو ليس منا ولكنه من جمال المسيح الذي سكبه علينا. كما يقول أيضًا في حزقيال: «وكان (جمالك) كاملاً ببهائي الذي جعلته عليك يقول السيد الرب» (حز ١٤:١٦).
هذا هو معنى قول المسيح لنا يا جميلتي. أما نحن فنرد عليه قائلين: أنا جميلة بجمالك الذي سكبته عليَّ . وأما من نفسي فأنا سوداء، ويستحيل أن أنسى سوادي.
«یا حمامتی»
هذا لقب جديد للعروس أو للكنيسة. يقول المزمور
+ «ليت لي جناحًا كالحمامة فأطير وأستريح هأنذا كنت أبعد هاربًا وأبيت في البرية» (مز ٥٥: ٦-٧)
وهذا المزمور يُقرأ في رسامة الرهبان الجدد الحمامة هنا ترمز للنفس التي تحت الانفراد مع الله التي تشتاق أن تخرج إلى البرية لتنفرد مع الله. وهذا المعنى تؤكده بقية الآية:
«في محاجى الصخر، في ستر المعاقل»
محاجی الصخر تعني شقوق الصخر. وستر المعاقل تعني أيضًا المكان المُختفي، فالمعاقل مكان منفرد يُختفى فيه. وقد جاء هذا المعنى في الرسالة إلى العبرانيين هكذا:
+ «وهم لم يكن العالم مستحقًا لهم تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض» (عب ۱۱: ۳۸).
قال بولس الرسول هذا عن أبرار العهد القديم والصديقين الذين كانوا يخرجون إلى البراري لينفردوا مع الله أو ليهربوا من الفساد الذي في العالم، تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض والكنيسة في قسمة الصوم الكبير تقتبس هذه العبارات لتطبّقها على الرهبان، مضيفةً: «من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح».
«محاجئ الصخر» أو شقوق الأرض والمغاير كانت دائمًا في كل جيل مكان التقابل مع الله. نرى هذا في حياة موسى وحياة إيليا فكل منهما تقابل فيها مع الله إيليا النبي أيقظه الملاك وقال له: «قم وكل» وبعدما أكل وشرب، «سار بقوة تلك الأكلة أربعين نهارًا وأربعين ليلة إلى جبل الله حوريب ودخل هناك المغارة وبات فيها» (۱مل ۱۹: ۹).
وقد قاد الله إيليا إلى جبل الله حوريب بالذات وجعله يدخل «المغارة» (بالألف واللام) ومفهوم أنها لم تكن أي مغارة بل هي المغارة التي تقابل فيها موسى مع الله، وهي التي دعاها سفر الخروج «نقرة من الصخرة» حيث يقول: ويكون متى اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز» (خر ۳۳: ۲۲).
في هذه المغارة تقابل موسى مع الله وتكلّم وتكلم معه وجهًا لوجه. ثم إيليا أيضًا عندما ضاقت نفسه جدا بسبب المشاكل وإيزابل الملكة التي كانت تطارده، خرج منطلقا «إلى جبل الله حوريب ودخل المغارة وبات فيها، وهناك تقابل مع الله وعزاه الله».
هكذا أيضا في كل جيل، الكنيسة عندما يضيق العالم بها، تجد لها ملجاً في البرية. وفي سفر الرؤيا إشارة إلى ذلك، فالمرأة التي ترمز إلى الكنيسة التي تتمخض دائما لولادة الإنسان الجديد، عندما زاد عليها اضطهاد التنين «هربت إلى البرية حيث لها موضع مُعد من الله لكي يعولوها هناك ألفًا ومئتين وستين يومًا» (رؤ ١٢: ٦). وأما هذه المدة: «ألفًا ومئتين وستين يومًا»، ويتكرر ذكرها عدة مرات في سفر الرؤيا هي ومرادفاتها (٤٢ شهرًا أو ثلاث سنين ونصف)، فلها مغزى روحي، لأن الثلاثة والنصف ترمز إلى عدم الكمال، لأنها نصف السبعة التي ترمز إلى الكمال، فالمقصود أن الضيقة ستكون لفترة محدودة ولن تطول كثيرًا، كما يقول الرب في سفر إشعياء: «لحيظةً تركتُكِ وبمراحم أبدية أرحمكِ» (إش ٥٤: ٧).
«في ستر المعاقل»
کلمة «ستر» تعني مكانًا في الخفاء. والحب الإلهي يحتاج إلى الخفاء. هكذا علَّمنا المسيح: «وأما أنت فمتى صلَّيتَ فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصل إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية» (مت ٦: ٦). هذا الخفاء في المخدع وغلق الباب لا يعني به المسيح فقط المخدع المادي أو غلق الباب المادي، ولكنه يعني الدخول إلى مخدع القلب بالعبادة الخفية الدائمة داخل القلب دون أن يشعر بها أحد. وهذا هو جوهر ما يطلبه منا المسيح عريسنا الحقيقي بقوله «في محاجئ الصخر في ستر المعاقل»، أي داخل القلب دون أن يدري أحد.
«أريني وجهكِ، أسمعيني صوتك
لأن صوتكِ لطيف ووجهك جميل»
المسيح هنا يستعذب حبَّنا بسبب صلاحه هو وجهنا جميل ليس في ذاته، لأنه في ذاته أسود: «فإني أعلم أنه ليس ساكن في أي في جسدي شيء صالح» (رو ۷: ۱۸) ولكن وجهنا جميل في عيني المسيح بسبب محبته هو، وبسبب انعکاس جماله هو علينا.
فإذا كان المسيح يستعذب حبَّنا ويتنازل ليقول لنا: «صوتك لطيف ووجهكِ جميل»، ويطلب منا تقديم محبة قلوبنا له أريني وجهكِ، أسمعيني صوتك»، فكيف لا تسمعه أصواتنا لكي تسبب السرور لقلبه؟!
نحن نُشبه عروسًا شابةً حينما تكتشف الصنف الذي يلد لحبيبها أن يأكله، فإنها تسرع بتجهيزه له في كل يوم، وتعتبر نفسها سعيدة جدًا أنها اكتشفت الشيء الذي يلد لحبيبها. فإذا كان المسيح كشف لنا الشيء الذي يُسِرُّه، فكيف لا تُسرع ونُقدِّم له هذا الصنف الذي يلذ له في كل حين؟
+ «أُغنّي للرب في حياتي، أُرنّم لإلهي ما دمتُ موجودًا، فيلذ له نشيدي وأنا أفرح بالرب» (مز١٠٤: ٣٤).
+ «أُسبح اسم الله بتسبيح وأعظمه بحمد، فيستطاب عند الرب أكثر من ثور بقر ذي قرون وأظلاف» (مز ٦٩: ٣٠- ۳۱)
هكذا نشيدنا يله لله وتسبيحنا يستطاب عنده أكثر من كل الذبائح المادية.
+«فلنُقدِّم به أي بالمسيح في كل حين الله ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه مُعترفة باسمه» (عب۱۳: ١٥).
هذه هي الذبيحة التي يلذ للمسيح أن يقبلها من قلوبنا، والتي يطلبها منا بإلحاح:
«أريني وجهكِ، أسمعيني صوتك
لأن صوتك لطيف ووجهك جميل»