هل لا بد للعالم من خالق؟
مقدمة
سألني صاحبي: “ما برهانك على وجود الله؟” فقلت: “إن هذا الكون العجيب السائر وفق قوانين معينة لا يمكن أن يوجد بذاته، بل لا بد له من خالق أعظم منه هو الله”.
فقال صاحبي: “وكيف وُجِد الله؟” فقلت: “إنه موجود بذاته”. فقال: “إن زعمت أن الله أعجب من العالم وموجود بذاته، فماذا يمنع أن يكون العالم موجوداً بذاته؟”
هذا التساؤل يقودنا إلى البحث المنطقي في طبيعة الوجود (الأزلية والحدوث) قبل البحث في شخص الخالق.
الحجة المنطقية لوجود الخالق: الأزلية والحدوث
حدود العقل البشري وإدراك اللانهائية
تصوّر مستقيمًا طوله متر مثلاً، فإنك تشعر كأنك تحويه في فكرك. ولكن ماذا يكون الأمر لو فكرت في مستقيم ذي طول غير منتهٍ؟ لا شك أنك ستنتقل بفكرك على مستقيم خيالي طويل، ولكنك لن تظل متنقلاً بتصورك إلى الأبد.
إذاً فالعقل البشري عاجز عن إدراك غير المتناهي إدراكاً كاملاً كأنه يحويه. ومع ذلك، فنحن نفهم من كلمة “اللانهائية” معنى معيناً واضحاً، ونعرف لها بعض الصفات. أهمها غير المتناهي غير قابل للزيادة. وبتعبير رياضي: إذا رمزنا إلى اللانهائي بحرف (س)، فإن (س + ص = س) (ولو رمزت ص هذه إلى أضخم الأعداد). وذلك لأنه لو كانت (س) قابلة للزيادة، لكانت مقداراً محدوداً.
الوجود بين الأزلية والحدوث
لنفكر في الأزلية، وهي ماضٍ غير متناهٍ، أي لا بدء له. ارجع بعين الخيال لتجد للماضي نقطة ابتداء، فمهما رجعت بالفكر إلى الماضي البعيد، كنت كمن يجري ليُلحق غايته، فلا تزال الأزلية بعيدة عنك بعداً غير متناهٍ، إذ مهما جعلت للماضي البعيد ابتداءً، فماذا كان قبل هذا الابتداء سوى ماضٍ أبعد؟
ولنسأل الآن: هل هذا الوجود (العالم) الذي نراه أزلي لا بداية له، أم حادث وله ابتداء؟
إن الوجود في تغير وانتقال من حال إلى حال. أن الوجود احتاج إلى هذه الألف من السنين ليتم تطوره إلى الصورة الحالية. ومعنى ذلك أن ماضي العالم كان مقداراً محدوداً ناقصاً قبل إضافة هذه السنوات الألف إليه، وذلك ليس من صفات اللانهائي. ولهذا، فإن من الحقائق الفلسفية الأولية أن الأزلية والتغير لا يتفقان. إذاً فليس هذا الوجود أو العالم أزلياً، بل حادثاً مبتدئاً.
الوجود السرمدي والوجود الحادث: مفهوم واجب الوجود
لقد مر بنا أن الأزلية حقيقة يضطر العقل إلى التسليم بها؛ لأننا لا نستطيع أن نتصور ماضياً دون ماضٍ سابق له. وانتهينا الآن إلى أن العالم غير أزلي، فماذا كان منذ الأزل قبل حدوث العالم؟
- إما ألا يكون وجود مطلقاً، وإما أن يكون هناك وجود سابق لوجود العالم. ولكن لو كان ثمة “لا وجود” أزلي، فمن غير الممكن أن يتحول اللاوجود الأزلي إلى عالم حادث في زمان ما؛ لأن هذا التحول والتغير من لا وجود إلى وجود يتعارض مع أزلية اللاوجود الذي افترضناه.
- لا بد إذاً أن يكون هناك “وجود” أزلي سابق لوجود هذا العالم الحادث. ولما كانت الأزلية والتغير لا يتفقان – كما مر – فلا بد أن يكون هذا الوجود الأزلي غير متغير.
الوجود السرمدي والوجود الحادث
إذاً فالمنطق يحتم هذه الحقيقة، وهي أن هناك وجوداً أزلياً غير متغير، ووجوداً حادثاً متغيراً. وهي حقيقة تهدم المذاهب الفلسفية القائلة بوحدة الوجود (Pantheism). ويتحتم أن يكون الوجود الأزلي أبدياً أيضاً، إذ لو كان له انتهاء لما كانت اللانهائية الماضية – أعني الأزلية – كافية لبلوغه نهايته. فهو وجود “سرمدي” (ونعني بالسرمدية الأزلية والأبدية والثبات).
أما علاقة الوجود السرمدي بالوجود الحادث (أي العالم)، فلا يمكن أن تكون استحالة الأول أو جزء منه إلى الثاني، ولا يمكن أن يكون العالم نتيجة اضطرارية للوجود السرمدي (أي فيضاً أضطرارياً فاض من الوجود السرمدي، كما تخرج الثمرة من الشجرة)، لأن ذلك جميعه يعتبر تغيراً طارئاً على الوجود السرمدي، ويتعارض مع ثباته وأزليته.
0
*21
بقي إذاً أن يكون إحداث العالم بالنسبة للوجود السرمدي أمراً اختيارياً، أي أن الوجود السرمدي بحريته أحدث العالم بعد أن لم يكن، أي لم يخلقه من شيء.
ولا محل للتساؤل عن متى طرأت فكرة الخلق على الوجود السرمدي، أو متى خلق الوجود السرمدي العالم؛ لأن الخلق لم يطرأ على الوجود السرمدي، وإلا لكان في طروئه تضاد مع ثباته. بل الحقيقة هي أن الخلق أزلي في قصد الوجود السرمدي، بل وأزلي في قصده أيضاً أن يكون الخلق في زمان معين. إذاً فالخلق طارئ بالنسبة للعالم الذي أُحدث في زمان، وأزلي بالنسبة للوجود السرمدي.
والعالم وهو مخلوق بعد عدم لا يملك من نفسه نظاماً أو انسجاماً، بل ما يبدو في العالم من حكمة وجمال فهو من الوجود السرمدي الذي أوجده ووضع له قوانين يتجلى فيها ما عليه الوجود السرمدي الخالق من حكمة وجمال. وتلك الحقيقة المنطقية المحتومة – هذا الوجود السرمدي، هذا الخالق القدير الحكيم – نسميه “الله”.
الإيمان بين العقل والقلب
إنني أسوق هذا البرهان لأبين أن العقل أيضاً، وليس القلب وحده، يؤمن بوجود الخالق تعالى. غير أنني أقول: إن إيمان العقل وحده لا يستحق أن يسمى إيماناً؛ لأن معرفتنا لله ينبغي أن تكون من قلب عامر بالمحبة والإيمان والرجاء.
من المنطق إلى الإيمان: الله واجب الوجود بلا مُسبب
يبدو أن كل شيء موجود كانت له بداية في وقت ما، باستثناء الله. السؤال: من وراء وجود الله؟
الإجابة المختصرة عن هذا السؤال هي: «لا شيء». فالله أزلي، مما يعني أن له حياة بلا بداية أو نهاية. لم تمر لحظة لم يكن الله موجوداً فيها، ولن ينتهي أبداً. ولأن الله دائماً ما كان موجوداً، فلن يحتاج إلى مسبب. فإن كان يوجد مُسبِّب لوجود الله، فلن يكون إذن هو الإله؛ لأن هناك أعلى منه تسبب في وجوده.
لفهم ذلك، لا يمكن أن نسأل باستمرار سوى عن سبب الأشياء التي يمكن أن تسبب من حيث المبدأ، مثل الكراسي والكتب وأجهزة الكمبيوتر. لكن بما أن تعريف كلمة “الله” يعني أنه موجود بذاته (بلا مسبب)، وبالتالي فهو ليس من الأشياء التي يمكن أن يكون لها سبب؛ لذلك، فإن سؤال: «ما أو مَن هو مسبب الله؟» في الواقع بلا معنى.
على الرغم أن عقولنا لا تستطيع إدراك كيف أن الله أزلي، فهذا لا يعني أنه من غير المنطقي الإيمان بذلك. من الطبيعي أن نشعر بأن شيئاً من خارج الكون قد تسبب في وجوده. ويعد الله الخالق الأزلي هو التفسير الأكثر منطقية. يقول الكتاب المقدس: «أَلَمْ تَعْلَمُوا؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا؟ إِنَّ الرَّبَّ هُوَ إِلَهُ دَهْرٍ وَخَالِقُ أَقَاصِي الأَرْضِ» (إشعياء ٤٠: ٢٨).
مَن هو الله حقاً؟
. فكيف يمكننا كبشر – ولسنا أرواحاً – أن نعرف من هو الله؟
صحيح أن الله مختفٍ عنا بطرق عديدة، يقول الكتاب المقدس إن الله روح (يوحنا ٤: ٢٤)، ولا أحد يقدر أن يرى الله ويعيش (خروج ٣٣: ٢٠). لكنه ما يزال يُظهر نفسه لنا بدرجة كبيرة. فقد أعلن عن نفسه للخليقة كلها. وعندما نتأمل العالم من حولنا، نرى لمحة من طبيعة الله المبدعة، والتجارب التي بلا نهاية، وعظمته غير المفهومة.
ولأن الله قد أعلن عن نفسه لنا في شخص يسوع المسيح، فقد رأينا الله في الجسد. ويمكننا أن نرى بطريقة قوية للغاية كيف يريد أن يرتبط بنا، ويكون في علاقة معنا. وكلُّ واحدة من هذه الأبعاد المذكورة عن الله تعطينا فهماً أكبر عَمَّن هو الله بالفعل.
الله له صفات غير محدودة
إن واحدةً من الأشياء التي نعرفها عن الله أنه “غير محدود”، وهو يتخطى فهمنا كبشر محدودين. ماذا يقول الكتاب المقدس لنا؟
- إن الله سرمدي
بمعنى أنه له حياة غير محدودة بلا بداية أو نهاية (إشعياء ٤٠: ٢٨). فقد خلق الله الزمن، وأشرك نفسه داخل الزمن، لكنه موجود منذ الأزل خارج الزمن. لم تمر لحظة قط لم يكن الله غير موجود فيها، ولن يحدث ذلك أبداً. لا يمكننا حقاً أن نستوعب مفهوم أن الله أزلي وموجود بذاته، لكن هذا جزء من كينونة الله. - الله كلي القدرة
والكتاب المقدس يكشف عن إله “كلي القدرة”. فإن أراد أن يفعل شيئاً، معناه أنه قادر على فعل هذا الشيء. قال الملك داود: «عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا وَعَظِيمَةٌ قُوَّتُهُ» (المزامير ١٤٧: ٥). إن الله القدير الذي يسود على الكون له قدرة على معرفة المستقبل، وجعله يحدث. - الله كلي الوجود
ليس لمعرفته وقوته حدود؛ لذا نقول إن الله كلي الوجود. ومرة أخرى، ككائنات محدودة، لا نستطيع تصور أنه يمكن أن يكون كلي الوجود، في الزمان والمكان، الخاصين بالكون الذي نعيش فيه، وكذلك خارجهما (بما يتجاوزهما) (إرميا ٢٣: ٢٣، ٢٤). ومع ذلك، فهذا جزء من كينونة الله. - الثبات: الله لا يتغير
وبطبيعته يمكن الاعتماد عليه؛ لأنه غير قابل للتغيير. وهذا يعني أنه لن يتردد أو يكذب. سيفعل دائماً ما يقوله (راجع المزامير ١٠٢: ٢٦، ٢٧؛ العدد ٢٣: ١٩). - الله كلي المعرفة
معرفة الله غير محدودة، فهو يعرف كل شيء، الماضي والحاضر والمستقبل؛ لذا فهو كلي المعرفة (إشعياء ٤٦: ٩، ١٠؛ المزامير ١٣٩: ١). خذ بعين الاعتبار كل شيء موجود داخل الكون المعروف. وبرغم أن الكون موجود منذ آمادٍ بعيدة، فإن ذلك لا يمكن أن يؤثر على معرفة الله.
طبيعة الله المقدسة
من المستحيل التعبير عن سمات الله غير المحدودة أو استيعابها. لا يمكن إدراك قلبه المُحب. وعلى الرغم أننا لا نستطيع، بأي حالٍ من الأحوال، فهمه باستفاضة، فإننا مشدودون له بقوة، ويمكننا الارتباط به ارتباطاً حقيقياً. فقد خلقنا لكي نبادله الحب، ونحب الآخرين كما نحب أنفسنا. وعلى الرغم أننا كبشر نفشل في محبة الآخرين محبة كاملة، الله لا يفشل، يقول عنه الكتاب المقدس: «هُوَ الصَّخْرُ الْكَامِلُ صَنْعَتُهُ. إِنَّ جَمِيعَ سُبُلِهِ عَدْلٌ. إِلَهُ أَمَانَةٍ لاَ جَوْرَ فِيهِ. صِدِّيقٌ وَعَادِلٌ هُوَ» (التثنية ٣٢: ٤).
يكشف الكتاب المقدس عن الإله القدوس الكامل والعادل والبار (إش ٥٤: ٥؛ رؤ ٤: ٨، رؤ ١٦: ٥، مز ١١٩: ١٣٧). وهذه السمات لم يقرر أن يفعلها، لكن هذه السمات في كينونته، وكل ما هو بار وقدوس وعادل وخيّر مشتق من طبيعته الأساسية. يقول الكتاب المقدس: «كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ» (يع ١: ١٧).
تجعل طبيعة الله المقدسة وغير المتغيرة من المستحيل أن يكذب، أو يفعل ما يتعارض مع صلاحه المطلق (رومية ٣: ٣، ٤؛ العبرانيين ٦: ١٦-١٨). لذا فالله هو المعيار المطلق لتحديد الصواب والخطأ، والخير والشر. والفرح الحقيقي والسعادة. والحياة التي تتشبه بالله تعني اختبار البر والصلاح والفرح الذين يقدمهم الله، والحياة البعيدة عنه تعني اختبار الشر والمعاناة وغياب الخير والصلاح.
إذا بدأنا بالفعل في فهم من هو الله، يجب الاعتراف بأنه غير محدود، وبالتالي نكون في رهبة له، ونعترف بطبيعته ونقبله، ونُقر بصلاحه المطلق ونعبده. قال الملك سليمان في حكمته: «بَدْءُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ، وَمَعْرِفَةُ الْقُدُّوسِ فَهْمٌ» (الأمثال ٩: ١٠).