الخليقة كلها تمجد الله
أولاً – الخليقة ومركزها بالنسبة الله
[في البدء خلق الله السموات والأرض ] ـ سفر التكوين ١: ١
كلمات قليلة تنم عن رؤية بعيدة الأغوار… أن هذا الكون الفسيح له بدء، أي أنه قد أتى من الـعـدم … وقبل أن يظهر للوجود لم يكن هناك عالم … هذه الخليقة التي بدأت في لحظة كانت هي «البدء»، بدء الزمن.
وهذا هو القديس أغسطينوس يتكلم بإسم الخليقة عن أن هذا الكون مخلوق في « بدء » من الزمان :
[العالم يصرخ أنه قد خُلق ـ يصرخ بأنه لم يخلق نفسه:
أنا موجود لأني مخلوق.
وأنا لم أكن موجوداً قبل أن أخلق
لا يمكن أن أخلق ذاتي]
القديس أغسطينوس
المشيئة الإلهية وراء دعوة الوجود من العدم:
وأي مغزى يكمن وراء هذه الحقيقة التي ما عاد أحد يتشكك فيها وهي أن العالم مخلوق ــ وأن سبب نشأة العالم تكمن خارج نفسه؟
– إنها مشيئة الله المحب الرحوم «الذي يدعو الأشياء غير الموجودة لـتـصـيـر مـوجـودة» (رومية ٤: ١٧).
مشيئة الله التي شاءت فخلقت العالم شاء الله أن يكون هناك وجود بجانب وجوده اللانهائي [ قطرات الخليقة الآن موجودة بجانب محيط الوجود اللانهائي واللامحدود].
القديس غريغوريوس النيصي
إن الله في محبته أراد أن يكون هناك وجود آخر بجانب وجوده اللانهائي … الذي وإن ظل الله فيه أعلى من العالم المخلوق، بل وستظل هناك دائماً مسافة غير محدودة بين طبيعة الله ( الأزلي) وطبيعة المخلوق (الذي له بدء) ؛ إلا أن هناك حقيقة أروع من هذه تكمن هناك. هذه هي حقيقة محبة الله: هذه الحقيقة هي أن:
[ « الله محبة » وهو ينبوع المحبة … والخالق أعطانا سمة المحبة. فإن غابت المحبة فكل معالم الصورة تتداعى ( أي الصورة التي خُلق عليها الإنسان)]
القديس غريغوريوس النزينزي
الحقيقة الإلهية المزدوجة المعلنة لنا نحن البشر: أن الله متعال بالنسبة لخليقته، وفي الوقت نفسه فإن محبة الله هي التي تملأ هذا البعد بين الطبيعة الخالقة والطبيعة المخلوقة، بموهبة الوجود الدائم تدفقها على الخليقة من يدي الله : [ به نحيا ونتحرك ونوجد ] – أعمال الرسل ۱۷ : ۲۸
[بنعمته ومشيئته وكلمته توجد الخلائق …
حتى أنها لا يمكن أن تتوقف عن الوجود ما دام الخالق يشاء لها الوجود ]
القديس أثناسيوس الرسولي
ألا تثير فينا هذه الحقيقة الدائمة الملازمة لحياتنا ووجودنا التسبيح للخالق على موهبة الحياة المتدفقة فينا على الدوام ؟
[مع كل نفس نعطيه نسبح إسمك القدوس …
ياربي يسوع المسيح مخلّصي الصالح ]
إبصالية الإثنين
الحرية الإلهية ومحبة الله :
ولنتعمق أكثر في تأمل محبة الله ، مستعيرين بعض التعاليم التي علم بها آباء الكنيسة في القرن الرابع وهم يواجهون تعليماً غريباً نادت به هرطقة الأريوسية، التي ادعت أن خلقة العالم لم تكن نابعة من مشيئة الله الحرة، بل كانت عملاً حتمياً نابعاً من جوهر طبيعة الله. وأين المحبة هنا في غياب الحرية؟
لا … لقد خلق الله العالم دون أي إلزام ، ولكن بمحض حرية محبته الكاملة. والحرية قرينة المحبة، والمحبة قرينة الحرية. فما كان ينقص الله شيء، حتى ولو لم يكن العالم قد خُلق:
[إن كمال الله المطلق لا يمكن أن يعتمد إلا على الله نفسه وعلى طبيعته ، فقد خُلق العالم من فیض صلاحه]
ميثوديوس الأوليمبي
«من فيض صلاحه » – والفيض هو نتاج المحبة … حرية الحب الإلهي تهب الوجود للعدم، وتظل أمينة على دوام هذا الوجود وارتقائه …
فلا شيء ء كان يحتم على الله أن يفكر في خلقة العالم ، بل هي مسرته الصالحة من نحونا حتى قبل أن يوجد الكون وما عليه .. كنا في فكر الله وتدبيره : [ اختارنا قبل تأسيس العالم لنكون قديسين و بلا لوم قدامه في المحبة ] أفسس ٤:١
[منذ الأزل، والعقل الإلهي يتأمل في النور المشتهى الذي لجماله الفائق ، ذلك البهاء الكامل للاهوت المثلث الشعاع … ذلك العقل الذي في فكره الفسيح غير المحدود تأمل في شكل العالم والكون الذي فيما بعد صنعه، والذي بالنسبة الله كان حاضراً آنذاك. فكل شيء ظاهر أمام عيني الله، سواء ما سيكون أو ما كان أو ما هو كائن الآن … لأن كل شيء يجري أمام الله كأنه شيء واحد، والكل ممسوك بالأذرع الإلهية المتسعة]
القديس غريغور يوس اللاهوتي
– «هذا النور المشتهى للجمال الإلهي » … هو الذي كان يدبّر خلقة العالم قبل أن يُخلَق، وهو الذي زيّن بالجمال هذا الكون الجميل الذي أمامك … بل وزين الإنسان الذي هو أنت بجمال الصورة الإلهية التي طبعها فيك …
– «لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات : قدرته السرمدية ولاهوته » (رومية ١: ٢٠ ) .
حضور الله في كل مكان ، واشتراك الكل فيه:
[الحاضر في كل مكان المالىء الكلّ ، كنز الصالحات ومعطي الحياة]
صلاة الساعة الثالثة
هذه حقيقة إلهية كونية أخرى – شاء الله فأعلنها لنا … [ وحتى وإن كنا لا ندرك تماماً هذا الحضور]– على حد تعبير القديس يوحنا ذهبي الفم، إلا أنه حاضر حقاً وحقيقة، وهو حاضر حضوراً فعالاً مخيباً، معلناً نفسه للإنسان بأنواع وطرق متنوعة :
[وفي تدبيراته ونعمه التي تنبع من الله غير الموصوف ، وتصب في نهر فائض ، فيه تشترك كل الموجودات]
القديس غريغور يوس النيزينزي
وهنا لابد أن ننتقل لنتأمل الإنسان المعلَن له هذه الحقائق الإلهية كلها المختصة بالخليقة الجامدة:
ثانياً الإنسان تاج الخليقة
«وخلق الله الإنسان من تراب الأرض » ( تكوين )
«من تراب الأرض» أُخذ الإنسان، أي من الخليقة الجامدة، لكن الله نفخ نسمة الحياة في أنفه، فصار نفساً حية.
[لأن الله، كما يقول الكتاب، أخذ من تراب الأرض، وصنع الإنسان، وبنفخته زرع الحياة في هذا الإنسان المخلوق، حتى ترتقي هذه الخليقة الأرضية بالإتحاد مع الإلهي، وحتى تمتد النعمة الإلهية المعطاة لواحد (وهو آدم ) إلى كل الخليقة، الطبيعة السفلى تمتزج بما هو أعلى ]
القديس غريغوريوس النيصي
إرتباط الإنسان بالخليقة:
أرأيت الإرتباط بين الخليقة الجامدة وبين الإنسان الخليقة العاقلة … إذن فأنت تحمل في نفسك كل عناصر الخليقة … ولكن مع امتياز نسبك الإلهي.
«آدم إبن الله » لوقا ۳: ۳۸
[لكنه هو وحده الإنسان دون سائر الخليقة الذي تمتع بالعلاقة مع الله]
غريغوريوس النيصي
بل إن بعض الآباء القديسين سموا الإنسان بأنه « الكون الصغير» «مـيـكــروكـوزم microcosm». لكي تنكشف أمامهم الحقيقة الكبرى في علاقة الإنسان المزدوجة : مع الله – ومع الخليقة.
ها الآن قد أصبح مفهوماً أمامنا – كيف أن تمرد الإنسان الأول على الله قد جر الخليقة كلها وراءه إلى الموت.
وكيف أن في الإنسان الجديد ( الرب يسوع المسيح ) ترجع الخليقة كلها مرة أخرى إلى التجلي والحياة الجديدة :
« رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة» ( سفر الرؤيا ۱:۲۱)
« الخليقة كلها تنتظر استعلان أبناء الله. إذ أخضعت الخليقة للبطل. ليس طوعاً بل بسبب الذي أخضعها ( الإنسان) على الرجاء. لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله» (رومية ٨: ۲۱ ، ۲۲ ).
إرتباط الخليقة بالإنسان :
أرأيت إذن ، أيها القارىء العزيز ، مركزك الإلهي في هذا الكون؟
أنستطيع إذن أن نتكلم عن الإنسان، إلا وهو في علاقته مع الله وعلاقة الله به.
فأنت خُلقت ليس ككائن مستقل أو مكتفياً بذاتك، بل خُلقت واكتمالك وارتقاؤك مستمدان من ثباتك في الله وفي حال نعمته.
[بنعمته ومشيئته توجد الخلائق … حتى أنها لا يمكن أن تتوقف عن الوجود مادام الخالق يشاء لها الوجود]
القديس أثناسيوس الرسولي
[لقد فسدت النفس حينما تجردت عن حالتها الطبيعية ، ففي أي شيء كان يكمن خير النفس الأعلى؟
كان ذلك في الإتصال بالله والإتحاد به بالمحبة.
وحينما أخفقت النفس في ذلك ، فسدت بسبب ضعفها ووهنها على كل وجه ]
القديس باسيليوس
حالة النفس الطبيعية » هي في الاتصال بالله والإتحاد به بالمحبة … أي أن المشاركة مع الله هي التي تعطي طبيعة الإنسان ثباتها وقوامها !!
إمتياز الإنسان :
[ لقد عاش آدم في السمو، ولكن بمحض حرية إرادته ، وذلك حينما نال موهبة الحياة ، وإذ كان ينظر إلى السماء كان يفرح بما يرى ، وكان يُفعم بالمحبة الخالقة، الذي أسبغ عليه التمتع بالحياة الأبدية.
لقد أعطاه السلطان كما أعطاه للملائكة،
لقد جعله يشارك في حياة رؤساء الملائكة وأن يسمع صوت الله . وبجانب كل هذا فقد كان تحت الحماية الإلهية، متمتعاً بكل خيرات الله ]
القديس باسيليوس الكبير
[حينما كان آدم في الفردوس ، كان كائناً سما و يا ]
القديس أمبروسيوس
[كان تحت بصر الله ، وتألق بالنعمة السماوية ، وتكلم مع الله]
القديس أمبروسيوس
غاية اكتمال طبيعة الإنسان:
هذه هي بدايـة الإنـسـان … إمـتـيـاز على الخليقة الجامدة ، ورفعة كالملائكة. ولكن ما هي نهاية الإنسان؟
إلى أي مدى سيرتقي الإنسان كما خُلق منذ البدء ؟
[ ذروة السر الإلهي في الإنسان هو اكتماله نحو ( الثيئوسيس » ( الشركة في الطبيعة الإلهية ) ، وذلك بسبب ميله الطبيعي نحو الله]
القديس غريغوريوس اللاهوتي
[على صورة الله خُلق الإنسان حياً لذلك فبالشركة في الروح يتجلى متغيراً نحو الله]
القديس كيرلس الكبير
ملخص :
- العالم خُلق من العدم إلى الوجود .
- المشيئة الإلهية وراء دعوة الخليقة من العدم.
- حرية المشيئة الإلهية في خلقة العالم تنم عن محبة الله غير المحدودة . الأمر الذي يدفع الإنسان إلى تسبيحه وشكره.
- الله حاضر في كل مكان ، والكل مشترك في حضوره.
- الإنسان تاج الخليقة، وفيه تتمركز الخليقة المادية.
- إمتياز الإنسان على المخلوقات يكمن في المصير المدعو إليه أي الشركة في الطبيعة الإلهية. وهذا الإمتياز هو الذي يحثه على الجهاد ويبعثه إلى التسبيح.