نظرة عامة على أحداث الكنيسة في القرن السادس 

التمهيد لكارثة الغزو والانفصال 

بنياحة البابا داميانوس (سنة ٥٩٨ ميلادية شرقية / ٣١٤ للشهداء)، أتى القرن السادس إلى نهايته. لذلك يجدر بنا أن نتصفح في عُجالة أهم معالم تاريخ كنيستنا في هذا القرن، وذلك لسببين مهمين: 

  1. إنه القرن الذي أعقب القرن الخامس الذي حدث فيه الانشقاق الكبير في مجمع خلقيدونية بين كنائس مصر والمشرق ومَن يتبعهما. ثم حدث ما حدث من الصراع الضاري من جانب الإمبراطورية البيزنطية (الموالية للمجمع) ضد الكنائس الأرثوذكسية التي لم تعترف به، وقد نال منه أقباط مصر النصيب الأكبر.  
  2. إنه القرن الذي يسبق القرن السابع الذي كان مُخبّاً فيه عن أنظار أطراف الصراع الخلقيدوني في هذا القرن ما سيحدث في القرن التالي من كارثة الغزو المزدوج للشرق: الغزو الفارسي، ثم الغزو العربي، وما تبعهما من انفصال قسم كبير من جناحي الإمبراطورية البيزنطية مما أضعفها وجعلها مهيأة هي الأخرى للغزو العثماني بعد ذلك بثمانية قرون. ناهيك عن التدهور الذي أصاب كنائس هذه المنطقة بسبب ما عانته من اضطهاد وتنكيل وتبديد لثرواتها اللاهوتية والأثرية. 

معالم أهم الأحداث في القرن السادس 

1- النزاع الخلقيدوني 

ففي هذا القرن حاول الإمبراطور المتسامح زينون سنة (٤٨٢م) بالتعاون مع البطريرك القسطنطيني أكاكيوس (الذي كان أولاً مناصراً لمجمع خلقيدونية ثم اقتنع بفساد قراراته نتيجة رسائل البابا الإسكندري بطرس)، في إصدار ما يُسمَّى بمنشور الاتحاد Heniticon محاولاً التقريب بين الطرفين مراضياً كليهما بتصريحات تتناسب مع معتقدات واعتراضات كل منهما. وقد وقعه بابوات وبطاركة الإسكندرية وأنطاكية وكنائس الشرق اليوناني ولكن اعترض عليه بابا روما بل وحرم بطريرك القسطنطينية أكاكيوس الذي تصالح مع بابا الإسكندرية بدون أخذ موافقة بابا روما أولاً. وقد أتبع بابا روما هذا التقارب بحرمه الإمبراطور البيزنطي. وكما تسببت الحروم الكنسية في أن تعمل بجد على شرخ الوحدة بين الكنائس في مجمع خلقيدونية (سنة ٤٥١م)، هكذا عملت على إفشال محاولة إرجاع الوحدة (سنة ٤٨٢م). ولكن منشور الاتحاد ظل سارياً بين كنائس الشرق خلقيدونية ولا خلقيدونية لمدة ٣٦ عاماً، إلى أن جاء الإمبراطور جوستين الأول (سنة ٥١٨م)، وانتهج سياسة موالية للخلقيدونيين هو وابن أخته جوستنيان الذي خلفه بعد ذلك.

وهكذا فشلت محاولة الوحدة الأولى والأخيرة، وضاعت فرصة ذهبية كان يمكن أن تغيّر مجرى تاريخ ليس الكنيسة فحسب بل والعالم أجمع. 

٢ – المجهودات اللاهوتية العلمية في القرن السادس: 

في هذه الفترة الذهبية (سريان منشور الاتحاد) ظهر أعاظم اللاهوتيين في الكنائس اللاخلقيدونية، وعلى الأخص تحت حكم الإمبراطور المتسامح أنسطاسيوس (٤٩١-٥١٨م)، مثل البطريرك ساويرس الأنطاكي الذي هرب إلى مصر ومارس عمله اللاهوتي من هناك (٤٦٥ – ٥٣٨م)، والقديس فيلوكسينوس المنبجي في هيرابوليس بسوريا (٤٤٠-٥٣٨م). وهذان كانا ذوي علم لاهوتي بارع شهد له المؤرخون الغربيون[1]، في الوقت الذي لم يكن لدى الطرف الخلقيدوني علماء لاهوتيون يُعتد بهم، وذلك بحسب المؤرّخين الخلقيدونيين أنفسهم[2]، حتى أنهم قرروا أنه كان يبدو لزمن طويل أن اللاهوتيين اللاخلقيدونيين قادرون على قلب قرارات مجمع خلقيدونية رأساً على عقب. 

ومن ثمار هذه النهضة اللاهوتية في هذه الفترة، أن بدأ الكتاب يؤلفون ما يُسمَّى بـ “اعتراف الآباء”[3] الذي يحوي مقتطفات من كتابات آباء الكنيسة السابقين ليُظهروا التقليد الأرثوذكسي غير المتغيّر في مواجهة الهرطقة النسطورية ومقررات مجمع خلقيدونية. وقد شهد المؤرخون غير الأرثوذكس بأن البطريرك ساويرس الأنطاكي بذل جهوداً وأبحاثاً مضنية لضمان أصالة وصحة هذه النصوص والتأكد منها[4]

3- أسلوب الهراطقة في مواجهتهم للمعلمين الأرثوذكس الأمناء: 

يقول الباحثون والعلماء اللاهوتيون إن المنهج الذي اتَّبعه البطريرك نسطور وأتباعه في المناداة بهرطقته التي كانت السبب في الجدل والانقسام المحزن في أواخر القرن الخامس واستمر حتى الغزو العربي للشرق، كان هو بعينه المنهج الفلسفي الأرسطوطالي (نسبة إلى أرسطو الفيلسوف اليوناني القديم ٣٨٤ – ٣٢٢ ق.م). ويشرح القديس البابا كيرلس الكبير منهج نسطور (المستَقى من المنهج الفلسفي لأرسطو) في مقاومته ومقاومة تعليمه الروحي واللاهوتي هكذا: 

[إنه (أي نسطور) يستخرج لنفسه استنتاجات تجديفية من كلمات وتعاليم البابا كيرلس التي هي جدَّ صحيحة ولا غبار عليها عن جد صحيحة ولا غبار عليها عن كيف نفهم تدبير التجسد في المسيح][5]

أي أن نسطور كان يهاجم استنتاجات استخرجها هو بعقله من تعاليم البابا كيرلس الصحيحة عن التجسُّد، ثم يهاجم هذه الاستنتاجات كأنها رأي وتعليم القديس كيرلس الكبير. 

ويتبع القديس كيرلس تحليله لطريقة نسطور في مهاجمته بأن يتساءل: 

[ألا يتضح لكل إنسان أنها سخافة لا حد لها أن يتخذ واحد موقفاً هجومياً ضد عدو لن ينوي بأي حال أن يردَّ عليه ويدافع عن نفسه، أو أن يُقاوم تعليماً لا يدور في خلد أي إنسان أن يُفكّر فيه أو يقوله؟… إنه كمَن يُضارب الهواء أو يلكم الظلال (١كو ٢٦:٩) ! إذ يتجسّم التعب والنضال ضد ما ليس موجوداً أصلاً].

وكان نسطور يستخدم أسلوب الأسئلة التهكمية التشكيكية ليُشكك الشعب في تعليم القديس كيرلس الكبير مثل: هل طعنة الحربة كانت في جنب اللاهوت أم في جنب الناسوت؟ وهل نتناول اللاهوت أم الناسوت؟ وغيرها من الأسئلة التهكمية على أسرار التجسد والفداء! 

ثم يختم وصفه لمهاجمة نسطور له موجهاً له الحديث : 

[لو فتحت عينيك قليلاً على الحق، فلسوف تدين نفسك بنفسك على خواء هجومك، وستجد أنك في هذرك إنما تُقاوم تعاليم التقوى ]. 

ومن المعروف أن الذي نقل فلسفة أرسطو ومنهجه إلى المفكرين المسلمين هم النساطرة الذين ترجموا كتاباته إلى العربية بعد القرن السابع ولفتوا أنظار العالم العربي إليها حيث درست وطورت. ثم بمجيء القرن الثاني عشر ترجم العلماء الأسبان أعمال أرسطو من العربية إلى اللاتينية، حيث أنتجت دراسته في الغرب المسيحي ثورة في علم اللاهوت الغربي على يد توما الأكويني أبي اللاهوت الكاثوليكي المدرسي (١٢٢٦-١٢٧٤م). وهذا يُفسر لماذا ينزع كثير من اللاهوتيين الغربيين المحدثين إلى تبرئة نسطور والانحياز لهرطقته، وذمّ مجمع أفسس، والعداء للبابا القديس كيرلس الكبير ومقولاته اللاهوتية وأعماقه الروحية الميستيكية عن شخص المسيح وعن الحياة الروحية. 

وهكذا استمرت المجادلات بين الخلقيدونيين واللاخلقيدونيين في القرن السادس على هذا المستوى العقيم، مما أضاع الحقائق اللاهوتية وحجب عن الطرفين معرفة وتفهم الآراء والمعتقدات الحقيقية لكل طرف عن الطرف الآخر، مما أَبْعَدهما فكرياً عن بعضهما البعض، وهذا بالتالي أضاع كل فرص الالتقاء. وظل هذا الوضع المحزن خمسة عشر قرناً إلى أن التقى لاهوتيو الطرفين في القرن العشرين بأذهان صافية وقلوب خالية من أحقاد التاريخ وسخافات المجادلات الغبية (٢ تي ۲۳:۲)، واكتشفوا وأقروا بأنَّ لا خلافاً عقائدياً أو لاهوتياً بين الطرفين بل حول الألفاظ والتعبيرات، وذلك في اجتماعات مشتركة من لاهوتيي الطرفين في النصف الثاني من القرن العشرين اكتشف فيها الطرفان صحة العقيدة لدى كلّ منهما ،ولكن ويا للأسف، بعد أن تمزقت الكنيسة ودخل الغرباء، وتشتّتت الخراف لمدة ۱٥ قرناً من الزمان وما زالت، بينما الأباطرة والقيادات البيزنطية يتفرجون على الغزو الفارسي ثم العربي. 

4 – انتشار المسيحية الأرثوذكسية في النوبة 

 

لقد أثر هذا الصراع إيجابياً على هذه البلاد التي كانت على صلة وثيقة بمصر منذ العصور الفرعونية. وقد هاجر إلى النوبة عدد كبير من الأقباط فيما بين القرن الثاني والقرن السادس للميلاد، حيث كان لهذه الهجرة أثر مباشر إذ انتشرت في النوبة بشارة الإنجيل. ويظن البعض أن الملكة كنداكة التي ورد اسمها في الأصحاح الثامن من سفر الأعمال كانت من النوبة. ويرجع ذلك إلى أن النوبة كانت مُقسَّمة إذ ذاك إلى ثلاث ممالك، ومن بينها مملكة كان على رأسها ملكة اسمها كنداس. 

 

 

وفي وسط الضيقات والاضطرابات التي عصفت بالأقباط خلال القرن السادس لم تعجز نعمة الله  عن أن توجد رجالاً ونساءً يُدركون مسئوليتهم تجاه البشارة الصافية بالإنجيل. ومن بين هؤلاء الراهب يوليانس الذي فضَّل أن يُكرس حياته لتوصيل بشارة المسيح إلى الذين لم يسمعوها بدلاً من أن يخوض في الجدل السياسي والمجادلات العقيمة. 

وقد استطاع البابا الإسكندري ثيئودوسيوس (البابا المعترف أي الشهيد بدون سفك دم) أن يطلب، وهو في سجنه بالقسطنطينية معاونة الإمبراطورة ثيئودورا التي كانت متعاطفة مع اللاخلقيدونيين لتجعل زوجها الإمبراطور يوستنيان يوافق على إرسال البابا رسالة إلى أسقفي أسوان وفيلا يوصيهما بالنوبيين خيراً. وكان الراهب يوليانس قد نجح في أن ينشر الإيمان في النوبة وقد قضى في هذه المملكة ١٨ سنة نجح في تأسيس كنيسة منظمة بها، لها رعاتها وخدامها العاملين فيها. ثم سلّم الشعلة إلى راهب آخر اسمه لونجينوس كرَّس حياته هو الآخر لخدمة الشعب النوبي. وقد نهج الملك أربيثوم ابن الملك سيلكو منهج أبيه في قبول الإيمان، فأمر بتحويل المعابد إلى كنائس. 

ثم سمع ملك مملكة علوه (المملكة الوسطى) بجهاد الراهب لونجينوس المستمر فبعث إليه برسالة سنة ٥٧٥م يدعوه أن يأتي إلى بلاده فلى الدعوة وذهب إلى منطقة سوبا. فلم يلبث أن ربح  الملك للإيمان، فامتدت المسيحية بجهوده حتى بلغت ضفاف النيل الأزرق. ولشدة فرح الأنبا ثيئودوسيوس أسقف فيلا بأعمال هذا الراهب تحدَّث عنها إلى البابا داميانوس الذي كان يجلس إذ ذاك على الكرسي المرقسي، فرسم لونجينوس أسقفاً على النوبة عام ٥٨٠م. واستكمالاً للرسالة ترجم الأقباط الكتاب المقدس إلى اللغة النوبية. وأصبحت النوبة تابعة للكرسي المرقسي ولكن الكنيسة القبطية تحترم دائماً قوميات شعوبها المختلفة مما ربط الكنيسة النوبية بالكنيسة الأم في الإسكندرية. 

وبالرغم من اندثار المسيحية من النوبة اضطراراً تحت تهديد إبراهيم باشا ابن محمد علي، وهو في رحلة غزوه للسودان (القرن التاسع عشر)، إلا أنه لا يزال هناك عدد من آثار الكنائس تزينها الأعمدة والأيقونات التي تعلوها الزخارف. 

ومما يجدر ذكره هنا أن العلماء الذين اشتغلوا منذ سنة ١٩٦٠ في إنقاذ الآثار الفرعونية في النوبة قبل أن تجرفها مياه النيل عند اكتمال بناء السد العالي، عثروا على عدد من الكنائس مزدانة بأيقونات ملونة ومذهبة وقد وجد هؤلاء الباحثون في كنيسة “فرس Faras“ سجلاً يحوي أسماء خمسة وعشرين أسقفاً من أساقفة منطقة باشوراس Pachoras تحت الناحية الجنوبية الشرقية داخل الكنيسة هناك. كذلك عثروا في كنيسة قصر إبريم على جثمان أسقف لتلك الجهة يحمل تقليد رسامته بالقبطية وصورة منه بالعربية. ومن بين الكنوز التي عثروا عليها عدداً من المخطوطات ما تزال تحت البحث والدراسة. ويقول الأستاذ بلوملي Prof. Plumly أستاذ التاريخ بجامعة كمبردج بإنجلترا وأحد الذين اشتغلوا بإنقاذ آثار النوبة بأنه يرجّح وجوب إعادة كتابة تاريخ النوبة الكنسي بعدما تتكشف حقائق هذه المخطوطات. 

إن بداية المسيحية في بلاد النوبة في القرن السادس ثم اندثارها في القرن التاسع عشر، هو أحد آثار الجدل العقيم في القرن السادس مما دفع الراهب يوليانس للتبشير في النوبة، ثم في القرن السابع حيث اجتياح الغزو الفارسي ثم الغزو العربي للبلاد، والذي أدَّى في النهاية إلى اندثار المسيحية في النوبة. 

  1.  Henry Chadwick, The Early Church, p. 206. 
  2. (2) Gerald Bray, Creeds, Councils & Christ, IVP, USA, p.164. 
  3.  هذا الكتاب مسجّل في مخطوطات الأديرة، ولا يخلو دير من عدة مخطوطات تحويه. 
  4.  Henry Chadwick, op. cit., p. 207. 
  5. (5) Against Nestorius, III, 1-2, cited in: Cyril of Alexandria, by Norman Russell, Routledge, London, 2000, p. 162. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى