سبت الفرح والنُّور

مقدمة

جرت العادة عند الرومانيين، أن يتركوا جثث المصلوبين على طلباتهم حتى تأكلها الجوارح، أو حيوانات البرية، أو تتلاشى من ذاتها. وأما اليهود، فكان عليهم أمر صريح من الله، أن لا تبيت جُنَّة المعلق على خشبة، بل تُنزل وتُدفن في ذات اليوم الذي صُلب فيه. وجرت العادة أنهم كانوا يطرحون جُثَث القتلى في حفرة في “وادي هنوم” وهو الوادي الذي يمر جنوب غرب أورشليم (القدس)، والمعروف اليوم باسم “وادي ربابه”.

ويُسمَّى هذا الوادي في الكتاب المقدَّس بأسماء: “وادي هنوم”، أو “وادي ابن هوم”، أو “وادي بني هنُوم”. 

وينحدر هذا الوادي من باب الخليل إلى بئر أيوب، ويفصل جبل صهيون عن تل المؤامرة السيئة. 

ويُسمَّى الجزء الجنوبي الشرقي من هذا الوادي توفه، أو وادي القتل. وكان هو الحد الفاصل بين سبطي بنيامين ويهوذا. 

وكان الملك سليمان قد بني على الجرف الجنوبي لهذا الوادي والمشرف عليه مرتفعات موآب. كما أجاز الملك آحاز والملك منسى أولادهما بالنار في هذا الوادي. وقد أبطل الملك يوشيا هذه العادة، وذلك بتنجيسه الوادي والمرتفعات بعظام النَّاس، وبأشياء أخرى دنسة، وبتكسيره التماثيل، وقطعه السواري. ومن ثم صار الوادي منخفضاً تصرف فيه بالوعات المدينة ومخلفاتها. وبالنظر إلى ما تنجس بــه هــذا الوادي من نار الإله مولك، وأيضاً بالنيران المستعملة لإحراق الكناسات المتخلفة عن المدينة، أخذ اليهود يسمونه “جهنَّم”، أي “أرض هنوم”، وجعلوه علماً لموضع العقاب. 

في هذا الوادي طُرحت جثتا اللصين ولولا أن يوسف الذي مـــــن الرامة تقدم إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع، لطرح مع اللصين كما كان قصد رؤساء اليهود. 

ولقد عرضت في الجزء الثاني من كتاب “البصخة المقدسة”، كيف اعتنى كل من يوسف الرامي ونيقوديموس بجسد يسوع، وتكفينه بالأطياب والحنوط ووضعه في قبر كان يوسف قد بناه لنفسه في الصخر. فتمت بذلك نبوءة إشعياء الذي قال: «جُعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته» (إشعياء ٩:٥٣). 

ووضع جسد الرَّب في القبر يوم الجمعة قبل غروب الشمس، وقام في صباح الأحد باكراً. فتكون الفترة التي بقيها السيد في القبر، نحو ست وثلاثين ساعة؛ جزء من يوم الجمعة – قبل غروب الشمس – ويوم السبت بليلته، وجزء من يوم الأحد الذي قام فيه باكراً. 

ولقد اعتبرت هذه المدة ثلاثة أيام وثلاث ليالي، وذلك من مبدأ في كتاب التلمود، والذي يُعدُّ أقدس كتاب عند اليهود بعد التوراة، وهو أن إضافة ساعة إلى يوم تُحسب يوماً آخر، وإضافة يوم إلى سنة، تحسب سنة أُخرى، وكذا كان الأمر في أستير. ولازالت هذا العادة مرعية حتى اليوم؛ فلو ولد طفل في آخر يوم في السنة، تُحسب السنة كلها. ولولا أن اليهود كانوا يعرفون ذلك، لاعترضوا على المسيحيين، وادعوا كذبهم، وكذب مسيحهم، لعدم إتمام وعده بقيامته في اليوم الثالث. 

وتدور طقوس الكنيسة وصلواتها في يوم سبت الفرح والنُّور، بينما جسد الرَّب مسجى في قبره. فماذا كانت طقوس هذا اليوم في القرون الأولى للمسيحية؟ 

سبت الفَرَح والنُّور في العشرة قرون الأولى للمسيحية 

يكتنف أصل الاحتفال بطقوس صلوات هذا اليوم في القرون الأولى للمسيحيَّة، صعوبة جمة . فقد عبرت طقوس هذا اليوم على مراحل كثيرة، وتقلبات متباينة، يتعذر معها تتبع تسلسلها الليتورجي، كيف بدأت، وكيف نمت، وكيف وصلت إلينا الآن؟ 

فنقرأ بين سطور المخطوطات، ولاسيما مخطوطات ترتيب البيعة، أنَّ طقوس صلوات هذا اليوم – منذ القرن الثاني عشر الميلادي – كانت تبدأ مباشرة بعد انتهاء صلوات يوم الجمعة العظيمة قرب الغروب وتستمر حتى إلى ما قبل غروب اليوم التالي، أي يوم السبت، مع فترات راحة قليلة. مما يعني أنه كانت هناك ألحان وتسابيح وصلوات كثيرة كانت تقال في هذا اليوم، لم يبق لنا منها، لا أوزانها الموسيقيّة، ولا حتى كلماتها أيضاً. 

وإنَّ العشرة قرون الأولى للمسيحيّة، تكاد أن تكون معدومة الوثائق الطقسية – باستثناء شذرات بسيطة متفرقة هنا وهناك – والتي ربما كانت تطلعنا على شكل الخدمة الليتورجيَّة لهذا اليوم. ولاسيما أن بداية القرن الثَّامن الميلادي، في عهد الوليد بن عبد الملك بن مروان (٧٠٥-٧١٥م)، وفي ولاية أسامه بن يزيد (۷۱۳-۷۱۷م) على مصر، تعرضت الكنيسة القبطية – ومعها مصر كلّها – لحملة اضطهاد عنيفة، أتت على الأخضر واليابس فيها، فهُدمت الكنائس، وخُرِّبت بعض التجمعات الرهبانية، وتعرضت معظم المقتنيات الكنسية للسلب والنهب والحرق، وكان من بينها مخطوطاتنا وكتبنا الكنسيَّة. لذلك يلاحظ الدارس أن أقدم ما نعرفه من وثائقنا القبطية، لا ترجع لما قبل القرن التاسع الميلادي، اللهم إلا النَّذر اليسير. ولكن بقيت الكنيسة القبطية وهي تحمل في جسدها سمات جراحات وآلام عريسها. فصارت سمات العريس واضحة في عروسته. 

ومن هنا تبرز أهمية الطقس المقارن في كشف نواحي الغموض التي تكتنف طقس كنيسة ما في فترة ما من التاريخ. فطق التاريخ. فطقوس الكنائس المختلفة، قد أثرت وتأثرت ببعضها البعض، بقدر يمكننا من تكميل جوانب ليتورجية غامضة في كنيسة ما، بالبحث في طقوس كنيسة أُخرى. 

ولنبدأ القصة من بدايتها، على أن يكون البحث محصوراً في سبت الفرح والنُّور، وهو هدفنا الآن. 

ففي العصور المبكرة للمسيحيّة، وفي الكتابات الكنسية ولاسيما الليتورجية منها، لا نكاد نعثر على معنى – ولو ضمني – يعبر عن وجود خدمة طقسية كانت تمارس في يوم السبت المقدَّس، كاحتفال تمهيدي لعيد الفصح العظيم. 

ولكننا نلحظ في المقابل، اهتمام الكنيسة المسيحية الأولى، ومنذ البداية، بليلة عيد الفصح أي عيد القيامة، حيث روعيت إقامة الليتورجية فيها، مع ما تشمله من مراسيم وطقوس تقليدية في هذه الليلة المقدسة والتي تُسمّى Pascal vigil service. 

فالاحتفال التقليدي بعيد القيامة، قد عُرف في ليلة السبت / الأحد للعيد. ولدينا شواهد واضحة من القرن الثاني الميلادي بإقامة احتفال واحد في هذه الليلة، يجمع بين تذكار آلام الرَّب وقيامته معاً. 

فيُطلعنا مقال : “حول الفصح peri pascha” للأسقف مليتو Melito أسقف ساردس، عن الاحتفال بآلام المسيح وفرح قيامته معاً في خدمة ليتورجية واحدة في ليلة القيامة في هذه الفترة المبكرة من تاريخ الكنيسة. 

وهو نفس ما تخبرنا به السائحة الأسبانية إيجيريا في القرن الرابع الميلادي، في وصفها لخدمة عيد الفصح في كنيسة أورشليم، حين كان الأسقف يقرأ فصل الإنجيل المقدَّس الذي يتضمَّن آلام المسيح وصلبه وقبره، ثم قيامته من بين الأموات وكيف كانت الجموع المحتشدة تبك تأثراً بآلام الرَّب، ثم تتحول مشاعرها إلى الفرح عند سماعها بشرى القيامة من بين الأموات. 

هذه واحدة من أهم الملامح الليتورجية التي تميز الاحتفال بعيد الفصح في العصور الأولى للمسيحيّة. 

ولكن كانت المشكلة الأساسية في هذا الوقت المبكر مــن تاريخ الكنيسة، هو تحديد يوم عيد الفصح، وهل يكون في الرابع عشر من نيسان بغض النظر عن اليوم من الأسبوع الذي يقع فيه العيد؟ أو يكون يـوم الأحد بالذات، وهو اليوم الذي قام فيه الرَّب من بين الأموات؟ إلى جان مدة الصوم التي كانت تسبق يوم الفصح، والتي تباينت بين كنيسة وأُخرى. 

ففي هذا النّزاع الذي انتقل إلى كافة أرجاء العالم المسيحي، كانت تبرز عبارة “الصوم الفصحي“. 

فيقول يوسابيوس في تاريخه الكنسي: 

“وقد أثيرت وقتئذ مسألة ليست هيئة. لأن جميع إيبارشيات آسيا، اعتقدت بناء على تقليد قديم، أن اليوم الرابع عشر القمري، وهو اليوم الذي أُمر فيه اليهود أن يذبحوا خروف الفصح، هو الذي يجب أن يُحفظ كعيد فصح مخلصنا. لذلك كان يجب أن ينتهي صومهم في ذلك اليوم، بغض النظر عن وقوعه في أي يوم من الأسبوع. 
ولكن لم تجر العادة في سائر كنائس العالم إنهاء الصوم في ذلك الوقت. لأنه جرت عادتهم التي تسلّموها من التقليد الرسولي، والتي لا تزال سارية إلى الآن أن لا ينهوا صومهم في أي يوم آخر، سوى يوم قيامة مخلصنا”. 

وما يهمنا الآن في كلام يوسابيوس القيصري، هو ذكره أن كــــلا الفريقين كان يحتفل بليلة الفصح بعد صوم يسبق الاحتفال الفصحي. فماذا كان شكل هذا الصوم؟ وما هي مدته؟ هذا ما يعنينا الآن بالتحديد في حديثنا عن السبت المقدَّس الذي يسبق عيد الفصح. 

يقول يوسابيوس في تاريخه الكنسي، وهو ينقل رسالة للقديس إيريناؤس (١٣٠-٢٠٠م)، كان قد أرسلها إلى فيكتور أسقف روما، يقول له فيها: 

[إن النزاع ليس محصوراً في اليوم فقط (أي يوم الفصح)، بل يتعلّق أيضاً بطريقة الصوم. فالبعض يظنُّون أنهم يجب يصوموا يوماً واحداً، وغيرهم يومين، وغيرهم أكثر. والبعض يحسبون يومهم أربعين ساعة نهاراً وليلاً. وهذا الاختلاف في حفظ الصوم لم ينشأ في أيامنا بل في أيام آبائنا قبل ذلك بوقت طويل. ويبدو أنهم لم يراعوا الدقة التامة. وهكذا تركوا لأنسالهم عادةً تتفق مع بساطتهم وطريقتهم الخاصة. ومــــع ذلك، فقد عاش جميع هؤلاء في سلام … وإن عدم الاتفاق في الصوم، يؤيّد الاتفاق في الإيمان]. 

وهكذا يتضح لنا قدّم الصَّوم الذي يقول عنه القديس إيريناؤس (۲۰۰-۱۳۰م) إنه معروف في الكنيسة قبل زمانه بوقت طويل. وهــو الصوم الذي كان يمتد ليوم واحد أو يومين أو أكثر. 

ومن أقدم الإشارات في هذه الفترة، والتي نعرف منها أن كنيسة الإسكندرية كانت تحفظ عيد الفصح في يوم الأحد، مسبوقاً بصوم، هو ما ورد في رسالة لمجمع أساقفة فلسطين إلى كل الكنائس، تقول: “… ونعرفكم بأنهم في الإسكندرية يحفظونه في نفس اليوم مثلنا، لأنَّ الرَّسائل قد حملت منا إليهم، ومنهم إلينا حتى أننا نحفظ اليوم المقدس بنفس الطريقة وفي نفس الوقت. 

ومن هذه الإشارة المبكرة للغاية عن طقس كنيسة الإسكندرية لعيد الفصح، نعرف أن عيد الفصح كان يُحتفل به في يوم الأحد، حيث يسبقه فترة ،صوم سُمّيت باسم “الصوم الفصحي”. 

إذا، فقد كان يوم السبت السابق لعيد الفصح، هو يوم صوم في كنيسة الإسكندرية كما في كنائس العالم بدون أي إشارة عن احتفال ليتورجي يختص به وهذه نقطة هامة، وأوليَّة في تسلسل بحثنا عن يــــوم السبت المقدس. 

ثم إذا جئنا إلى البابا ديونيسيوس الكبير (٢٤٧-٢٦٤م)، وهو البابا الرابع عشر من بطاركة ،الإسكندرية، فيُخبرنا يوسابيوس القيصري، عن رسالة فصحيَّة للبابا ديونيسيوس أرسلها إلى باسيليدس، يخبره فيها عن موعد الصوم الفصحي الذي يسبق عيد الفصح. وهي الرسالة التي اعتبرتها الكنائس الشرقية رسالة قانونية، وقسمتها – فيما بعد – إلى أربعة قوانين. فيقول له: 

[يتوقف موعد كسر الصيام الفصحي، على معرفة الساعة التي قام فيها المخلّص بالتدقيق. وهذا لا يستطاع تعيينه مما ورد في الأناجيل الأربعة. ولذلك، فالذين لم يصوموا أيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ليس بالأمر الكثير عليهم أن يصوموا الجمعة والسبت قبل القيامة، حتى الساعة الثالثة الفصح. أما الذين صاموا كل الأيام الستة من الأسبوع، فلا يُلامون إذا بكروا في كسر الصيام حالاً بعد منتصف الليل]. 

وهنا إشارة ليتورجية جديدة بالغة الأهمية. ففي حين يتكلم القديس إيريناؤس (١٣٠ – ٢٠٠م) عن صوم يوم واحد في بعض الجهات، لعله يوم السبت العظيم السابق لعيد الفصح، فهنا يتكلم البابــــا ديونيسـيـوس الكبير عن صوم يومي الجمعة والسبت قبل القيامة، كيومي صوم يشترك في صومهما الجميع. إلى جانب ذكره أيضاً لصوم ستة أيام قبل الفصح. 

إذا فحتى أواخر القرن الثالث الميلادي، كان صوم يومي الجمعة والسبت قبل القيامة، أمراً مستقراً. ولكن البعض كانوا يصومون ستّة أيام قبل القيامة وليس يومين فقط. 

وهكذا يتأكد لنا مرَّة أُخرى، أنَّ يوم السبت السابق لعيد القيامة مباشرة، كان يوماً للصَّوم، ولكن بدون ذكر، لأي احتفال ليتورجي يُقام فيه. 

ومن ثم، فنخلص إلى القول إنه منذ أيام البابا ديونيسيوس الكبير (٢٤٧-٢٦٤م) ، وربَّما منذ أيام البابا ديمتريوس (۱۸۹-۲۳۱م)، امتد الصوم الذي يسبق عيد الفصح إلى ستة أيام. 

وأقدم إشارتين لصوم الستة أيام السَّابقة للفصح في كنائس الشرق، هما: 

(۱) رسالة البابا ديونيسيوس الإسكندري إلى الأسقف باسيليدس، حيث يرد فيها تعبير “…. أيام الصوم الستة ….“. 

τὰς ἓξ τῶν νηστειῶν ἡμέρας

(۲) الديداسكاليا : ۲۱ ، حيث يرد فيها تعبير : ستّة أيام البصخة“. 

ἓξ ἡμέραι, ἡμέραι τοῦ πάσχα. 

إنَّ الاحتفال الليتورجي بعيد القيامة، كان يجري ليلة الأحد، أي ليلة العيد، حيث ارتبط هذا الاحتفال بالمعمودية التي كانت تجري للمعمـدين في هذه الليلة، وهو ما نعرفه منذ زمن العلامة ترتليان (١٦٠- ٢٢٥م). كما أننا نجد وصفاً متقناً لطقوس المعمودية التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بعيد الفصح في كتاب التَّقليد الرَّسولي لهيبوليتس (استشهد ٢٣٦م). 

ومن المهم أن يعرف القارئ العزيز يعرف القارئ العزيز أن تعبير “الفصح”، هو  المناسبة الكنسية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتتميم مراسيم المعمودية فيها، حيث يعقب المعمودية إقامة الاحتفال الإفخارستي. على اعتبار أن الفصح يعني العبور، أي الانتقال من الموت إلى الحياة. وعبورنا من الموت إلى الحياة لا يبدأ إلا بالمعموديّة، والتي هي عبور من حياة بحسب الجسد، إلى حياة بحسب الرُّوح . أي من حياة أبناء هذا الدهر، إلى حياة أبناء الله. 

لقد وعت الكنيسة أن تحتفل بتتميم مراسيم المعمودية في ليلة الفصح، والتي كانت هي مناسبة الاحتفال بآلام الرب وقيامته معاً، بسبب ما تحمله المعمودية من هذا المعنى المزدوج، كشركة في موت الرب وقيامته في آن واحد. فصار الاحتفال بمراسيم المعموديَّة في ليلة الفصح، هو خير ممارسة فعلية ،حقيقية، لا برمز وذكرى، بل بخبرة حية تعيشها الكنيسة في مــوت الرب وقيامته، كقول الرسول: «مدفونين معه في المعمودية التي فيها أُقمتم أيضاً معه، بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات» (كولوسي ١٢:٢). 

وعلى قدر ما بدأ الاحتفال بآلام المسيح يبتعد عن ليلة الفصح رويداً رويداً، على قدر ما بدأ الاحتفال بطقوس تتميم المعمودية ينفصل عن تلك الليلة المقدسة أيضاً. 

خلاصة القول في عيد الفصح وصومه في الثلاثة قرون الأولى

قبل حلول القرن الرابع الميلادي، تبلور طقس عيد الفصح والصوم الذي يسبقه، في النقاط المحددة التالية: 

  • صوم يسبق عيد الفصح اختلفت مدته بين كنيسة وأخرى.
  • يوم السَّبت الذي يسبق عيد الفصح كان يوم صوم، بدون أية إشارات عن طقوس ليتورجية فيه.
  • ارتباط ليلة الفصح بطقوس سرّ المعمودية المقدس. –
  • وحدة الاحتفال بآلام الرب وقيامته معاً، في ليلة عيد الفصح. 

صوم الفصح في القرن الرابع الميلادي 

مع حلول القرن الرابع الميلادي، حدث تطور طقسني جديد، تمركز – فيما يختص بالفصح – حول محورين؛ 

المحور الأوَّل، بداية ظهور الاحتفال بآلام الرب منفصلة عن الاحتفال بقيامته، وذلك مع تطور السَّنة الليتورجيَّة الكنسية. فبدأ يظهر الاحتفال بيوم الجمعة العظيمة، كيوم تخصصه الكنيسة لتذكار آلام الرب، حيث انحصر الاحتفال بقيامة المسيح من بين الأموات في ليلة عيد الفصح. ورويداً رويداً، ومع توالي القرون، تسحب الاحتفال بآلام الرَّب الخلاصيّة، ليشمل أيضاً الأربعة أيام السابقة ليوم الجمعة العظيمة. ومع نهاية القرن الخامس الميلادي تقريباً، بدأت المعموديّة في الانعزال عن ليلة الفصح. وهذه هي الظاهرة الأولى التي ظهرت بوادرها في القرن الرابع الميلادي، أي انفصال الوحدة الليتورجية للاحتفال بآلام الرب وقيامته معا. 

المحور الثاني، هو ظهور الأربعين المقدَّسة كفترة إعداد وتمهيد ليـــوم الفصح وطقوس المعموديّة التي كانت تجري فيه. فبعد منشور ميلان سنة ۳۱۲م، وهدوء الاضطهاد، بدأت جموع غفيرة تدخل إلى الإيمان المسيحي، مما استوجب من الكنيسة وضع نظام لقبول هؤلاء الموعوظين في شركة الكنيسة. وكانت فترة صوم الأربعين المقدسة هي المرحلة الأخيرة من مراحل تعليم هؤلاء الطالبين للمعمودية. 

لازلنا نبحث معاً، عن وضع يوم السبت المقدَّس من الناحية الطقسية في هذه الفترة المبكرة من تاريخ الكنيسة، ولاسيما في القرن الرابع الميلادي، وخصوصاً في زمن البابا أثناسيوس الرسولي (۳۲۸-۳۷۳م). مع مراعاة أن البابا أثناسيوس الرسولي هو الذي ضم سنة ٣٣٤م صوم الأربعين المقدسة إلى صوم أسبوع ،الفصح، لتصبح مدة الصوم أربعين يوما شاملة فيها صوم أسبوع ،الفصح، حيث كان الصوم الأربعيني ينتهي في يوم الجمعة العظيمة، وليس في يوم جمعة ختام الصوم. 

أما عن يوم السبت العظيم الذي كان يلى يوم الجمعة العظيمة، فنقرأ عنه الإشارات الآتي ذكرها في الرَّسائل الفصحيَّة للبابا أثناسيوس الرسولي. 

ففي رسالته الفصحيَّة الأولى التي كتبها سنة ٣٢٩م، يقول عن هذا السبت المقدس: 

[… فلنسترح ونكف عن الصوم في اليوم العاشر من شهر برموده نفسه (٥ إبريل) في يوم السبت المقدَّس من الأسبوع. وعندما يهل فجر اليوم الأوّل من الأسبوع المقدَّس في اليوم الحادي عشر من نفس الشهر (٦ إبريل) … الخ]. 

وفي رسالته الثانية التي كتبها سنة ٣٣٠م، يقول: 

[… وإذ نسترح في اليوم الثالث والعشرين من نفس شهر برموده (۱۸ إبريل)، ونُعيد بعد ذلك في أول الأسبوع في الرابع والعشرين (١٩ إبريل) … الخ]. 

وفي رسالته الثالثة التي كتبها سنة ٣٣١م، يقول:

[… ولنسترح في الخامس عشر من شهر برموده (۱۰ إبريل) لأننا في مساء ذلك السَّبت، نسمع رسالة الملائكة «لماذا تطلبن الحي بين الأموات قد قام» (لوقا ٥:٢٤). وبعــــد ذلك في الحال يستقبلنا يوم الأحد العظيم، أعني السادس عشر من نفس شهر برموده (۱۱ إبريل) … الخ]. 

وفي رسالته الرابعة سنة ۳۳۲م، حين يتحدَّث عن صوم أسبوع الفصح المقدس، الذي يبدأ يوم الاثنين، يقول: 

[ … يا أحبائي يجب أن نُعيّد عيد الفصح بلياقة. نحن نبدأ في اليوم الأول من برموده (۲۷ مارس) ونستريح في اليوم السادس من نفس الشهر (أوَّل إبريل). في مساء اليوم السابع يهل علينا اليوم الأول المقدَّس من الأسبوع في السابع من نفس شهر برموده (۲ إبريل) … الخ]. 

وفي رسالته الخامسة سنة ٣٣٣م، نقرأ: 

[يبدأ الصوم المقدَّس (ويعني به أسبوع الفصح) في الرابع عشر من برموده (۹ إبريل) في أوَّل مساء من الأسبوع (أي أن 9 إبريل يوافق يوم اثنين البصخة المقدَّسة). وإذ نكف . الصوم في التاسع عشر من نفس شهر برموده (١٤ إبريل)، فإن أول يوم في الأسبوع المقدَّس يهل علينا في العشرين مـــن نفس شهر برموده (١٥ إبريل) الذي نضم إليه سبعة أسابيع عيد الخمسين …]. 

وفي رسالته السادسة سنة ٣٣٤م، نقرأ: 

[يبدأ صوم الأربعين يوماً في اليوم الأول من شهربرمهات (٢٥ فبراير) ونستمر فيه إلى الخامس من شهر برموده (۳۱ مارس) ما عدا الأحد والسبت بعد ذلك تبدأ أيام يوم عيد القيامة المقدسة في السَّادس من شهر برموده (أول إبريل) ونتوقف في الحادي عشر من نفس الشهر (٦ إبريل) في مساء السبت، حيث يهل علينا الأحد المقدس في الثاني عشر من برموده (۷ إبريل) الذي يشرق علينا بأشعته بنعمة منيرة إلى كل أسابيع أيام الخمسين المقدسة … ]. 

وفي رسالته السابعة سنة ٣٣٥م، نقرأ: 

[ يبدأ صوم الأربعين يوماً في الثالث والعشرين من أمشير (۱۷ فبراير). ويبدأ الصوم المقدَّس الذي للعيد المبارك، في الثامن والعشرين من برمهات (٢٤ مارس). وإذ نضم إلى هذه، ستة أيام بعدها في الصوم والسهر، حسبما يقدر كل واحد فإننا نستريح في الثالث من برموده (۲۹ مارس) في مساء اليوم السابع. وأيضاً ذلك اليوم الذي هو مقدَّس ومبارك في كل شيء، الذي يحمل اسم المسيح أي يوم الرَّب، الذي يهل علينا في الرابع من برموده (۳۰مارس)، فلنُعيد عيد الخمسين بعد هذا … الخ]. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الرَّسائل الفصحيَّة للقديس أثناسيوسالرسولي التي تذكر الصَّوم الأربعيني، تذكره دائماً منفصلاً عن سته صوم أيام الفصح. فالصوم الأربعيني في زمن البابا أثناسيوس هو خمسة أسابيع، يعقبها صوم ستة أيام الفصح. وهذا الوضع قد استمر من بعد زمن أثناسيوس إلى نهاية عهد البابا كيرلس الأوَّل عامود الدين (٤١٢ – ٤٤٤م) على الأقل. بل قد امتد لأبعد من ذلك لأننا نعلم أنه في عهد البابا بنيامين الأول (٦٢٣ – ٦٦٢م) صارت المدة الإجمالية للصوم ثمانية أسابيع بدلاً من ستة، وهو ما عرفناه من الرسالتين الفصحيّتين له لسنتي ٦٥٦، و ٦٥٧م ، واللتين يذكرهما يوحنا الدمشقي (٦٧٦-٧٤٩م)، إلا أنهما تذكران ستّة أيام الفصح منفصلة عن أيام الصوم السَّابقة لها. وجدير بالذكر أن هذا الفصل بين أيام الصوم الأربعيني، وستّة أيام الفصح، نجدها أيضاً في قوانين هيبوليتس التي دونت في مصر في أواخر القرن الخامس الميلادي، أو أوائل السادس، وأيضاً في قوانين البابا أثناسيوس الثاني (٤٨٩ – ٤٩٦م) بطريرك الإسكندرية. 

وستّة أيام الفصح التي تعقب الصّوم الأربعيني، يدعوها البابا أثناسيوس بتعبيرات ليتورجية مبدعة، حيث يدعوها: “الصوم المقدس“، و “عيد الفصح” ، و “أيام عيد القيامة المقدسة”، و”الصوم المقدس الذي للعيد المبارك”، وذلك لتمييزها عن الصوم الأربعيني الذي يسبقها والذي يمتد لـ ٣٥ يوما. 

وما يهمنا هنا هو حديثه عن سبت الفرح والنُّور، والذي يدعوه باسم: السبت المقدَّس“، و”اليوم السَّادس“. فنهاية الصوم تكون في مساء اليوم السابع (أي ليلة الأحد) الذي هو يوم القيامة. أي أن يوم السبت المقدَّس، هو يوم صوم. أي أن صوم ستّة أيام الفصح تمتد إلى مساء السبت بما فيه السبت أيضاً jusqu’au samedi soir compris.

وأما من جهة التعبير الذي تكرر كثيراً في رسائل البابا أثناسيوس الرَّسولي، عن الاستراحة في يوم السبت، فهو لا يعني استراحة من الصوم، بل استراحة من أي عمل، بل وحتى من أي احتفالات ليتورجية في الكنيسة، فالمسيح في قبره، والكنيسة كلُّها تنتظر قيامته. 

وجدير بالذكر هنا، أنَّ التعبير الذي ورد في الرسالة الفصحيَّة السابعة للبابا أثناسيوس: “وإذ نضم إلى هذه ستّة أيام بعدها في الصوم والسهر، حسبما يقدر كل واحد” ، ولاسيما تعبير “حسبما يقدر كل واحد” ربما تدعم الرأي القائل بأنه لم يكن هناك سهر ليتورجي في الكنيسة يغطي ليلة السبت بكاملها، حتى ذلك الوقت. 

فإن كان الصوم الأربعيني المقدس ينتهي في يوم الجمعة العظيمة، لتتمة أربعين يوماً بالتّمام والكمال، فإنَّ صوم يوم السبت المقدس الذي يعقب الجمعة العظيمة، هو السبت الوحيد على مدار السنة الليتورجية، صوم والذي يُصام كتقليد عام مستقر في الكنيسة كلها، ومنذ البداية. 

وإليك قارئي العزيز، قصة آبائية من صعيد مصر، في النصف الأول من القرن الرابع، نعرف منها استقرار الصوم الفصحي، ليومي الجمعة والسبت، إلى جانب الأربعة الأيام السابقة لهما، أي أسبوع البصخة المقدسة، كما نعرفه اليوم. 

ففي أثناء الصوم الكبير، ذهب تادرس إلى أبا باخوميوس (٢٩٢- ٣٤٨م) وسأله: “ما دامت مدة أسبوع البصخة هي ستة أيام، وفيها يكمل خلاصنا بغفران خطايانا ، فلماذا لا نصوم طيلة الأربعة أيام الأولى معاً (من الاثنين إلى الخميس) ثم اليومين الآخرين معاً (أي الجمعة والسبت)؟“ أجاب أبا باخوميوس: “إن قوانين الكنيسة أقرت أن نطوي الجمعة العظيمة وسبت النُّور فقط. وذلك حتى لا تخور قوانا، ويُصبح من العسير علينا أن نكمل الوصايا الأخرى، مثل السَّهَر الدائم والصلاة كل حين وقراءة الكتاب المقدَّس، والقيام بالعمل اليدوي المطلوب، حتى يمكننا أن نعطي الفقراء والمحتاجين، الأمور المطلوبة من أولئك الذين لا يحيون في الوحدة الكاملة”. 

وفي ذلك تقول الدّسقوليَّة في (الباب ۳۱): “وأما الجمعة يوم والسبت فصوموهما معاً لمن يقدر أن لا يذوق شيئاً، إلى وقت صياح الديك بالليل. وإذا لم يقدر الإنسان أن يصوم اليومين معاً، فليحفظ يـوم السبت. يقول الرب في موضع آخر عن نفسه: إذا أخذ الختن منهم، فحينئذ يصومون في تلك الأيام. ففي هذه الأيام المذكورة أخذه اليهود منا.

63وجاء أيضاً في المجموع الصفوي: “ليس أنه يجب أن يُصام يوم السبت دائماً، لأن الرب استراح فيه من جميع أعماله، بل يجب أن يُصام في ذلك السبت وحده، لأن صانع البرية كان فيه مقبوراً. 

وجاء فيه أيضاً: “من وجد من الكهنة يصوم يوم الأحد ويوم السبت ما خلا السبت الكبير لا غير الذي للبصخة، فليُقطع”. 

ولأن يوم السبت الكبير هو يوم صوم، فقد حافظت الكنائس كلها، على هذا التقليد. وفي الكنيسة القبطية، فإن مخطوطاتنا التي ظلت تنسخ حتى أوائل القرن العشرين، تذكر أن قداس سبت الفرح ينتهي قبل الغروب مباشرة، حتى لا نتناول مرتين في يوم واحد. أي في قداس سبت الفَرح، وقُدَّاس عيد القيامة، على اعتبار أنَّ اليوم الليتورجي يبدأ من غروب اليوم السابق له. وسوف أعود إلى هذه الجزئية مرة أخرى. 

ولكن يلح علينا سؤال هو: متى ظهرت الخدمة الليتورجية في يوم السبت المقدَّس، وكيف كان شكلها الأولي؟ والسطور التالية هي محاولة لإجابة هذا السؤال. 

ففي غضون الفترة ما بين القرنين الرابع والسابع للميلاد، أدخلت كنيسة روما في طقوس ليلة عيد الفصح ما عُرف في الغرب بطقس شمعة الفصح“ Paschale Candle مع إظهار ما يرمز إليها نورها، وما يصاحبها من ألحان وتراتيل وطقوس. وهي طقوس، وإن كانت قد تطورت كثيراً مع مرور السنين، إلا أن بنيتها الأساسية لم تتغير. 

فتوضع شمعة على حامل كبير للشموع في شمال الهيكل. وفي ليلـــة الفصح وبعد مباركة النار الجديدة New Fire خارج الكنيسة، يرشــــم المحتفل شمعة الفصح بعلامة الصليب، ثم يوقدها بهذه النار الجديدة. وهذه الطقوس في شكلها الأولى، كانت تجري ليلة الفصح، حيث كانت تُطفأ شمعة الفصح بعد إنجيل قداس عيد الصعود. 

ومنذ سنة ۱۹۷۰م، صار شماس يحمل شمعة الفصح الموقدة من النار خارج الكنيسة، ويمر بها – أي بشمعة الفصح- عبر الكنيسة المطفأة الأنوار. ويتوقف في أثناء مروره بالكنيسة في ثلاث محطات بها، يُرتل في أثنائها لحن “نور المسيح Lumen Christi فينير جموع المصلين شموعهم من شمعة الفصح في أثناء عبورها الكنيسة. وحين تصل شمعة الفصح إلى الهيكل، تضاء جميع أنوار الكنيسة. ويُرتِّل الشَّمامسة “تسبحة الفصح” Laus paschalis أو إعلان الفصح Praeconium pascal وهو ما يُعرف باسم EXUITET ، وهي الكلمة الأولى من هذه التسبحة. وهي تسبحة تعود في شكلها الأولي إلى القرن السابع الميلادي، ولكنها تشكلت بشكلها النهائي في القرن التاسع الميلادي. وهي تسبحة من أبدع ما تعرفه الكنيسة اللاتينية من ألحان. وبانتهاء تسبحة الفصح، يُطفئ جموع المصلين الشموع التي في أيديهم. 

وأمَّا المرحلة التّالية من الاحتفال الليتورجي، فهي قراءة تسع قراءات كتابية، يعقب كلا منها، بعض منها، بعض من آيات المزامير أو فترات صمت. وهي سبع قراءات من العهد القديم، الثلاثة الأولى منها عن قصة الخليقة و ذبيحة إبراهيم حين قدم اسحق ابنه، وعبور البحر الأحمر، والأربعة الأخرى، من الأنبياء، وهي نبوات تتحدث عن الفداء والخلاص. ثم تأتي قراءتان من العهد الجديد، تدوران حول قيامة المسيح، ومعموديتنا في المسيح. وفي النهاية هتاف “هلليلويا“، يعقبه قراءة فصل من الإنجيل المقدَّس، عن قيامة الرَّب من بين الأموات. 

ولكن طبقاً للممارسة العملية الآن فإنَّ شمعة الفصح تُنقل إلى جرن المعمودية بعد إلقاء عظة إنجيل قداس عيد الفصح، حيث يكون الجزء التالي الخدمة مرتبطاً بالمعمودية. وعادة ما يجري حول جُرن المعمودية، حيث ينتقل الموكب خلف شمعة الفصح مصحوباً بتراتيل Litany طلبات موجهة إلى القدّيسين، يقولها الشَّماس أو الكاهن، ويجيب عليها الشعب بمرد ثابت. 

ثم يتم تبريك مياه المعمودية. وفي أثناء ذلك، يتم إنزال شمعة الفصح في مياه المعمودية، ثم تُرفع مرَّة أخرى. وبعد ذلك تحري طقوس التعميد لكلِّ طالبي المعمودية. وإن لم يكن هناك معمّدون جُدد، فإنه يتم تبريك بسيط للمياه، يجيب بعده جموع الحاضرين عن أسئلة يوجهها إليهم الكاهن، تجديداً لعهودهم وتذكاراً لمعموديتهم. ثم يرش عليهم الماء الذي تبريكه. وبعد ذلك يبدأ قداس عيد الفصح، حيث يشترك المعمــدون الجُدد في سرّ الإفخارستيا للمرة الأولى. 

وفي القرن العاشر الميلادي، تقهقرت خدمة ليلة الفصح لتصبح في يوم السبت بعد الظهر، وذلك حين فقد السَّهر الليلي قوته. ثم تقهقرت هذه الخدمة الليتورجية مرَّة أُخرى في غضون القرن الرابع عشر، لتصبح في صباح يوم سبت الفرح ، مع ما يصاحبها من الطقوس السابق ذكرها، ولذلك فقد فقدت كثيراً من معنى أو مضمون صلواتها، التي تدور حول القيامة. 

إذا فانتقال الاحتفال الليتورجي بقيامة الرب في الغرب المسيحي، ليُصبح في يوم سبت الفرح، قد ظهر في القرون الوسطى. ولكن منذ سنة ١٩٥١م، وبعد التعديلات التي أدخلت على أسبوع الفصح في كنيسة روما، عادت خدمة ليلة الفصح لتحتل توقيتها القديم في الساعات الأخيرة من يوم السبت المقدَّس، الذي هو ليلة عيد القيامة. ومنذ سنة ١٩٥٥م، صار هذا الأمر إلزاميا، فعاد الطقس إلى وضعه الأصيل، وأصبح الآن يوم السبت مع يوم الجمعة العظيمة هما اليومان الوحيدان في السنة اللذان لا تُقام فيهما خدمة ليتورجيَّة. 

هذا التَّأرجح الذي حدث في كنيسة الغرب، في الانتقال من ليلة الفصح، إلى مساء يوم السبت المقدَّس، ثم مرة أخرى إلى صباح يـوم السبت المقدَّس، لم يكن يعرفه الشرق المسيحي، الذي ظل محتفظاً باحتفال ليتورجي في ليلة الفصح وحدها. ولكن لا نستطيع أن نتغاضى عن أنَّ انتقال الاحتفال الليتورجي من ليلة الفصح إلى السبت المقدَّس في غضون القرن العاشر الميلادي، في الغرب، قد أثر – ولو ببطء شديد ـ علـــى كنائس الشرق في احتفالها بطقس ليتورجي لقيامة الرب في يوم السبت المقدَّس، إلى جانب ليلة عيد الفصح. وهو ما نلاحظه جليا حتى اليوم في فصل إنجيل قداس يوم السبت المقدَّس، والذي يدور حول قيامة الرب من بين الأموات، برغم أن المسيح له المجد لا زال في القبر. وإن ما يصاحب طقوس هذا اليوم – يوم سبت الفَرَح والنُّورِ – من إيقاد شموع، ودورات احتفالية في الكنيسة، هو نفس ما تعرفه كل الكنائس شرقاً وغرباً، وإن اختلفت تفاصيله بين كنيسة وأُخرى. إلى جانب نقطة اتفاق أيضاً بين الشرق والغرب في خدمة هذا اليوم وهي قراءة تسابيح كتابية في ليتورجية السبت المقدس. 

وخلاصة القول إنه في القرون الأولى للمسيحية، لم تكن هناك خدمة ليتورجية مختصة بيوم السبت المقدس. وحتى القرن السابع الميلادي تقريباً، ظلت الخدمة الليتورجيَّة لعيد الفصح تبدأ في المساء، حيث يُحتفل بسهرة ليلة ،الفصح، ضمن مجموعة صلوات وألحان وتسابيح وقراءات، ثم إقامة الإفخارستيا التي تنتهي عند فجر الأحد. ومع حلول القرن الثامن الميلادي تقريباً، أقيمت كل هذه الخدم في الغرب المسيحي بعد ظهر يوم السبت، وذلك حين بدأ السَّهَر الليلي يضعف في الكنيسة. وفي العصور الوسطى، تقهقرت هذه الخِدَم الليتورجية لتكون في صباح يوم السبت المقدس. وهو ما انتقل تأثيره إلى الشرق المسيحي، ولكن ببطء شديد. 

أمَّا أقدم إشارة تصلنا عن قُدَّاس يوم السبت المقدس في كنيسة الإسكندرية، فنجدها في واحد من قوانين البابا خريستوذولوس (١٠٤٧- ١٠٧٧م)، الذي يقول: “في قُدَّاس يوم السبت الكبير، يُقال التـرحيم والتحليل بلا تقبيل . وهكذا تنصرم العشرة قرون الأولى للمسيحية، بدون أية إشارات ليتورجية واضحة عن ليتورجية يوم السبت المقدَّس العظيم، باستثناء إشارة إلى طقس قُدَّاسه في القرن الحادي عشر الميلادي. 

أما أقدم شرح لصلوات يوم سبت الفرح والنور في كنيسة مصر، فنجدها في مخطوطات تعود إلى القرن الثاني عشر الميلادي.

المراجع:

  1. الكتاب المقدس – العهد القديم والجديد

  2. يوسابيوس القيصري (٢٦٠-٣٤٠م). التاريخ الكنسي. طبعة مكتبة المحبة، ١٩٩٠.

  3. القديس إيريناؤس (١٣٠-٢٠٠م). Against Heresies. In: PG 7, 1125-1200.

  4. العلامة ترتليان (١٦٠-٢٢٥م). On Baptism. In: PL 1, 1197-1224.

  5. القديس هيبوليتس (ت ٢٣٦م). التقليد الرسولي. تحرير برتون-سيكس، ١٩٦٨.

  6. البابا ديونيسيوس الكبير (٢٤٧-٢٦٤م). الرسائل الفصحية. In: PG 10, 1599-1608.

  7. البابا أثناسيوس الرسولي (٢٩٨-٣٧٣م). الرسائل الفصحية (١٣:٣٢٩-٣٧٣م). نشر د. ر. كامبل، ١٩٨٠.

  8. الديداسكاليا (القرن ٣م). تعاليم الرسل. ترجمة كوشران، ١٩٢٩.

  9. قوانين البابا أثناسيوس الثاني (٤٨٩-٤٩٦م). In: CSCO 149.

  10. قوانين البابا خريستوذولوس (١٠٤٧-١٠٧٧م). سجل القوانين القبطية. مخطوط دير السريان ٤٥.

  11. ليتزمان، هانز (١٩٢٦). تاريخ الليتورجيا المسيحية المبكرة. برلين: دي جروتير.

  12. ديكسون، ج. إل. (٢٠٠٨). تطور طقوس أسبوع الآلام. لندن: دار أوكسفورد.

  13. الموسوعة القبطية (٢٠٠٩). طقوس سبت النور. القاهرة: مركز الدراسات القبطية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى