الملامح الليتورجية لكنيسة الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي 

إن صمتاً وسكوتاً يكتنفان التاريخ الليتورجي لكنيسة الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي، ولاسيما النصف الأوَّل منه. وهو القرن الذي جلس فيه ثمانية أساقفة على كرسي الإسكندرية، بدءا من بريموس Primus الذي تولى الأسقفية سنة ۱۰۹م وحتى ديمتريوس الأول وهو الثاني عشر أساقفة الإسكندريَّة، والذي تولى الأسقفية سنة ١٩١م، وظل على الكرسي قرابة ٤٢ سنة، حيث توفي سنة ٢٣١م. وفي زمانه دخلت الكنيسة القبطية مرحلة جديدة من تاريخها. 

فبدءًا من النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي بدأت الملامح الليتورجية لكنيسة الإسكندرية تتضح شيئاً فشيئاً. وهو ما يؤكده العـــالم الليتورجي هانز ليتزمان H Lietzmann الذي يتحدث عن ليتورجية كنيسة الإسكندرية فيقول: “إِنَّ الطابع القديم لليتورجية أورشليم الأولى علـــى قدر ما نعلم، لا وجود له وجوداً ممتداً وذا قيمة إلا له وجوداً ممتداً وذا قيمة إلا في مصر. وهذا الطابع كان هو السائد في مصر وذا القيمة الرَّسميّة، وذلك بالنسبة للمفهومات الإفخارستية وطبيعة تكوينها التي وصلت إلينا من أعمال كليمندس وأوريجانوس,

ويعود ريتشاردسن D. Richardson. معتمداً على أبحاث كـــل مـن ليتزمان H Lietzmann. ووستكوت Brooke Foss Westcott وهورت F.J.A. Hort ليثبت أن النصوص الإفخارستية والليتورجية بقيـت على درجة من النقاء والأصالة في مصر، حتى نهاية القرن الثاني، مقارنةً بغيرها من البلاد

مشكلة تحديد يوم عيد الفصح 

في منتصف هذا القرن الثاني الميلادي، أثيرت مشكلة تحديد يوم عيد الفصح، وهل يكون في اليوم الرابع عشر القمري؟ حيث تزعم هذا الرأي أساقفة آسيا. أو يكون في يوم الأحد باعتباره يوم القيامة؟ وهو ما كانت تمارسه فعلاً باقي الكنائس الأخرى. 

ولقد أثيرت أول مناقشة في هذا الأمر، بين بوليكاربوس أسقف أزمير وأنيسيتوس أسقف روما سنة ١٥٥م تقريباً. وفي سنة ١٧٠م تنازع على هذا الأمر ميليتو أسقف ساردس وأبوليناريوس أسقف هيرابوليس، ثم امتد النزاع ليشمل الكنيسة الجامعة

و لم تكن هذه المشكلة هيئة، وهو ما يذكره يوسابيوس القيصري، حيث يقول بأنها قد أقلقت كنائس المسكونة كلها، ونشب بسببها خلاف بين أساقفة الكنائس، تطور إلى حد أن فيكتور أسقف كنيسة روما، حاول أن يقطع كل إيبارشيات آسيا من وحدة الكنيسة العامة والكنائس التي وافقتها، وكانت هذه أوّل سابقة من نوعها في تاريخ الكنيسة. 

ولقد كان للقديس إيريناؤس (۱۳۰- ۲۰۰م) أُسقف ليون بفرنسا، الفضل في تهدئة الخواطر إلى حين وهو ذات الأمر الذي ناقشه مجمع نيقية المسكوني الأول بعد ذلك بأكثر من قرن من الزَّمان. ولقد عقد أساقفة فلسطين وصور والخمس مدن الغربية مع آخرين، مجمعاً في فلسطين، وأصدروا أمراً كنسياً، يحدّد أنَّ سرّ قيامة الرَّب، يجب ألا يُحتفل به في أيّ يوم آخر، سوى في يوم الرَّب. وأنه يلزم أن يُختتم الصّوم الفصحي في هذا اليوم. ويقول يوسابيوس القيصري (٢٥:٥) : إنهم “ذكروا أموراً كثيرة عن التقليد الخاص بالفصح الذي وصل إليهم بالتعاقب من الرُّسُل، وأضافوا الكلمات الآتية في ختام ما كتبوه : اجتهدوا أن تُرسلوا نُسَخاً من رسالتنا إلى كلّ كنيسة، لكي لا نعطي فرصة لمن يخدعون نفوسهم بسهولة، ونعرفكم بأنهم في الإسكندرية يحفظونه في نفس اليوم مثلنا، لأنَّ الرَّسائل قد حملت منا إليهم ومنهم إلينا، تفيد أننا نحفظ اليوم المقدَّس بنفس الطَّريقة وفي نفس الوقت“. 

وهي إشارة في غاية الأهميَّة، تُلقى ضوءاً مبهراً على مركز كنيسة الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي. ذلك لأن مجمع فلسطين، عندما أراد أن يحسم الأمر، ويدلل على صدق رأيه واستقامته، استعان بتقليد كنيسة الإسكندرية، ليعتبره نبراساً يجب الإقتداء به، لاسيما أن هذا المجمع قــــد أرسل إلى الإسكندرية رسائل يستوضح بها الأمر، وقد تلقى ردا مـــن كنيسة الإسكندرية يفيد زمان وطريقة الاحتفال بالفصح وهي إشارة ليتورجية غالية، ليس من جهة وقت التعييد بالفصح فحسب، بل وأيضــاً طريقة الاحتفال به، والتي كانت واحدة في الإسكندرية وفلسطين والخمس مدن الغربيَّة في ذلك الوقت، كما تشير الرسالة. 

الملامح الليتورجيَّة لكنيسة الإسكندرية في كتابات العلامة كليمندس الإسكندري  

عرفنا من يوسابيوس القيصري (٢٦٠ – ٣٤٠م) المؤرخ الكنسي المشهور، أنَّ العلامة كليمندس الإسكندري (١٥٠-٢١٥م) ألف كتاباً في “القوانين الكنسية” وأهداه إلى الإسكندر أسقف أورشليم. ولكن مع الأسف لم يصلنا منه سوى شذرات فقط. وعنوانه الكامل هو: “قانون كنسي ضد المتهودين”.

وهذا أمر يهمنا بالدرجة الأولى. إذ نعرف منه أنَّ الكنيسة كانت تحكمها تقاليد منذ هذا الوقت المبكر من تاريخها. لأن تعبير “القانون الكنسي” عند آباء الكنيسة يعني “الدستور أو التقليد أو التَّعليم الكنس الكنسي” وهو نفس ما سنجده أيضاً عند العلامة أوريجانوس (١٨٥-٢٥٤م). 

وتتضح لنا شخصيَّة العلامة كليمندس الإسكندري العظيمة والبارة من قوله الآتي

[نحن لا نرتبط قط بشيء يجعلنا نتعدى قوانين الكنيسة] 

(المتفرقات ١٥:٧)

ويُعتبر القديس إيريناؤس (۱۳۰-۲۰۰م)، ومعه العلامة كليمندس الإسكندري (۱٥٠-۲۱٥م) هما أوَّل من أشار إلى أهمية قانون الكنيسة

وفيما يلي مقتطفات من أقوال العلامة كليمندس، تحمل لنا ملامح الحياة الليتورجيَّة لكنيسة الإسكندرية في هذه الفترة المبكرة من تاريخها. 

يتضح لنا من كلام العلامة كليمندس الإسكندري، أن ممارسة الصَّلاة في سواعي محدَّدة من اليوم قد ظهر في الكنيسة مبكراً جداً. وهي أول إشارة ترد إلينا من كنيسة الإسكندرية عن تحديد سواعي للصلاة على مدى اليوم. ولكن يتضح من كلامه أن صلوات السواعي الصغرى – أي سواعي الثالثة والسَّادسة والتّاسعة لم تبدأ مـــن كنيســـة الإسكندرية. فيقول في ذلك

[إن كان البعض يحدد ساعات للصلاة كالثالثة والسادسة والتّاسعة إلا أن الإنسان الحكيم يُصلّي على الدوام مدى الحياة. لكي باجتهاده الدائم في الصَّلاة، يكون في شركة دائمة الله … يرفع رأسه، ويبسط يديه نحو السَّماء، واقفا على مع أصابع رجليه ليشترك في ختام الصَّلاة. وكأنه يتلهف أن ينطلق بروحه إلى العالم الآخر غير المدرك …]

(المتفرقات ۷:٧).  

ويتحدث العلامة كليمندس الإسكندري عن أمر أراه جوهرياً، ربما فقدناه في أيامنا هذه، وهو كيفية الاستعداد للذهاب إلى الكنيسة. وما يلزم الانتباه إليه في أثناء الطريق إليها. وكيفية التراثي أمام الـــب فيـهـا. ويخلص في قوله الآتي ذكره إلى نظرة المسيحي إلى الكنيسة كمعيار حقيقي يقيس به المسيحي سلوكه فيقول

[النساء والرجال عليهم أن يذهبوا إلى الكنيسة بهدوء ونظام وسكون، وفيهم محبَّة صادقة. أطهاراً بالجسد، وأطهاراً بالقلب. لكي يكونوا لائقين للصَّلاة أمام الله
وعلى النساء بوجه خصوصي، أن يلتفتن إلى ذلك بالأكثر . ولتكن المرأة كلّها مغطّاة، لأن ملبسها أمر خطير، ويحميها من نظرات النَّاس والتي تضع التّواضع أمامها لا تسقط أبداً وهكذا كل من كرس نفسه للمسيح عليه أن يسلك خارج الكنيسة بنفس السلوك الذي كان عليه داخلها]

(المربي ١٢:٣)

[قيل لنا، إنه يتحتم علينا ألا نتقدم إلى الذبيحة أو الصلوات، إلا ونحن مغتسلون، وفي نضارة وبهاء]

(المتفرقات ٢٢:٤)

وهناك أوَّل إشارة واضحة عن استخدام كلمة بخور في الصلوات الليتورجيَّة. إلا أنّ النّص التّالي للعلامة كليمندس الإسكندري لا يفيد بأنه قد تم استخدام البخور فعلاً كمادة في الصلوات الطقسية حتى ذلك الوقت. أي يظهر لأوّل مرّة في كنيسة الإسكندرية استخدام كلمة البخور في طقوس الصَّلوات فيها، بدون البخور ذاته كمادة. فيقول:

[إن كُنَّا نقول (في الكنيسة) إنَّ الرَّب كرئيس كهنـة أعظم، يُقدِّم إلى الله بخوراً ذا رائحة زكية، فلا نتصور أن ذلك يعني ذبيحة وبخوراً زكي الرائحة. ولكن ينبغي أن نفهم  أن الرَّب يصنع ذبيحة المحبَّة المقبولة، كرائحة روحية عَطِرة، على المذبح]

(المربي ٨:٢)

وفي موضع آخر يقتبس من سفر حكمة يشوع بن سيراخ، ويقول: “اسمعوا لي وانموا كوردة مغروسة على مجاري المياه، تفوح رائحتها الزكية كالبخور. وباركوا الرَّب على جميع أعماله” (يشوع بن سيراخ ١٣:٣٩، ١٤). 

ويتكلم العلامة كليمندس الإسكندري عــــن استقرار الدرجات الكهنوتية الثلاث في كنيسة الإسكندرية، منذ هذا الوقت المبكر تاريخها، وهي درجات الأسقفية والقسيسية والشماسية

كما يتحدث أيضاً عن صلاة الشكر، وعن وجود قراءات من فصول كتابيه في الكنيسة. وعن القداس الإلهي. وهي القداس الإلهي. وهي تُعدُّ كلها أوَّل إشارات ترد إلينا عن هذه الملامح الليتورجية في كنيسة الإسكندرية. فيقول:

[وبحسب رأيي ، أنَّ الدرجات في الكنيسة التي للأساقفة والقسوس والشمامسة، هي اقتداء بالأمجاد السماوية وبالتدبير الذي يقول عنه الكتاب إنه ينتظر أولئك الذين يتبعون خطوات الرُّسُل الذين عاشوا في كمال البر بحسب الإنجيل. فإنهم سيخدمون أولاً شمامسة، وحينئذ يُحسبون أهلاً أن يكونوا قسوساً بتغيرهم من مجد إلى مجد، حتى يبلغوا إلى إنسان كامل
وإن الضمير الصالح يحتفظ دائماً بتقديس الله، والبر تجــاه النَّاس، حافظاً النفس ،طاهرة، بأفكار لائقة وكلمات نقية وأعمال فاضلة. وهكذا ينال الإنسان قوة من الله، فتجتهد النفس لتكون حسب مشيئة الله، حيث لا يكون لديها شيء نجس إلا الجهالة والعمل ضد الحق معطية الشكر الله في كلّ حال، بالاستماع للبر، والقراءة الإلهية، وبالدراسة الصادقة، وبالصعيدة المقدسة. وبصلاة البركة، بالتسبيح والترتيل والبركة والحمد. مثل هذه النفس لا يمكن في أي وقت أن تنفصل عن الله] 

(المتفرقات ١٤)

ويقول أيضاً

[إن الكنيسة القديمة الكاثوليكية (أي الجامعة)، هي وحدها التي جمعت في وحدة الإيمان الواحد، هؤلاء الذين تمت كما سبق الله فعينهم. عالماً ومن قبل إنشاء العالم، أنهم سيكونون أبراراً في جوهر وفكر واستعلان واحد، كحصيلة العهدين، بل حصيلة العهد الواحد في الأزمان المتعاقبة بإرادة الله وبالرّب الواحد]

(المتفرقات ۱۷:٧)

[«أما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي». أما كوننا جنساً مختاراً بواسطة الله، فهذا واضح. أما قوله “ملوكي” فلأننا سنملك مع المسيح فيما له وأما كوننا كهنة، فبسبب الصعيدة (الذبيحة) التي نقيمها بالصَّلوات بحسب التعليمات، والتي بها نربح نفوساً نقدّمها إلى الله ] (شذرة ١)

[ملكي صادق ملك ساليم كاهن الله العلي، الذي قدَّم خُبزاً وخمراً مُقدَّساً طعاماً، مثالاً للإفخارستيا ]

(المتفرقات ٢٥:٤). 

[إنَّ إشعياء النَّبي تطهر لسانه بجمرة النَّار، حتى يستطيع أن ينطق بالرؤيا وكذلك نحن يلزم أن نتطهر لا من جهة اللسان فقط، بل والآذان أيضاً، إذا أردنا أن نكون شركاء في معرفة الحق]

(المتفرقات ١٤:١)

ومن كتاباته أيضاً ترد إلينا أوَّل إشارة عن طريقة ممارسة القبلة المقدسة في القداس الإلهي. وأيضاً عن الوقت الذي بدأت تتحول فيه هذه القبلة من التقبيل بالفم للفم إلى المصافحة باليد فقط. فيقول: 

[يوجد آخرون لا عمل لهم إلا أن يجعلوا الكنيسة يتردد في أصدائها صوت القُبلة، وهم ليس فيهم المحبة ذاتها. لذلك صار استخدام القبلة شيئا مخجلا (في الكنيسة) مع أنها ينبغي أن تفهم على مستوى سرِّي. فالرسول يدعو القُبلة “مقدسة]

(المربي ١٢:٣). 

وعن نظام الصلاة في الكنيسة في أيامه وانسجام التسبيح فيها، لكي يرتاح الحق – الذي هو الله في الكنيسة. فيتقبل صلواتنا بسرور. يقول: 

[حينما يتحد الكثيرون ويصيرون واحداً، حيث أصنافهم وأصواتهم المتعدّدة يخرج منها بالانسجام الإلهي سيمفونية واحدة، يقودها قائد الخورس والمعلم، فتبلغ الكلمة غايتها، ويرتاح الحق فيها فينطق أولاد الله بالحق: يا أبا الآب. ويتقبلها الله بسرور ونعمة، كباكورات أثمار يتقبلها منهم] 

(دعوة إلى اليونانيين ٩)

[المذبح الذي معنا ههنا على الأرض، يتكون من جماعة الذين يتكرَّسون للصَّلوات، ويعطون أصواتهم بانسجام، كما من فم واحد]

(المتفرقات ٦:٧). 

ويتكلم عن الهدف من اجتماع المؤمنين معاً في الكنيسة. ومزج الخمر بالماء في القُدَّاس، والغاية من التَّناول من الأسرار المقدسة، فيقول:

[نحن نشرب دم المسيح، لكي نكون شركاء في عدم الموت الذي للرَّب. وكما أنَّ الرُّوح هو الفعال بالنسبة للكلمة، كذلك الدَّم بالنّسبة للجسد (يوحنا ٦٣:٦)… وكما يُمزج الخمر بالماء، كذلك يكون الرُّوح في الإنسان. ومزيج الخمر والماء يغذي الإيمان. وأمَّا الرُّوح فإنه يقود إلى عدم الموت والاثنان الشراب والكلمة (أي دم ابن الله الكلمة) هما الإفخارستيا تلك النّعمة الفائقة المجيدة، تلك التي كل المتناولين منها بإيمان، يتقدَّسون بالجسد والروح]

(المربي ٢:٢). 

[ حينما يتقدَّس الخبز بقوَّة اسم الله، فهو ليس كما كان، ولكنه يتغير بالقوة إلى قوَّة روحانية]

[لقد بارك المسيحُ الخمر قائلاً: خذوا اشربوا هذا دميهذه إشارة أيضاً إلى الكلمة اللُّوغوس الذي انسكب للكثيرين لمغفرة الخطايا، نهراً مقدساً للبهجة]

(المربي ٢). 

[ إن دم كرمة داود معناه السري، دم المسيح] (مقال له بعنوان: من هو الغني الذي سيخلص؟ ٢٩)

ويخاطب العلامة كليمندس النفس البشرية بلسان المسيح، فيقول: [أنا الذي أغذيك، أعطي نفسي طعاماً لك. والذي يذوقني لا يذوق الموت بعد. وأُعطي نفسي لك شراباً كل يوم، كدواء لعدم الموت] (مقال له بعنوان: من هو الغني الذي سيخلص؟). 

ويتحدث أيضاً عن طقس التَّناول من الأسرار المقدسة، فيقول: [قد تحتم في قسمة وتوزيع الإفخارستيا، أن كل واحد من الشعب، يأخذ نصيبه لنفسه حسب العادة(المتفرقات ١:١). 

ويصلنا من العلامة كليمندس الإسكندري (١٥٠-٢١٥م) أقدم إشارة عن التسبيح بالمزمور المائة والخمسين في كنيسة الإسكندرية. وأيضاً التقليد القديم المستقر في الكنيسة بعدم استخدام الآلات الموسيقية أثناء الصلاة. فيقول في ذلك: 

[سبحوه بصوت البوق. لأنه بصوت البوق سوف يدعو الراقدين إلى القيامة سبِّحوه بالمزمار. أي اللسان الذي هـو مزمار الرب سبحوه بالقيثارة. وهي الفم حينما يحركه الرُّوح القدس كالوتر. سبِّحوه بطبول ورقص. يشير إلى الكنيسة التي تتأمل القيامة من بين الأموات، من خلال وقع الضرب على الجلد (الميت). سبّحوه بالأوتار والأرغن. فالأرغُن هو الجسد، وأعصابه هي الأوتار، التي حينما تتقبل الانتعاش بانسجام الرُّوح القُدُس، يوقع عليها الأصوات البشرية. سبحوه بصنوج حسنة الصَّوت. فهو يشير إلى الشفتين في الفم، حينما يوقع عليهما النَّغمات. كل نسمة فلتسبح اسم الرب. هنا يدعو البشريَّة كلّها إلى أن تُسبِّح، لأنه يعتني بكل مخلوق يتنفس. والإنسان هو حقاً آلة السلام]

(المربي ٤:٢). 

[ولكن لأن الأجناس، كل جنس، يستخدم آلة من هذه الآلات لإعلان الحرب ولا توجد إلا آلة واحدة للسَّلام و الكلمة التي بها تكرم الله ونمجده، فلذلك لا نستخدم إلا الكلمة وحدها. فنحن لا نستخدم البوق أو المزمار أو الطبل أو الصُّفارة التي يستخدمها المختصون في الحروب، … وفي حفلاتهم] (المربي ٤:٢)

[أليست القيثارة ذات العشرة أوتار، هي إشارة لكلمة يسوع؟] (المربي ٤:٢)

[وكما أنه لائق أن نبارك الخالق قبل أن نتناول الطعام، كذلك وعند الشرب، مناسب أن نشكره ونسبحه، لأننا نتناول من خليقته. والمزمور هو الواسطة الرزينة، والحسنة النَّغَم، لتقديم البَرَكَة (لله). لذلك يسميه الرسول أغاني روحية ] (المربي ٤:٢)

ويُعدُّ العلامة كليمندس الإسكندري هو أوَّل من أشار إلى ممارسة صوم الأربعاء والجمعة في كنيسة الإسكندرية. كما يتحدث عن حفظ يوم الرَّب، لأنه يوم القيامة. فيقول في ذلك

[(الإنسان الرُّوحي) يُدرك سرَّ صيام اليومين: الأربعاء والجمعة … ويحفظ يوم الرَّب، ممجداً قيامة الرَّب في قلبه … طاهراً دائماً باستعداد الصَّلاة. يُصلِّي مع حوقة الملائكة، لأنه قد صار في رتبتهم، ودائماً محفوظ بعنايتهم وعندما يُصلّي بمفرده لا يكون وحده وإنما تكون صفوف القديسين واقفين معه… صلاته تكون شكراً على ما فات، وشكراً على الحاضر، وشكراً على الآتي … مقدماً الشكر لله دائماً أبداً على مثال ما قاله إشعياء بخصوص تسبيح الحيوانات]

(المتفرقات ۱۲:٧)

ويشير العلامة كليمندس الإسكندري إلى وقت إقامة الأسرار الكنسية، بأنه يكون في الليل، ويعلل ذلك بقوله

[إنَّ الأسرار تُقام في أغلب الأوقات ليلاً، إشارة إلى مناسبة انطلاق النفس من الجسد التي تحدث ليلاً] (المتفرقات ٢٢:٤)

وتصلنا من العلامة كليمندس الإسكندري أقدم إشارة عن ضرورة الصَّلاة شرقاً، معللا ذلك بقوله: 

[يُصلُّون في اتجاه الشرق، لأنَّ الشرق هو رمز الميلادنا، لأنَّ منه يخرج النُّور مُشرقاً من الظُّلمة. وكذلك يوم المعرفة الحقيقية يُشرق مثل الشَّمس على المدفونين في الجهالة] (المتفرقات ٧:٧)

إشارات ليتورجيَّة في سيرة الأنبا ديمتريوس الكرام (۱۸۹ – ۲۳۱م) ترد إلينا إشارات ليتورجيَّة في أواخر هذا القرن، من سيرة الأنبا ديمتريوس الكرام (۱۸۹ ۲۳۱م) فنقرأ في سيرته ما يلي: وكان الشعب يحبُّ هذا البطرك، ويقولون إنه الثاني عشــــر مــــن مرقس البشير، وكلّهم غير متزوجين إلا هذا ، وكانوا يحســــرون عليه. وكان له موهبة من الله، وذلك أنه كان إذا أكمل القُدَّاس، ومن قبل أن يُقرِّب أحداً من الشعب، ينظر السيد المسيح يدفع القربان بيده. فإذا تقدم إنسان لا يستحق أن يتناول السرائر أظهر له السيد المسيح ذنبه، فلا يُقربه، فيعرفه فعله ويعترف بخطيئته ويؤنبه عليها…
وكان بعض النَّاس يقولون هذا رَجُلٌ متزوج، فكيف يوبخنا، وقد وصم هذا الكرسي، لأنه ما كان يجلس عليه إلى اليوم إلا بتول. وكان بعض الناس يقول ما هذا شيء ينقصه، لأن التزويج طاهر نقي قُدَّام الله. فأراد الله أن يُظهر فضائله فلما كان بالغداة يوم عيد العنصرة، قدس البطرك، وأمر رئيس الشمامسة أن يُعلم الكهنة والشعب أن لا يخرجــــوا من البيعة، بل يجتمعوا عند الكرسي … فلما جلسوا، أمر أن يجمع الإخوة حطباً كثيراً، ففعلوا ذلك متعجبون قائلين: ماذا يصنع البطرك ؟ فقال لهم: قوموا نُصلّي، فصلوا وجلسوا، فقال لهم: أنا أطلب من محبتكم أن تحضر زوجتي تأخذ بركتكم، فعجبوا وقالوا في قلوبهم إيش هذا الفعل؟ 

فجاءت المرأة القدِّيسة ووقفت في وسط الإخوة، وقام زوجها البطرك بحيث يشاهده جميعهم، ووقف على جمر النار وهي تقد، وفرش بلاريته، وأخذ بيده جمراً من النار، وجعلها فيها، فشخص جميعهم مـــــن كثرة الجمر التي في البلاريَّة و لم تحترق. ثم قال لزوجته: افرشــــي بلينـــك الصُّوف الذي عليك، ففرشته. وأقلب الأب البطرك تلك الجمرة فيه قائمة، وهي ورفع في النار بخوراً، وأمرها أن تبخر جميعهم ففعلت كذلك. هذا كله، ولم يحترق البلين … 

قال لهم البطرك: لي منذ تزوّجتها ثمان وأربعون سنة، ونحن ننام  على سرير واحد وفراش واحد وغطاء واحد علينا جميعنا، والرَّب الذي يعلم ويدين الأحياء والأموات، هو العارف بخفايا القلوب، وهو يعلم أنني ما علمت قط أنها امرأة، ولا علمت أيضاً أني رَجُل، بل بعضنا ينظر وجه بعض فقط، ومرقد واحد يجمعنا، ومضجع هذا العالم ما عرفناه قط بالجملة. وإذا نمنا جميعاً، ننظرُ شخصاً كالنسر ، يأتي طائراً، يحط على مرقدنا فيما بيني وبينها، فيجعل جناحه الأيمن علي، وجناحه الأيسر عليها، إلى الصَّباح يروح، ونحن ننظره حتى يغيب …الخ

فمن هذه السيرة المقدَّسة، نتعرف على بعض ملامح ليتورجية في كنيسة الإسكندرية، وهي: 

– المبدأ العام هو أنَّ الأسقف في الكنيسة يلزم أن يكون بتولاً. 

– التوبة والاعتراف يسبقان التناول من الأسرار الأسرار المقدسة

– عيد العنصرة من أقدم الأعياد التي عرفتها الكنيسة. 

رتبة رئيس الشمامسة، رتبة واضحة المعالم في كنيسة الإسكندرية.

– وجود مادة البخور في الكنيسة. مما يُرجح معه بدء استخدام البخور كمادة، في الصَّلوات الليتورجيَّة، مع نهاية القرن الثاني الميلادي. 

 

العلامة أوريجانوس (١٨٥-٢٥٤م)

وقبل أن ينصرم هذا القرن، وفي سنة ١٨٥م ، ولد العلامة الشـ أوريجانوس (١٨٥ ٢٥٤م) ، أكبر عالم كنسي عرفته الكنيسة المسيحية شرقاً وغرباً عبر كل تاريخها وحتى اليوم. فقد ولدت عبقرية المعرفة، وتكريم الوصيَّة، وعُمق التأمل، وشدة التقشف، والسلوك المستقيم، وحُب الاستشهاد، ليحتل بكتاباته الغزيرة مركز الصدارة في القرن الثالث الميلادي. وقد قال عنه كواستن Quasten : “هو أكبر المفكرين المسيحيين أصالة في العالم منذ نشأة الكنيسة وحتى الآن”. ولنا عودة للحديث عنـه كـأبرز شخصيَّة في القرن الثالث الميلادي، وعلاقته بمدرسة الإسكندرية. 

في الختام 

إن صمت التاريخ عن جلائل الأمور في هذه الفترة المبكرة من تاريخ الكنيسة القبطية، ولاسيما القرن الأول للميلاد، والنصف الأول من القرن الثاني، يُشيع فينا رهبة ونزوحاً إلى التأمل الخاشع. كيف استطاعت تلك الكنيسة الغضة الناشئة أن تصمد أمام أعظم مدرسة فلسفية وثنية؟ بل وأمام فلسفات مسيحيّة عاتية كالغنوسيَّة وغيرها؟ بل وأمام معابد وهياكل وثنية رعت دين أجداد، امتدت جذوره إلى خمسة آلاف سنة خلت؟ إنها كنيسة الإسكندرية، ومدرستها اللاهوتية، التي لم تقو عليها إمبراطوريات عاتية، فارسيَّة كانت أم يونانية أم رومانية. لأنها تمسكت بصليب المسيح ملاذاً لها، فأظهر المصلوب بضعف الصليب، ما هو أعظم القوَّة. ولأنها لم تخلط بين الرعاية الكهنوتية، والدراسة الأكاديمية اللاهوتية، المتطورة دوماً، والسَّاعية وراء الحق، الذي هو المسيح له المجد. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى