أسبوع الآلام

الفكرة المحورية لأسبوع الآلام (البصخة): السير خلف السيد

نستطيع أن نلخص كل ترتيبات أسبوع الآلام في هذه الكلمات: نسير وراء السيد في أيامه الأخيرة، خطوة خطوة، مكرِّسين كل عواطفنا نحوه. فهذه هي أيام آلام الرب، بل هي هدفه الذي جاء من أجله – ولطالما حاول الشرير أن يحوله عنها. في هذه الأيام، حمل ابن الله قصاص الإنسان، وأعاده مرة أخرى إلى إلهه.

هي أيام تُكرَّس من أجل آلام الرب. ولقد كان لهذا الأسبوع شأن عظيم واعتبار فائق في الأجيال الأولى. فكان المسيحيون يمتنعون عن الأشغال العالمية، والملوك المؤمنون كانوا يأمرون بتعطيل مصالح الحكومة والمدارس العمومية. وكان الملك ثيؤدوسيوس الصغير يبعث رسائل الصفح والعفو، آمراً بالإفراج عن المسجونين. وأمر الرسل أن يكون الصوم إلى الساعة التاسعة (الثالثة بعد الظهر) يومياً. وكان المؤمنون الأولون يبلغون درجة قصوى من التقشف، حتى أنهم كانوا يصومون الأيام الثلاثة الأولى، ولا يتعاطون فيها سوى الخبز والملح، كما كانوا يصومون من ليلة الجمعة حتى صباح عيد الفصح بلا طعام ولا شراب.

التغييرات الطقسية والجنائزية: الكنيسة خارج المحلة حاملة العار

هي أيام تُكرَّس من أجل آلامه. لا تخطر في قلوب المؤمنين عاطفة أخرى من أي نوع. وتستطيع أن تفسر كل ما تجريه الكنيسة من تغييرات على طقوسها وصلواتها بهذه الفكرة الرئيسية: إننا نسير في أعقاب السيد، خطوة خطوة، مكرِّسين كل عواطفنا من أجله…

التمهيد الطقسي وإغلاق الهياكل

بعد نهاية القداس يوم أحد الشعانين، تُقفَل أبواب هياكل الكنيسة، وتُعلَّق عليها ستائر سوداء، وتوضع المنجلية (حامل الإنجيل) في الخورس الثاني، وعليها ستر أسود. وبجانبها المنارة وعليها ثلاثة شموع.

ثم تعمل الكنيسة جنازاً عاماً لجميع الذين سيرقدون في الرب طيلة هذا الأسبوع المقبل. لأن هذا الأسبوع مُكرَّس من أجل آلام الرب، الذي قاسى الحزن العظيم، والكنيسة تشاركه الحزن، فهي لا تريد أن تقحم مع هذا الحزن حزناً آخر. فلو مات أحد أثناء هذا الأسبوع، فلا يُرفَع عنه بخور، بل يُكتفى بقراءة الفصول التي تلائم التجنيز مع طلبة المنتقل تُرفَع إلى الله. وهكذا يخلص المؤمنون من كل عاطفة، ويتهيأون لمتابعة الأيام العظمى في تاريخ البشرية… يتبعون الرب في طريقه إلى الصليب.

خارج المحلة: رمزية الذبيحة الكفارية

كانت الذبيحة في العهد القديم تُحرَق خارج المحلة (خر ٢٩: ١٤؛ لا ٤: ١١-١٢) لأن الخطية خاطئة جداً، ويجب أن تُبعَد عن جماعة الإسرائيليين. وكانت هذه الذبائح رمزاً لذبيحة الرب الكفارية. لذلك “يَسُوعُ أَيْضاً، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ. فَلْنَخْرُجْ إِذاً إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ” (عب ١٣: ١٢-١٣).

لذلك تُغلَق أبواب الهياكل، وتُقام الصلوات طيلة هذا الأسبوع خارجها. وتتشح الكنيسة بالسواد مشاركةً ربها وإلهها حزنه وآلامه.

التغييرات الليتورجية:

وتجري الكنيسة في صلواتها خلال هذا الأسبوع تغييراً جوهرياً. حقيقة إنها على مدار السنة تعدِّل بعض الشيء في ترتيباتها وقراءاتها لتوافق المناسبات المختلفة، ولكن التغيير الذي يتم هنا تغيير أساسي جوهري. ولا عجب في ذلك، فهذه الحوادث التي تمت في هذه الأيام حوادث غير عادية. إن الشمس غيرت نظامها الطبيعي، ونواميس الحياة تزعزعت وقام الموتى… ولم يجر ذلك إلا مرة واحدة في التاريخ، لأن ابن الله كان يتألم.

توقف الكنيسة الصلاة بالمزامير، لأن هذه نبوات عن حياته كلها – من بدء تجسده حتى صعوده. ونحن هنا لا نفكر إلا في آلامه. ولأن في المزامير طلبات مختلفة من أجل حياتنا في مجموعها، كالتماس المعونة وقت الضيق، والخلاص من التجارب، والنصرة في المحاربات – ونحن في هذه الأيام لا نريد إلا أن نجد شخصه، وفي تمجيده إجابة لكل ما تطلبه قلوبنا.

وتستعيض الكنيسة عن هذه المزامير بتسبحة اقتبستها من الكتاب المقدس كلمة كلمة، وهذا نصها: “لك القوة، والمجد، والبركة، والعزة، إلى الأبد آمين. عمانوئيل إلهنا وملكنا“. ثم تكررها مرة أخرى مخاطبة إياه له المجد باسم آخر: “لك القوة… ربي يسوع المسيح“.

بل الكنيسة في هذا تتمم رؤيا يوحنا اللاهوتي: “مُسْتَحِقٌّ هُوَ الْخَرُوفُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ” (رؤ ٥: ١١-١٤).

 الوضع العام لصلوات البصخة: إيقاع النبوات والتتابع الزمني

أما الوضع العام الذي تجري عليه صلوات الكنيسة، فمن الممكن تلخيصه هكذا:

في كل ساعة من ساعات النهار والليل طوال هذا الأسبوع، تبدأ الصلاة بتسبحة البصخة، ثم الصلاة الربانية، ثم تتلى النبوات. وقد أعدت الكنيسة لكل ساعة في هذا الأسبوع ما ورد عنها في العهد القديم: أن البشرية كلها منذ بدء الخليقة تجتمع حول صليبه تتحدث عنه.

ثم يقرأ الإنجيل، وقد وُزِّعت فصوله كي تُتلى كل حادثة في ميعاد وقوعها تماماً، ابتداء من غروب الأحد حتى شروق الأحد التالي. وبعد ذلك تقدم الكنيسة شرح تلك الفصول، وبعض التعليقات عليها.

وتختتم الصلاة بطلبات منوعة، نطلب بها رحمة الله وغفرانه، كي يذكر آلامه من أجلنا فيديم لنا الرحمة إلى الأبد. وأخيراً يعطي الأب الكاهن البركة. والواقع أن هذه البركة هي طلبة إلى الله ليعطينا فرصة لكي نكمل هذه الأيام. وهذا نصها: “يسوع المسيح إلهنا الحقيقي، الذي قبل الآلام بإرادته، وصُلب على الصليب من أجلنا… يباركنا بكل بركة روحية، ويعيننا ويكمل لنا البصخة المقدسة، ويرينا فرح قيامته المقدسة سنين كثيرة وأزمنة سلامية”.

وهي طلبة من أجل أن نكمل هذه الأيام وأن نفهم جيداً ما فيها، وإذ نقترب مع الرب وهو يجتاز وادي الآلام، نستطيع أن نصل إلى هذا الفهم وهذه المشاركة. وإذ نرى معه فرح القيامة المنتصرة، تحصل نفوسنا على كل البركة، لأنه هو نعمتنا وبركتنا وسلامنا.

والكنيسة تتلو كل ذلك بألحان الحزن العميق، فهي أيام مُكرَّسة من أجل أروع حزن وأقدس عبرة تمس القلب.

الأيام الثلاثة الأولى (تحت الحفظ): إشارة لذبيحة الفصح

« كَلِّمَا كُلَّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ قَائِلِينَ: فِي الْعَاشِرِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ يَأْخُذُونَ لَهُمْ كُلُّ وَاحِدٍ شَاةً بِحَسَبِ بُيُوتِ الآبَاءِ، شَاةً لِلْبَيْتِ… وَيَكُونُ عِنْدَكُمْ تَحْتَ الْحِفْظِ إِلَى الْيَوْمِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، ثُمَّ يَذْبَحُهُ كُلُّ جُمْهُورِ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ…» (خروج ١٢: ١-٦).

كانت الذبيحة تبقى في بيت الإسرائيلي ثلاثة أيام. وهذه الذبيحة رمز وإشارة لذبيحة الصليب الكفارية. إذن فليجر على هذه ما كان يحدث لتلك. وقد ظل حمل الله بعد دخوله أورشليم ثلاثة أيام، ثم قدم نفسه للتلاميذ يوم الخميس، حينما أعطاهم جسده ودمه الأقدسين. لهذا ارتأت الكنيسة أن يُعطَّل القداس طيلة الأيام الثلاثة الأولى من هذا الأسبوع: الاثنين والثلاثاء والأربعاء، فيها يكون حمل الله تحت الحفظ. ثم يُقدَّم على المذبح يوم الخميس ذبيحة غير دموية.

تجرى الصلاة في هذه الأيام الثلاثة على الوضع العام الذي ذُكر فيما سبق. وتتبع الكنيسة السيد في مسيره وجلوسه وحديثه ووصاياه… تتبعه مكرِّسين عواطفنا من أجله، ملتفتين تماماً إلى كل أعماله..

الأربعاء: ساعة الخيانة واقتراب يوم الصلب

وفي يوم الأربعاء، بدأ الكتبة والفريسيون يتشاورون عليه ليهلكوه، ونصحهم رئيس الكهنة قيافا بأنه «خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ، وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا». ولم يقل هذا من نفسه، بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة، تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد…

وفي هذا اليوم أيضاً ذهب واحد من الاثني عشر الذي يدعى يهوذا الإسخريوطي إلى رؤساء الكهنة وقال: “ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم”. فجعلوا له ثلاثين من الفضة.

إذن ففي هذا اليوم دخلت حياة السيد في طور جديد. وبعد أن كانت أعمال اليهود مقتصرة على التفكير في قتله، وتدبير المشورات لذلك، بدأوا في هذا اليوم ينفذون كل تلك المؤامرات. وبذلك اقترب يوم الصلب – يوم الخلاص. وهنا تضيف الكنيسة إلى تسبحة البصخة كلمتين هكذا: “لك القوة… ربي يسوع المسيح، مخلصي الصالح”.

 خميس العهد (العهد الجديد): تأسيس السر وغسل الأرجل

 

«وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ اتَّكأَ وَالاثْنَا عَشَرَ رَسُولاً مَعَهُ» وقال: «شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هَذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ». وتوالت حوادث هذا اليوم – يوم الخميس – بعد هذا الحديث:

  1.  أسس الرب فيه سر الشكر. لذلك تفتح الكنيسة أبواب الهياكل وتجري خدمة القداس.
  2. غسل أرجل التلاميذ: حيث قال: «أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً… فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ».
  3. اضطراب يسوع بالروح وإعلان: «إِنَّ وَاحِداً مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي». فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت. وكان ليلاً.

هذه هي الحوادث الرئيسية التي تمت في يوم الخميس الكبير. وللكنيسة في متابعتها أسلوب دقيق. إننا في أيام البصخة، أي أيام الآلام، ولكن الرب أسس سر الشكر، وأقام القداس الأول. فكيف نوفق بين النظامين، ثم ندمج فيهما الحوادث الأخرى..

تبدأ الصلاة كالمعتاد في هذا الأسبوع، فتقرأ النبوات وتصلى تسبحة البصخة وليس المزامير. ثم تصلى صلاة باكر، وحينما يأتي ذكر ما عمله يهوذا أثناء تلاوة فصل أعمال الرسل، تظهر الكنيسة عمل يهوذا الشرير وخيانته مخاطبة إياه: “يا يهوذا يا مخالف الناموس، بالفضة بعت سيدك المسيح لليهود مخالفي الناموس…”

وبعد انتهائها، يؤتى بوعاء يوضع فيه ماء، وتصلى عليه صلوات معدة لتقديسه، ويُرفع البخور، وتقرأ النبوات والبولس، ثم الإنجيل إلى قوله: “قام من العشاء ووضع ثيابه واتَّزَر بمنديل وصب ماء…” فيشد الكاهن وسطه بمنطقة، ويصب قليلاً من الماء في الطست ثلاث مرات مثال الصليب. ثم يستمر في الصلاة، وبعد ذلك يبتدىء الكاهن بغسل أرجل الكهنة والشمامسة والشعب تماماً مثل ما فعل الرب. إننا نتبعه، ونطيعه إذ يقول: «أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّماً وَسَيِّداً، وَحَسناً تَقُولُونَ لأَنِّي أَنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا السَّيِّدَ وَالْمُعَلِّمَ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ. لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ».

ثم تبدأ الكنيسة صلاة القداس، وهنا تبدو الروعة، وحسن الترتيب، وجمال العرض في متابعة حوادث اليوم خطوة خطوة – لم يكن الرب قد قام بعد، ولا أسس كنيسة، وإذن فلا يقرأ الكاثوليكون، ولا الإبركسيس، لأنهما يفترضان رسولية وكنيسة. وهاتان لم تؤسسا إلا بعد القيامة.

حقيقة يقرأ فصل من أعمال الرسل في صلاة باكر، يتضمن عمل يهوذا وخيانته (أعمال ١: ١٥-٢٠)، وكذلك يقرأ فصل من رسائل معلمنا بولس في صلاة القداس، يروي تأسيس سر الشكر (١ كورنثوس ١١: ٢٣-٣٢). ولكن الواقع أننا نتلوهما كفصول تتضمن بعض حوادث هذا الأسبوع، فنضع كل حادثة في ميعادها. لذلك قُدِّم فصل أعمال الرسل عن مكانه العادي وجاء في صلاة باكر لأن ما تضمنه وقع في باكر النهار. وكما تتلو النبوات، وكما نقرأ فصول الأناجيل كل فصل في ميعاده، كذلك نتلو هذين الفصلين، لأنهما تحدثا عن آلامه. فهذه هي موضع اهتمامنا الآن، ونحن نريد أن نجمع ونتأمل كل ما قيل عنها. ولما كانت رسائل الكاثوليكون خالية من الحديث عنها حديثاً مباشراً تفصيلياً، فإننا لا نقرأ منها شيئاً.

وحينما يجيء ميعاد تلاوة قانون الإيمان، تتلوه الكنيسة حتى “…وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء وتأنس”، ثم يكملونه ابتداء من “نعم نؤمن بالروح القدس”.

أما النصوص الخاصة بصلبه عنا على عهد بيلاطس البنطي، وتألمه وقبره وقيامته من الأموات في اليوم الثالث وصعوده إلى السموات، ومجيئه الثاني ليدين الأحياء والأموات… فكل هذا لا يتلى لأنه لم يتم بعد.

ثم يبدأ القداس. وأول صلاة فيه هي صلاة الصلح، ولكن الصلح لم يكن قد تم بعد، فلا تتلى هذه الصلاة. كذلك الإسبازموس الذي يعقبها، لا ترنمه الكنيسة، لأنه يحوي بشرى الميلاد، ونحن نذكر آلامه.

وإذا تقدمنا في صلوات القداس، نرى الكنيسة تدخل تعديلاً دقيقاً آخر. إن قداستنا هي هبة منه. إنها أتت إلينا بدمه الذي جعلنا شركاء لطبيعته الإلهية… ولم يكن هذا الدم قد سُفك بعد. إذن نوقف تلاوة “مجمع الآباء القديسين” لأنه بدون آلامه، ما كان يمكن أن تكون قداسة أو قديسون.

ولقد أعدت الكنيسة في هذا اليوم صلاة قسمة خاصة، تروي فيها تقدمة إبراهيم لابنه إسحق ذبيحة، لأن ذبح إسحق كان إشارة إلى ذبح المسيح ابن الله على الصليب عن خلاص العالم. وكما حمل إسحق حطب المحرقة، كذلك حمل المسيح خشبة الصليب. وكما رجع إسحق حياً، هكذا أيضاً المسيح قام حياً من الأموات، وظهر لتلاميذه القديسين.

وفي هذا اليوم تمنع الكنيسة التقبيل منعاً باتاً، لأن يهوذا سلَّم سيده بقبلة.

ولا ترنم الكنيسة في هذا اليوم المزمور ١٥٠، الذي ترنمه عادة عند تناول الأسرار المقدسة.

وبانتهاء القداس، تُقفَل الهياكل، وترجع الكنيسة من جديد، تتبع الرب وهو خارج من أورشليم، في طريقه إلى الجلجثة…

 الجمعة العظيمة: قد أكمل

«ثم سَبَّحُوا بَعْدَ الْعَشَاءِ وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ». وهوذا بطرس يتقدم: “ولو شك فيك الجميع، فأنا لا أشك”. ولكن الرب العارف بضعفات البشر يذكر الحقيقة. لم يعرف أحد الإنسان مثل ما عرفه هو. ثم تتوالى الأحداث سريعة سريعة، وابن الله يساق للصلب، ونحن نتبعه هنا أيضاً.. وطوبى للنفس القوية، التي تستطيع أن تسهر معه. فلنخرج معه في الساعة الثالثة من ليلة الجمعة (العاشرة مساء) إلى الجسمانية، وهناك نقترب منه، ولنسهر معه.. نشاهده في جهاده حينما يحمل كل خطايا العالم، ويشرب الكأس، ويسلِّم للأب.. ونتهمس في خشوع: “لك القوة.. والمجد”.

وهوذا يهوذا يقترب، ويخرج الحمل ليقابل من خرجوا كما على لص. ويتقدم صاحب المجد والجبروت يسألهم: “من تطلبون؟” ويسقط الجميع أمامه. ثم يتقدم مسلِّمه: “السلام يا معلم”. ويقبله.. ويساق ابن الله مقيداً. إنهم يتبعونه من بعيد، ولكن لنقترب إليه.. وعلى كل أصوات الجمع الذي يحيط به تترفع أصواتنا عالية: “لك القوة، والمجد، والعزة والبركة…”

وفي الثالثة صباحاً يساق أمام رئيس الكهنة، ويُلطَم هناك من عبد، ويبصقون في وجهه، وحتى بطرس ينكره.

وباكراً في النهار يؤخذ إلى بيلاطس.

الصلب

ويطلب الجموع باراباس، فيجلد يسوع، ويخرج حاملاً صليبه – بل صليبي الذي حمله عني- وكشاة صامتة لم يفتح فاه. وتشتت الجميع. ولكننا نتبعه في تقدير عميق وخشوع.

وتُعرى المذابح طيلة هذا اليوم من ملابسها، لأن ابن الله معرى. وتبدو الكنيسة في حلة الحزن العميق. لأن سيدنا حزين، وتُعلَّق صورة المسيح المصلوب واضحة في صدرها.

وفي الساعة الثالثة من النهار (التاسعة) يُرفع الرب على خشبة الصليب يحيط به لصان. ونقف حوله، بدلاً من أولئك الجنود ورؤساء الكهنة نعطيه المجد والعزة.

وفي منتصف النهار، نسمع القديس بولس ينادي: “حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح”. فنخاطب المصلوب قائلين: “يا من في اليوم السادس.. سمرت على الصليب.. مزق صك خطايانا..”. ثم “قدوس الله قدوس القوي” (أجيوس)، ولكن لا يذكر فيها إلا صلبه. ويتلى المزمور والإنجيل، وحينما يقول: “وكانت ظلمة عظيمة على الأرض”، تطفأ الأنوار في الكنيسة لأنه من الساعة السادسة إلى التاسعة كانت ظلمة على الأرض. ثم تُتلى أمانة اللص اليمين: “اذكرني يارب إذا جئت في ملكوتك”. ثم تبدأ صلاة الساعة التاسعة، فتقرأ النبوات وتسبحة البصخة، ويُرفع البخور، ثم البولس. وقطع الساعة التاسعة: “يا من ذاق الموت بالجسد في وقت الساعة التاسعة، أمت حواسنا الجسمانية”. ثم يقرأ الإنجيل، وتوقد القناديل إشارة إلى زوال الظلمة.

وأخيراً.. بعد أن شرب المر والخل، وبعد أن حمل قصاص الإنسان، نادى يسوع بصوت عظيم: «قد أُكْمِل».. وأسلم الروح. ونقف خاشعين بجوار صليبه.. ياسيد، إننا نذكر عملك من أجلنا مقدرين.. هوذا من الآن وإلى كل الدهور لن نفتر عن أن نقول: لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد.. وفي الساعة الحادية عشرة من النهار (الخامسة مساء) انشق حجاب الهيكل، وطُعن يسوع في جنبه فجرى منه دم وماء. وتبدأ الكنيسة بعد ذلك الصلاة الأخيرة من هذا اليوم، نودع بها ربها وإلهها إذ تذكر تنزله للقبر. ويقف الشعب جميعه يطلبون الرحمة من ذاك الذي قدم نفسه من أجلهم، يسجدون في كل جهة يطلبونها بلجاجة من أعماق قلوبهم من جهات الكنيسة مائة مرة. وهنا مجال لكل النفوس، كي تسكب أمام الرب سكيباً. نعم.. وتضع أمامه – في انسحاق وفي تسليم – كل شيء، وليس هناك إلا طلب واحد: “يارب ارحم…”.

ويذكر المؤمن نفسه، وإخوته، ومن يحبهم، ومن يحبونه، ومن لا يحبونه، من يعرفهم، ومن لا يعرفهم، ومن لا يعرفونه…

يذكر العالم كله أمام الإله الذي صلب من أجل العالم، كي يرحمه.

وحين تفرغ النفس من كل هذا وهي مستمرة في سجود وفي طلب للرحمة، لا تجد أمامها إلا طلباً واحداً، تذكره بكل لجاجة، تجد فيه كل الرحمة وكل العزاء.. أن تحمل صليبها، وتتبعه. تعيش كل حياتها من أجله… وتسجد وتسجد، وتكرر: “يارب ارحم”. هذا هو يارب سؤل قلبي.. وبه يكمل كل ما أريد. وننتبه على قرع الدف… إنهم يطوفون بصورة السيد في الكنيسة، مكرمين إياه، معلنين عمله.. ثم يدخلون إلى الهيكل، ويحيطون الصورة بالورد كما فعل يوسف الرامي، ويلفونها بالستور.. ويقف شماس بجوار المذبح… حتى يأتي يوم الأحد، يبشرنا بالقيامة..

خاتمة

تستطيع أن تلخص أسبوع الآلام هكذا: إننا نتبع الرب خطوة خطوة، نقدم له كل عواطفنا، مقدرين عمله، نذكره بكل إجلال. هذه الأيام مدرسة للقلب، يرتقي فيها ويشارك السيد أعمق أعماله، ويتعلم منه رسالته الخالدة.

“المسيح – كعظيم رحمته – مخلصنا جاء وتألم عنا لكي بآلامه يخلصنا.
فلنمجدده ونرفع اسمه لأنه صنع معنا رحمة”.

 معنى كلمة العشاء السري، أن الرب أظهر السر الخفي منذ الدهور؛ وهناك قطعة يونانية في صلوات هذا اليوم تبين لنا هذا المعنى. وهذا نصها: “في عشائك السري يا ابن الله، اقبلني شريكاً، لأني لست مثل أعدائك أتكلم سراً، ولا أعطيك قبلة مثل يهوذا، بل مثل اللص اليمين أعترف لك: اذكرني يارب إذا جئت في ملكوتك”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى