الأساطير اليونانية الرومانية فى الفن القبطى
دخلت المسيحية أرض مصر على يد الرسول مرقس، وهو أول من أكرز بالانجيل حوالى منتصف القرن الأول الميلادى فى مدينة الأسكندرية.
ولم يكن الطريق أمامه لبث دعوته سهلاً بل كان شائكاً محفوفاً بالمخاطر وكانت مصر وقتئذ تزرح تحت عبء العقائد اليونانية الرومانية الوثنية والبلاد مليئة بالآثار الخاصة بذلك العصر. وأن الأسكندرية عاصمة ملوك اليونان وأباطرة الرومان كانت المركز الأساسي الذي نما وترعرع فيه الفن الوثنى والذى أطلق عليه أيضا الفن الأسكندرى . وكان لزاما على الرسول مرقس واتباعه فيا بعد أن يصارعوا في سبيل نشر الديانة المسيحية والعمل على تقويض أساس الديانة الوثنية وآثارها من جذورها.
وبالرغم من انتشار المسيحية منذ أواخر القرن الرابع الميلادى، إلا أن رجال الفن كانوا متأثرين فى أغلب أعمالهم الفنية بالطابع الهللينستي إلى حد كبير. وكثيرا ما كانوا يقلدون المناظر التي كانت تقع تحت بصرهم من فنون العصر الوثني. خصوصاً فى فجر العصر القبطى. وعلى ذلك تجلت على آثاره مناظر عديدة بعضها أسطورية وبعضها خليعة ذات صفة وثيقة بالفن الأسكندري الوثنى الذى زخرت به مدينة الأسكندرية. وقد كان فناً عريقاً تظهر عليه دلائل الترف، ويستمد أصوله من الفن الوثنى الواقعى الهلينستي فيما بين القرنين الثالث والرابع للميلاد. كما كانت موضوعات ذلك الفن سارة بهيجة تثير الإعجاب وتأخذ بالألباب وتروق للناظرين.
والسبب الجوهرى الذى حمل رجال الفن فى العصر القبطى المبكر على تصوير النماذج والأساطير الوثنية في منحوتاتهم ونقشها على لوحاتهم الخشبية والأوانى المعدنية وكذلك رسمها على زخارف النسيج على اختلاف أنواعه، يرجع إلى تأثرهم الشديد بما حولهم من فنون العصر اليونانى الرومانى إذ أنهم وجدوا في صوره ومناظره الخلابة منهلاً عذباً يرجعون إليه فى زخرفة الكرانيش وأفاريز المباني والعمائر المختلفة وكذلك فى أعمال نقوش أعالى الشرفات وغيرها . كما أن الفنانين في ذلك الزمن المبكر من المسيحية لم يكونوا قد فطنوا بعد إلى فهم المبادئ المسيحية فهماً تاماً. تلك المبادئ والعقائد التي كانوا فى أول عهدهم بها وبتعاليمها ومازال أثر الوثنية باقياً وراسخاً تحت بصرهم في البلاد
ونظراً لأنهم كانوا حديثي العهد بالدين الجديد لم يعلموا مثلا أن الديانة المسيحية تنفر من المناظر الخليعة ولا تقرها . كما أن الصور العارية لا تروق في نظرها وتندد بها – فلما عم انتشار المسيحية وجاء قرار الأمبراطور ثيودوسيوس المذكر بإزالة الدين الوثنى وتحطيم آثاره وأصنامه من البلاد وتعمق القوم في فهم أصول الديانة المسيحية ومبادئها. وشرع رجال الفن فى العمل على تغيير نقوشهم ورسومهم وظهر فيها التطور تدريجيا وبدأت تتخذ من أول الأمر حلا وسطا بين الوثنية والمسيحية.
ومن الآثار التي ترجع إلى فجر العصر القبطى والتي زخرت نقوشها ورسومها بكثير من المناظر الأسطورية المستمدة من الخرافات اليوناية الرومانية ما عثر عليه بصفة خاصة في الإسكندرية ومدينتي اهناسيا والبهنسة ثم في بلدة أنطونوه وغيرها. ويمكن مشاهدة تلك المناظر ذوات الطابع الهللينستى والقصص الخرافية ممثلة تمثيلا مجسما رائعا على المنحوتات الحجرية المعروضة في قاعة أهناسيا بالمتحف القبطى ومنها ما يأتي:
1- قصة سرس Ceres وهى ممثلة على أفريز مستطيل من الحجر الجيرى، وسرس هى إلهة الزراعة عند اليونان، وهى أبنة « سترن وسبيلا » وتشاهد وهى تحمل باقة من الأزهار في إحدى يديها وترفع قناعها بالأخرى. وهى فى وضع نصفى الشكل يحوطه أكليل نباتى يحمله جنيتان طائرتان وتحتها سلتان واحدة منها مملؤة بالفاكهة لعلها التفاح والأخرى بالأزهار.
2 – قصة « أرفيوس Orpheus » – وهي ممثلة على أحدى القطع الحجرية والنسيج ومضمونها أن أرفيوس هو ابن الأله «أبولو وزوجته أيروديس Erydise» كانت حورية من فتيات البحر – وكان يحبها إلى درجة العبادة إلا أنها ماتت بلدغة ثعبان . فحزن عليها حزنا شديداً ، وحاول جهده أن يستردها من
الهاوية حيث الإله بلوتو Bluto الذى فرض عليه شروطا في سبيل عودتها ولكن إخلاله بها حرمه من رجوعها إليه إلى الأبد. فهام على وجهه حزينا إلى الغابات حيث الوحوش الضاربة وهو يندب حظه العاثر وينشد على قيثارته السحرية نعمات الحزن وأغانى الألم. وهو يصور عادة وهو جالس يحمل آلته الموسيقيه وهو يعزف عليها. وأحيانا تحوطه مجموعة من الآدميين والحيوانات وعلى الأخص الأسد. وقد تغنى به الأدباء فى اشعارهم أمثال شكسبير وبوب وملتون كما قيل إن الطبيعة بأثرها وما حوت من كافة المخلوقات كانت تتأثر من روعة موسيقاه وأناشيده الشجية.
3 – إله النيل : وهو معروف عند الفراعنة من قبل باسم « حابي Hapi » وقد ظهرت صورته على الآثار القبطية المبكرة عن شكل نصفى لأدمى ذى الحبة وحوله أحيانا مناظر فتيان صغار عراة يقدمون إليه الهدايا كما نجد أيضا على مقربة منه أشبه بطائر مائى لعله لبطة ثم أشكالا نباتيه حوله.
4- الإلهة جايا Gaea: وهى معروفه أيضا فى العصر الفرعونى باسم “جب” وهي ترمز إلى إلهة الأرض السابق ذكرها جايا وتظهر فى النقوش على هيئة غادة نصفية الصورة وتتزين ببعض الحلى والعقود ثم تحمل بكلتا يديها ما هو أشبه سلة تزخر بثمار الأرض ونباتاتها المختلفة من خيراتها وعلى الأخص الفاكهة.
ومن طريف القطع الأثرية من القماش ما تتمثل عليه الرسوم الرائعة التي توضح في ناحية شكلا نصفيا لإله النيل. وكتب عليه اسمه باليونانية، كما رسم على ناحية شكلا نصفيا لإله النيل، وكتب عليه اسمه باليونانية. كما رسم على الناحية الأخرى شكل نصفى للألهة «جايا» رمزاً للأرض وكتب بجوارها الأسم بالاحرف اليونانية أيضا، وهذه القطعة الفريدة من العصر القبطى المبكر ولعلها صنعت في بلدة «أنطونوه» اشهر بلدان مصر العليا بأفخر أنواع النسيج الرائع بمصر العليا. والقطعة المذكورة النادرة محفوظة الآن في متحف «هرمتاج» بالروسيا.
5- قصة هرقل والأسد: وهو من أبطال اليونان الخالدين. ويقال إنه صارع الأسد الذى كان من اشرس الأسود التي عانت منها ومن شرها اليونان فصرعها ويمثل هذا البطل عادة على الآثار القبطية المبكرة على الحجز وأحياناً على القماش وهو يناضل الأسد. وترسم أحيانا على مقربه منه سيدة لعلها تمثل الإلهة «أثينا» وهى تحمل أكليلا من الغار لتقدمه إلى هرقل رمزا للجرأة والشجاعة والنصر.
6- أسطورة «دافني Daphne»: وهى غادة من عرائس البحر وأبنة إله النهر «بنيوس» ويروى أن الإله «أبولو Apollo» قابلها في غابة وافتتن بجمالها الرائع وأراد اللحاق بها فذعرت منه وفرت وهو يلاحقها حتى إلى شاطئ النهر حيث صرخت لتنادى أباها ليقيها من «ابولو» وقد استجاب والدها إلى توسل ابنته فتحولت ساقاها إلى جذع شجرة لم يلبث أن تفرعت منه الأغصان والأوراق من بين ذراعيها وشعرها ثم اكتسى جسدها المرتعد بلحية من القشرة الرمادية اللون، تم تحولت إلى شجرة من الغار الذى تصنع منه الأكاليل – ولما قرب منها الأله أبولو ليحتضنها بين ذراعيه لم يجد إلا جزعا لشجرة خشنة الملمس ولم يدر أن الغادة المذكورة قد تحولت أمامه إلى الأبد.
وفى هذه القصة يرمز أبولو إلى الشمس وترمز «دافني» إلى الندى وأن جمال الندى يفتن جمال الشمس التى تتوق لرؤية جماله عن قرب ولكن الندى خوفا من وهجها الملتهب سرعان ما يهرب عندما تلمسه أشعة الشمس إلى أن يتلاشى تاركا الخضرة فى نفس المكان الذي تحول فيه.
7 – قصة «أوربا والثور» يشاهد تمثيل تلك الأسطورة على كتلة من الحجر، وموضوعها هو أن أوربا Europa هذه هى أبنة ملك فينيفيا، ويروى عنها أنها ذهبت ذات يوم مع أترابها من صغار الفتيات إلى أحدى حدائق أبيها لقطف الأزهار وجمعها، وفجأة رأت ثورا أبيض اللون وديعا يقترب منها في هدوء ولطف يستلفت الأنظار، فأخذت تداعبه وتطوقه بأكاليل الزهور ثم أنحنى أمامها كأنه يدعوها إلى امتطائه فتقدمت إليه وصعدت فوق ظهره، وسرعان ما أنطلق بها سريعا. وهذا الثور هو كبير الآلهة « زيوس Zeus )»وقد تقمص في الشكل المذكور حيث أتى بها إلى جزيرة كريت وهناك اتخذها زوجة له.
8- قصة ديوينسوس Dionysus وهو يعرف باسم «باکوس Baschus » رمز إله الخمر وهو من أولاد كبير الآلهة «زيوس» ويعتبر رئيس الكرامين ومخرجي النبيذ و شاربيه كذلك، ويمثل على منحوتات الآثار القبطية على هيئة شخص ثمل ويتكئ على كنف صبى من الجان وفى يده كأس، وأحيانا يصور وهو واقف بين الكروم وتراه متوجاً بها وتتدلى من خلالها عناقيد العنب – ومناظر الكروم واغصانه من الموضوعات المألوفة والتى لها صفة التقديس سواء فى العصر المصرى القديم أو اليونانى الرومانى أو المسيحي.
وأحيانا يظهر ديونيسيوس على رسوم النسيج وهو يركب عربة تجرها مجموعة من حيوانات الفهود الضارية.
9 – «القنطور Centaur» وهو يمثل فى الأساطير اليونانية الرومانية ذلك المخلوق الخرافي الذي يظهر نصفه الأعلى بوجه أدمى وبقية الجسم على شكل جواد، وقيل عنه أنه يمتاز بقوة خارقة في الصراع والقنال – ومن الغريب أننا كثيرا ما نشاهد رسم القنطور هذا في المناظر التي تمثل حياة القديس انطونيوس أبي الرهبان، إذ يروى أن ذلك المخلوق ظهر للقديس فى الصحراء. وأشار إليه عن الطريق الذي أوصله وهداه إلى مكان زعيم النساك الأنبا بولا في البرية.
10 – « أفروديت Aphrodite»: وهى إلهة الحب والجمال، ويروى عنها أنها وليدة الزبد وأنها خرجت من الماء وتمثل دائما على شكل غادة عارية تتربع وسط قوقعة أو واقفة أمامها وأحيانا وسطها بين أمواج البحر وعلى مقربة منها أحد أتباعها وتتحلى بقلادة حول عنقها.
11- وفى المناظر التى زخرت بها أفاريز وشرفات المتحف من آثار العصر القبطى المبكر أيضا نقوش ورسوم تمثل أطفالا عراة وهي ترمز إلى آلهة الحب والتي تعرف في الأساطير اليونانية باسم «أيروس Eros» والرومانية باسم «كيوبيد Cupid». وأحيانا تشاهد وهى تحمل طيورا كالبط أو البجع أو الأسماك.
12- ثم نشاهد أشكال حوريات بحرية عارية وهن يمتطين ظهور حيوانات غريبة من الوحوش البحرية أو أسماك ضخمة أو درافيل أحياناً.
وحوالى منتصف القرن الخامس الميلادى تقريبا ظهرت بوادر التحول في نقوش ورسوم الفن القبطى فشوهدت على كثير من القطع الأثرية مناظر زخرفية هي عبارة عن خليط من الرموز المسيحية إلى جانب الأثر الوثنى. ثم سارت في طريق التطور إلى أن أخذت الصور الوثنية فى الزوال وأفسحت المجال للنقوش والرموز المسيحية البحثة التي انتشرت وعمت الفن القبطى فيما بعد. وكان ذلك بسبب تحريم رهبان القبط ورجال الفن منهم الاقتباس من الفن الأسكندرى الوثنى عند تزيين مبانيهم وكنائسهم كما كانوا يفعلون من قبل ووجهوا أنظارهم إلى الفن البيزنطى واقتبسوا من نماذجه ذلك لأنه نبع من البلاد المقدسة التي ولد فيها السيد المسيح والتي انتشرت فيها الرهبنة وقتئذ .
أما ما حدث للأسكندرية وفنونها فقد اعتبرها المسيحيون أنها وطن ورمز للروح والأفكار الهلينستية وملجأ للوثنية: وعلى ذلك بدأ الرهبان القبط ورجال الدين المسيحى منذ القرن الخامس للميلاد في تشييد كنائسهم وتزيينها بالصور والرسوم المسيحية البيزنطية وهجروا الفن الأسكندرى الموصوم بالروح الوثنية وشرعوا في تقليد الفنى البيزنطي.
وبالرغم من كره القيط الشديد وعلى الأخص الرهبان منهم للفن اليونانى الرومانى الذى اعتبروه مرادفا للوثنية البغيضة. وبالرغم من أنهم أزالوا الكثير من آثار هذا العصر ومعابده. الا أن الفنون الفرعية الآخرى في مصر ظلت تقتبس الكثير من رسوم الفن الأسكندرى وصوره وظل التأثير الفنى لعاصمة مصر العظيمة ملحوظا في صناعات النسيج والنحاس المزخرف وغيرها حتى في العصور المتأخرة في العصر القبطى.
هذا ومن حسنات ومميزات الفن الأسكندرى الهامة أنه وهب للفن القبطى طابعاً قيماً وهو فن التصوير الرمزى والمجازي الذي شاع استعماله في جميع الكنائس الشرقية حتى القرن الرابع الميلادى ثم استبدل به فيا بعد التصوير التاريخي المقتبس من الكتب المقدسة
د . رءوف حبيب المدير الأسبق للمتحف القبطى